هناك من الرجال من يكون الموت هو آخر ما يخطر على بالهم، بيوتهم كهوف ومغارات ، هوياتهم ضائعة، لكنهم فرضوها على العالم بأسره عندما رفعوا شعار: هويتي بندقيتي. هناك رجال قادرون على الفرح في عتمة الليل.. قادرون على تركيب الوطن حجرا على حجر كأننا ندخل في النشيد الحافي أو نخرج منه واضحين على طريق واضح وحاد. هناك رجال حملوا شعلة الأمل وأضاؤوا ليل الأمة القاتم وقرروا. أن يموتوا رجالاً ولا يركعوا، فأضاؤوا ليل الأمة المظلم.. لكن على الجانب الآخر هناك رجال همهم الأول والأخير هو القضاء على تلك الكهوف والمغارات والهوية من خلال تصفيات جسدية أضحت عارا على جبين تاريخ الدول على وجه الأرض، معتمدين على تلك القاعدة التي تقول: إذا عجز اللسان عن الكلام وضاق الصدر بالصبر .. نطق سلاح الغدر وغاب عن العقل رشده، إنه حل بسيط يدل على العجز الفكري لإثبات خطأ فكرة الخصم...والغريب أن تلك الجماعات القاتلة التي قامت بالتصفية تخرج لتعلن أسفها الشديد، ثم لا تلبث أن تعيد الكرة مرات ومرات.. إنها ببساطة تصفيات واغتيالات تفعلها المخابرات في أبناء وطنها سرا وعلانية، وتفعلها الدولة في اعدائها وخصومها السياسيين كتابا ومفكرين ورجالات علم وسياسة، بغية إرهاب أنصار الضحية وإسكاتهم، أو توجيه رسالة إلى الآخرين بأن يد الانتقام طويلة.. إنها ببساطة الإغتيالات السياسية.. الزعيم غاندي كان تعاقده مع المؤسسة الهندية لمدة عام قابلة للتمديد إن رغب، وقد رغب في مغادرة جنوب إفريقيا، لكنّ حادثة شهيرة وقعت جعلته يصمّم على البقاء للدفاع عن حقوق الهنود هناك، فقد أعلنت حكومة جنوب إفريقيا نيتها إصدار تشريع يحظر حق الاقتراع العام على الهنود، الذين كانوا يفتقرون إلى القيادة القوية، وكان ذلك الأمر إيذاناً ببدء كفاح غاندي غير العنيف في مواجهة السلطة البيضاء العنصرية. فبدأ كفاحه السلمي بتحرير آلاف العرائض وتوجيهها إلى السلطة البيضاء في جنوب إفريقيا وتنظيم «المؤتمر الهندي» في «الناتال» وتأسيس صحيفة الرأي الهندية وإقامة مستعمرة فينكيس الزراعية قرب «دوربان» في العام 1904، الشيء الذي أدى إلى إصابة المدن الصناعية هناك بالشلل نتيجة انسحاب آلاف العمال الهنود من المدن الرئيسية والانخراط في تلك المؤسسة التي مكنت غاندي من النصر وتحقيق الحياة الكريمة وضمان كرامة الهنود في جنوب إفريقيا وحقوقهم بعد عشرين عاما من الكفاح. عاد غاندي إلى الهند في يوليوز 1914 ليصبح الزعيم الأكثر شعبية هناك في غضون سنوات قليلة جدا، مرّكزا عمله العام على النضال والثورة ضد الظلم الاجتماعي من جهة والاستعمار البريطاني من جهة أخرى، جاعلا من مشاكل الفلاحين والعمال المنبوذين مهمته الرئيسية، بغية تحقيق أمة هندية تسعى إلى تحقيق الحرية والاستقلال والخلاص من الظلم الاستعمار، داعيا إلى سياسة عدم التعاون مع البريطانيين احتجاجا على القوانين التي فرضتها بريطانيا، التي اعتبرت إجحافا في حق الهنود (قانون السجن بدون محاكمة 1919، قانون التمييز في الانتخابات 1932)، ليقرر غاندي حينها الصيام حتى الموت احتجاجا على تلك القوانين، الشيء الذي دفع بزعماء السياسة والدين إلى التفاوض للتوصل إلى «اتفاقية بونا»، التي قضت بزيادة عدد النواب المنبوذين وإلغاء نظام التمييز الانتخابي. مواقف سياسية بدأت مواقف غاندي من الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية في عمومها (التي اتسمت بالصلابة المبدئية التي لا تلغي أحيانا المرونة التكتيكية وتنقله بين المواقف القومية المتصلبة والتسويات المرحلية المهادنة) تشكل حرجا لخصومه ومؤيديه أحيانا إلى حد التخوين والطعن في مصداقية نضاله الوطني من قبل المعارضين لأسلوبه، (على سبيل المثال تعاون غاندي مع بريطانيا في الحرب العالمية الأولى ضد دول المحور وشارك في عام 1918 بناء على طلب الحاكم البريطاني في الهند بمؤتمر دلهي الحربي، ثم انتقل للمعارضة المباشرة للسياسة البريطانية بين عامي 1918 و1922 وطالب خلال تلك الفترة بالاستقلال التام للهند)، الشيء الذي دفعه إلى تحدي الوجود البريطاني والتصدي لقوانينه لإثبات وطنيته وغيرته على بلده من خلال الدعوة إلى تصعيد حركة العصيان المدني، التي قادها عام 1922 والتي لم تدم طويلا بعد دعوته إلى إيقافها نتيجة الصدامات الكبرى بين الجماهير والسلطات البريطانية، تلك الحركة التي كان من آثارها إلقاء القبض على غاندي ووضعه في السجن لمدة ست سنوات لتفرج عنه قبل انقضاء المدة في العام 1924، بعد إصابته بالزائدة الدودية وتخوف السلطات البريطانية من موته داخل السجن. خرج غاندي من السجن على أصوات مؤيديه ومناصريه ودعواته لحركة المحاربين بقوة الحق ضد الضرائب المتزايدة في الهند، خاصة تلك التي فرضتها السلطات البريطانية على الملح، الذي يعتبر من أساسيات المواطن الهندي كالماء والكهرباء، خاصة في فصل الصيف، هنا تحدى غاندي القوانين البريطانية التي تحصر استخراج الملح بالسلطات البريطانية، وقاد مسيرة شعبية متجها بها إلى البحر لاستخراج الملح من هناك وساندتها مسيرات حاشدة توجهت إلى مصانع الملح داراسانا للسيطرة عليها، الشيء الذي دفع السلطات الهندية إلى صدها وإلقاء القبض على مائة ألف من المناصرين لغاندي، كان من بينهم أبناؤه الثلاثة مانيلال وراماداس وديفاداس. معاهدة غاندي/ايروين كانت الاعتقالات التي قامت بها السلطات البريطانية بمثابة الشرارة التي ألهبت الجماهير الهندية، التي سارت في المظاهرات والاحتجاجات من جديد، الشيء الذي دفع بالقوات البريطانية للاجتماع مع غاندي والتوصل إلى اتفاق يرضي الطرفين أطلق عليه معاهدة غاندي/ايروين أو ميثاق دلهي عام 1931 بمقتضاه تطلق بريطانيا سراح جميع المعتقلين وتعيد الملكيات المصادرة إلى أصحابها من الهنود والسماح لهم بجمع الملح من الشواطئ الهندية، مقابل أن يوقف غاندي حملة المظاهرات والعصيان المدني. اغتيال غاندي وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية أعلن ممثل الإمبراطورية الهندية أن على الهند المشاركة في الحرب ضد الألمان باعتبارها تحت السيادة البريطانية، الشيء الذي رفضه غاندي بشدة داعيا الشعب الهندي والسلطات الهندية إلى التزام الحياد والاستقلالية، مؤكدا بذلك على أن السلام أقوى من الحرب، ليتم القبض عليه من جديد وإيداعه في السجن دون تهمة في العام 1942 ويتم الإفراج عنه بعد سنتين نتيجة تصاعد وتيرة العصيان المدني الذي طالب بالإفراج عن غاندي وبالاستقلال الكامل للهند، الذي بات يقترب شيئا فشيئا نهاية العام 1944 وبدايات العام 1945 لتزداد المخاوف تجاه الدعوات الانفصالية الهادفة إلى تقسيم الإمبراطورية الهندية إلى دولتين بين المسلمين والهندوس، حاول غاندي حينها إقناع محمد علي جناح، الذي كان على رأس الداعين إلى هذا الانفصال بالعدول عن توجهاته، لكنه مساعيه هاته فشلت وتم التقسيم بعد إعلان الاستقلال التام للهند في السادس عشر من غشت عام 1947. بعد استقلال الهند وتقسيمها، سادت حالات الاضطراب الديني عموم الهند وبلغت درجات العنف حدا تجاوز كل التوقعات، فسقط الآلاف بين قتيل وجريح خاصة في مناطق البنغال وبنجاب على الحدود الباكستانية الهندية، لتنقسم بذلك الإمبراطورية الهندية إلى دولتين: باكستان التي نزحت نحوها الأغلبية المسلمة، والهند التي بقيت فيها الأغلبية الهندوسية، ليبقى حينئذ غاندي حريصا على إعادة الوحدة الوطنية بين الهنود والمسلمين الذين بقوا في الإقليم الهندي (أقلية قليلة) مطالبا الأغلبية الهندوسية باحترام الأقلية المسلمة، فثارت هذه الأخيرة وسارعت باتهام غاندي بالتمييز والانحياز للمسلمين على حسابها مبررة ذلك بأنه خيانة عظمى للهندوس، فقررت قتله والتخلص منه في الثلاثين من يناير عام 1948 أثناء تأدية صلاته في مكانه المعتاد بثلاث رصاصات قاتلة تلقاها من أحد المتطرفين الهندوس، ليسقط المهاتما غاندي صريعا عن عمر يناهز التاسعة والسبعين مرددا «يا إلهي» تاركا للجميع كلماته الأخيرة التي قالها بعد محاولة اغتياله الأولى (20 فبراير1948 حاول متطرف آخر إلقاء قنبلة عليه أثناء صلاته في نفس مكان اغتياله) التي ورد فيها «إذا سقطت ضحية رصاصة من أحد المغتالين فلن أكون غاضبا لأن الرب في داخلي وفي شفتي». يتبع