قلت إنه جدل شرير ذلك الذى دار حول تهنئة المسيحيين المصريين بعيد الميلاد، لأنه يدور فى جو من التراجع والريبة والتخبط، وفى مناخ الفتنة الطائفية التى جرها علينا حكم العسكر، ولم يخلصنا منها بالطبع حكم الإخوان الذين ورثوا العسكر، واستخدموا الدين فى الوصول إلى السلطة والانفراد بها، فجعلوا الفتنة دستوراً والانقسام نظاماً، وحولوا الجماعة الوطنية المصرية إلى جماعتين تحتاج إحداهما إلى تصريح من المفتى حتى تقول للأخرى فى العيد: عيد سعيد! ومن الطبيعى أن ينساق بعضنا تحت وطأة هذه السياسة الشريرة التى تستغل ما يعانيه معظمنا من البؤس والجهل فيجعلون الدين نقيضاً للوطن، ويقدمون انتماءهم الدينى على انتمائهم الوطنى إلى الحد الذى يصبح فيه بعضنا عدواً لبعض. وهذا هو بالضبط الوضع الذى ترتاح له الجماعات الدينية الحاكمة وتشجعه، إن لم يكن بالقول فبالفعل، لأنها لا تستطيع بصفتها هذه وبسياستها وشعاراتها المرفوعة ودستورها الملفق أن تحكم جماعة وطنية. فلابد أن تتحول الجماعة الوطنية إلى جماعتين أو طائفتين متناحرتين حتى يستطيع الإخوان المسلمون والسلفيون أن يتربعوا على دست الحكم، وعن يمينهم الفقر، وعن يسارهم الأمية! يخدعون المسلمين بتطبيق الشريعة، ويخدعون المسيحية بالاحتكام إلى شرائعهم فى الأحوال الشخصية. فإن اشتعلت نار الفتنة التى لابد أن تشتعل لأن شرارتها كامنة وطعامها حاضر أطفأوها بالكلام لتشتعل غداً من جديد! لكننا يا أيتها المصريات العزيزات، ويا أيها المصريون الأعزاء المسلمون والمسيحيون، اليهود والبهائيون أمة واحدة وجماعة واحدة، ولسنا أمماً أو جماعات مختلفة. يجوّعونكم أو يواصلون تجويعكم كما كان يفعل بكم من سبقوهم فتصبحون تحت رحمتهم كما كنتم تحت رحمة السابقين، وتبيعون لهم أصواتكم بالزيت والسكر والجنة والنار، ويحرمونكم من التعليم فتجهلون أنفسكم ولا تعرفون شيئاً عن تاريخ وطنكم، وتصبحون عالة على الخطباء الجهلاء والدعاة الهواة والمحترفين الذين يوهمونكم أن مصر كانت قبل الإسلام غارقة فى ظلمات الجاهلية والشرك والطغيان، فعليكم أن تتبرأوا من حضارتكم القديمة وتلعنوا آباءكم وتنسوا أمجادكم وترضوا بما أنتم فيه! أقول لكم إن هذا كله كذب وخداع وتضليل. فمصر لم تكن قبل الإسلام كما كانت جزيرة العرب، ولم تعرف الجاهلية التى عرفها العرب الأولون. مصر كانت قبل الإسلام مجتمعاً مستقراً عرف الحضارة قبل غيره من المجتمعات البشرية، واكتشف الكتابة، وخرج من حكم القوة والبطش إلى حكم الضمير والقانون، ووحد الله وآمن بالبعث والحساب، وامتلك ناصية الفن فعزف وغنى، وبنى وعمر، ورسم ونحت. واعتنق المسيحية ومصّرها، فكانت له فيها كنيسة الإسكندرية التى تميزت وانفصلت عن كنيسة روما وكنيسة بيزنطة. ولم يكن للعرب قبل الإسلام من هذا إلا القليل. والعرب المسلمون الذين حملوا الإسلام إلى مصر لم يخرجوا المصريين من ديارهم ولم يحلوا محلهم بالطبع، وإنما اختلطوا بهم واندمجوا فيهم وتمصّروا بقدر ما أسلم المصريون وتعربوا وشاركوا بنصيب ضخم فى الحضارة العربية الإسلامية التى لم تمح ما سبقها من حضارة مصر وإنما أضافت إليها وتأثرت بها وتفاعلت معها. والحضارة الإنسانية لا تفنى ولا تموت، مثلها مثل المادة التى لا تفنى، وإنما تتحول وتنتقل من صورة إلى صورة أخرى. الماء يتحول إلى بخار أو يتحول إلى ثلج أو يتسرب ويتجمع تحت سطح الأرض لكنه لا يتبدد ولا يضيع، وهكذا الخبرة الإنسانية والثقافة الإنسانية. الخبرات والثقافات تتواصل وتتراكم وتتفاعل وتتطور. المعتزلة والأشاعرة يلتقون فى محمد عبده. وامرؤ القيس والبحترى، وأبوتمام يلتقون فى البارودى، وأيام العرب والسير والعبر والتواريخ وكليلة ودمنة تلتقى فى أيام طه حسين ومسرحيات الحكيم وروايات نجيب محفوظ. والتصوف الإسلامى متأثر بالرهبنة المصرية، وعمارة المسجد متأثرة بعمارة الكنيسة. والعرب المسلمون الذين دخلوا مصر واستقروا فيها لا يزيد عددهم على مائة وخمسين ألفاً، فى حين كان عدد المصريين الذين كانوا كلهم مسيحيين فى ذلك الوقت أواسط القرن السابع الميلادى يقدر بحوالى ثمانية ملايين. ومعنى هذا أن نسبة العرب الذين دخلوا مصر للمصريين لا تزيد فى أعلى تقدير على اثنين فى المائة. ومن الطبيعى أن يذوب هؤلاء المستوطنون العرب فى البحر المصرى المتلاطم، كما ذاب فيه من قبلهم المستوطنون الهكسوس واليونانيون، وكما ذاب فيه من بعدهم الأكراد والأتراك والشركس. فإذا كان الإسلام قد أصبح دين الأغلبية فى مصر، فالمسلمون المصريون هم المسيحيون المصريون الذين اعتنقوا الإسلام، وهم بالتالى أشقاء المسيحيين الذين ظلوا على دين آبائهم وأجدادهم، وهذا ما يجب أن نتذكره ونحن نتجادل حول تهنئة المسيحيين بالعيد. هؤلاء السادة الذين انخرطوا فى هذا الجدل الشرير يتقمصون شخصية الغزاة الفاتحين أو يلعبون دورهم فى المسرحية المعروضة وينظرون لأشقائهم المسيحيين نظرتهم إلى جنس آخر. وهذا أثر كريه من آثار النظم الدينية التى سادت العصور الوسطى وجعلت الدين دولة وقومية وجنسية، كما يريد الإخوان والسلفيون أن يفعلوا الآن، وميزت بالتالى بين من يتبعون ديانة السلطة وغيرهم الذين لم يكونوا فى هذه النظم المتخلفة مواطنين أو أصحاب حق طبيعى، وإنما كانوا فى الدول الإسلامية «ذميين»، والذمى له فى النظم الإسلامية وضع قريب من وضع اللاجئ أو طالب الأمان، وهو تقليد موروث من تقاليد المجتمع البدوى الذى يحتكم قبل كل شىء للقوة. والبدو محتاجون قبل كل شىء للقوة التى يحمون بها أنفسهم، لأن الدولة غير موجودة، ويحصلون بها على الماء والكلأ، فإذا لم يتوفر الماء والكلأ للقبيلة لجأت إلى غزو غيرها، فإن وجدت نفسها ضعيفة مهددة بالغزو والموت والأسر لجأت إلى قبيلة أكبر فدخلت فى طاعتها وانتسبت لها بالولاء، ومن هنا قولهم حتى الآن «دخيلك!» أى أنا لاجئ إليك داخل فى ذمتك أو فى عرضك وحماك، وهذا هو الوضع الذى وجد المسيحيون المصريون أنفسهم فيه بعد الفتح العربى وأدى بهم لاعتناق الإسلام حتى يتحرروا منه ويتمتعوا بحقوق المنتمين لديانة السلطة وامتيازاتهم. أقول نحن المصريين أمة واحدة ولسنا أمتين. ونحن نعيش فى العصور الحديثة لا فى العصور الوسطى. فى دولة يجب أن تكون دولة وطنية ديمقراطية، لا دولة إخوانية أو سلفية يحتاج فيها المسلمون لفتوى حتى يقولوا لأشقائهم المسيحيين فى عيدهم: عيد سعيد!