تعليقا على الجدل المحتدم عما إذا كان العصيان المدني، الذي كانت بعض القوى الثورية المصرية قد دعت إليه منذ عدة أسابيع قد نجح أم فشل، فإنني أخصص هذا المقال للموضوع. كان مركز ابن خلدون قد دعا في السنوات العشر الأخيرة من حكم حسني مبارك إلى "العصيان المدني" كوسيلة ضغط سلمية لنزع شرعية النظام. ومارسناه عمليا في بعض قرى ومدن محافظة الدقهلية منذ عام 2005. ولم يكن هذا المصطلح متداولا في ذلك الوقت، لا في اللغة السياسية، ولا في الممارسات الاحتجاجية للأحزاب والقوى الشعبية. هذا رغم أن مصر والمصريين عرفوا ومارسوا العصيان المدني قبل كثيرين في العالم مثل المهاتما غاندي في الهند، ومارتن لوثر كينج في الولاياتالمتحدة، في ثلاثينات وستينات القرن الماضي على التوالي. صحيح أن غاندي هو الذي أضفى على هذا المصطلح قوة وذيوعا، بعد أن أصّل له نظريا وفلسفيا، وبعد أن نجح في إقناع ملايين الهنود بممارسته في مقاومة الاحتلال البريطاني للهند، وإجباره على الجلاء عن بلاده، عام 1947. والترجمة الهندوكية لمصطلح العصيان المدني هو "ساتيا جراها" (Satya graha)، ومعناها "التفوق الروحي". وطبقا لتعاليم غاندي فإن الجانب الذي على حق، حتى لو كان ضعيف ماديا، يستطيع أن ينتصر على الطرف الظالم، حتى لو كان هذا الأخير أقوى منه ماديا (سلاحا وعتادا ومالا). ويتطلب الأخذ بهذا المنهج انضباطا نفسيا شديدا، وصبرا طويلا. وقد كان على المهاتما غاندي لكي يقنع الآخرين من أبناء شعبه الهنود، هو أن يبدأ بنفسه. من ذلك أنه مع بداية الاحتلال البريطاني، أدرك أن إحدى آليات هذا الاحتلال في استغلال بني وطنه، هو شراء الأقطان من المُزارعين الهنود بأبخس الأسعار، ثم تصديرها إلى بريطانيا حيث يتم غزلها، وتصنيعها إلى نسيج، يعاد تصديره إلى الهند، ليباع إلى الهنود بأسعار مضاعفة، وتجني بريطانيا من وراء ذلك أرباحا طائلة، وأن ذلك أحد الأسباب الرئيسية للتمسك باحتلال الهند. فما كان من غاندي إلا الدعوة إلى مقاطعة المنسوجات المستوردة من بريطانيا، والقيام بغزل القطن مباشرة، ونسجه مباشرة في الهند. وكانت صورة غاندي، وهو يمسك مغزلا يدويا بدائيا، هي أحد رموز المقاومة الروحية الساتيا جراها. ونجحت الحملة، وتأثرت مصانع النسيج الإنجليزية، وأصابها الكساد. لقد كانت مقاطعة الواردات البريطانية، هي إحدى صور المقاومة، وبنجاحها، انتقل غاندي وأنصاره الذين كانوا يتكاثرون، إلى مقاطعة "الملح" المستورد من بريطانيا، والاستعاضة عنه بتجفيف مياه المحيط الهندي في أواني فخارية مسطحة، بتعريضها للشمس حتى يتبخر الماء، تاركا وراءه في قاع هذه الأواني أملاحا، استخدمها الهنود كبدائل للملح المستورد من إنجلترا. وهكذا كان ذهن غاندي يتفق على إبداع بعد الآخر لتعويد بني وطنه على الإضرار بالمصالح البريطانية في الهند، دون استخدام العنف، أو إراقة نقطة دماء واحدة. كان هذا هو سلاح المقاطعة. وهو جزء لا يتجزأ من العصيان المدني. وكان نجاح سلاح المقاطعة حافزا للتطوير إلى مستوى آخر، وهو خرق القوانين التي سنها البريطانيون لمنع الهنود من التنظيم والتظاهر في الميادين العامة للمدن الهندية. واعتبر غاندي أن المقصود بذلك هو حصار أنشطة الحزب الذي كان قد أسسه مع عدد من أنصاره في مقدمتهم نهرو، ومحمد على جناح، وهو حزب المؤتمر. ولذلك اعتبروا هذه القوانين ظالمة، ولا ينبغي طاعتها أو الامتثال لها. فبدأ الثلاثي المهاتما غاندي، ونهرو ، ومحمد علي جناح، يخرقون هذه القوانين. فيتم القبض عليهم، ومحاكمتهم، وإيداعهم السجون.. وهم لا يقاومون، بل ويذهبون طواعية إلى السجون. وبمجرد سريان حبس غاندي ورفاقه، بدأ عشرات، ثم مئات، ثم آلاف الهنود يخرقون نفس القوانين الظالمة، ويتم القبض عليهم وحبسهم. ولكن حينما وصلت أعداد المتظاهرين إلى مئات الآلاف، أسقط في يد سلطات الاحتلال البريطاني. فالسجون لم تكن بالحجم أو الكفاءة لإيواء الأعداد المتضخمة، حتى بعد استخدام المدارس والأبنية الحكومية الأخرى. ولأن سلطة الاحتلال، كانت ملزمة طبقا للمواثيق الدولية بإعاشة هؤلاء المساجين، وتقديم الرعاية الصحية الأولية لهم، فقد تصاعدت تكاليف فض المظاهرات، وميزانيات السجون تصاعدا فلكيا. وأصبحت هذه التكاليف متساوية مع عوائد استغلال الاحتلال البريطاني لموارد شبه القارة الهندية. هذا فضلا عن استيقاظ الوعي بحق تقرير المصير، الذي كان الحلفاء قد رفعوه أثناء الحرب العالمية الثانية لتعبئة الرأي العام ضد النازية الألمانية، والفاشية الإيطالية. كما أن آلاف الطلبة الهنود الذين كانوا يدرسون في بريطانيا، وظفوا هوامش الحرية المتاحة لهم في استمالة الرأي العام البريطاني لتأييد مطالب الهنود في الاستقلال. وهو ما أذعنت له الحكومة البريطانية، أخيرا، عام 1947. وهكذا، تطور الاحتجاج إلى مقاطعة، إلى عصيان مدني، أسقط الاحتلال البريطاني للهند. والجدير بالذكر، وهو غير معروف لمعظم المصريين، هو أن غاندي، صاحب فلسفة العصيان المدني، كان قد توقف في مصر، أثناء إحدى رحلاته من بريطانيا إلى الهند، مرورا بقناة السويس، بعد ثورة 1919، وحاول الالتقاء بسعد زغلول. ولأنه لم يكن قد ذاع صيته بعد، فإن أقصى ما حظي به كان لقاء بعض أصحاب سعد زغلول من شباب الوفد. ويقول غاندي في بعض رسائله أنه كان منبهرا بقدرة سعد زغلول وحزب الوفد على توحيد المسلمين والأقباط تحت شعار "الدين لله والوطن للجميع". وأنه اقتدى بكثير مما تعلمه عن ثورة 1919 للتغلب على السياسة البريطانية العتيدة "فرق تسد Divide and Rule". وكما نهج غاندي نهج سعد زغلول، فإن داعية الحقوق المدنية، الأمريكي، مارتن لوثر كينج، قد اقتفى طريق غاندي. ولم يكن النجاح حليف أي منهم في البداية. ولكن بالمثابرة وطول النفس كان النجاح حليفهم جميعا في النهاية. بل إن ثورة 25 يناير المجيدة تعتبر نموذجا فذا على العصيان المدني. فقد كان احتجاج الشباب سلميا من بدايته إلى أن أسقط الرئيس حسني مبارك في الحادي عشر من فبراير 2011. ولم يطلق ملايين الشباب، ومن التحق بهم من الكبار طلقة نارية واحدة. ولكن زبانية النظام هم الذين استخدموا العنف وأطلقوا عليهم الرصاص، وقتلوا منهم المئات وجرحوا منهم الآلاف، في الوقت الذي ظل فيه المتظاهرين يرددون أحد شعاراتهم الأثيرة "سلمية.. سلمية"! فالمصريون، والأمر كذلك، مارسوا العصيان المدني بداية بثورة 1919، وانتهاء بثورة 2011، سواء استخدم الأولون منهم أو التابعون هذا المصطلح أو لم يستخدموه في حينه. أي أن المصريين من أوائل من مارسوا العصيان المدني، على امتداد ما يقرب من مائة عام. فليتمسكوا بهذا المنهج الأكثر تحضرا في النضال ضد الاستبداد والفساد والطغيان. فهو بضاعتهم ردت إليهم. وعلى الله التوفيق