سبق وأن نشرت مقالا عن دعوى الرسالة المسيحية، ومنذ ذلك الوقت وأنا أفكر في إعطاء نظرة القانون الجنائي المغربي في ما تقوم به البعثات المسيحية في المغرب، وزاد من رغبتي في ذلك ما أثارته "الطالبان" من ضجة باعتقالها للمبشرين المسيحيين الثمانية وعقوبة الإعدام التي كانت في حقهم قبل أن يفرج عنهم، وما خلفته هذه العقوبة من جدل في الأوساط الغربية والإسلامية على حد سواء. ولا أريد مناقشة الأحكام والمواقف التي اتخذتها حكومة "الطالبان" كنظام إسلام يجعل من الكتاب والسنة مرجعيته الأولى، كما لا أنوي عرض الآراء الفقهية والمذهبية في الموضوع، وإنما سأكتفي بالبحث والنظر في العقوبة المنصوص عليها في القانون الجنائي المغربي بخصوص المؤسسات ذات الطبيعة التبشيرية التي تسعى إلى زعزعة المغاربة المسلمين. الفصل 220 من القانون الجنائي يجرم كل عمل يزعزع عقيدة المسلم. فإذا رجعنا إلى الفصل 220 من القانون الجنائي المغربي نجده يقول: "من استعمل العنف أو التهديد لإكراه شخص أو أكثر على مباشرة عبادة ما أو على حضورها، أو لمنعهم من ذلك ، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائة إلى خمسمائة درهم". "ويعاقب بنفس العقوبة من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أوالمياتم، ويجوز في حالة الحكم بالمؤاخذة أن يحكم بإغلاق المؤسسة التي استعملت لهذا الغرض، وذلك إما بصفة نهائية أو لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات". إن المتأمل لهذا الفصل يجده يعالج أمرين اثنين، يتعلق أولهما بمسألة: الإكراه في الدين وذلك باستعمال العنف والتهديد لحمل شخص على ترك دينه واعتناق دين آخر أو ممارسة عبادة أخرى غير التي يدين بها، والملاحظ أن النص بخصوص هذه المسألة اتصف بالعموم، أي لم يحدد الدين المراد تركه كرها أهو الإسلام أو أي دين آخر، ومن ثم يكون الإكراه في الدين مرفوض مطلقا بنص هذا القانون، فلا يجوز معه إكراه غير المسلم على اعتناق الإسلام كما لا يجوز معه إكراه غير المسلم على اعتناق دين آخر، وهو فصل منسجم والمبدأ الذي قرره الإسلام ونص عيه القرآن الكريم في كثير من الآيات كقوله تعالى: (لا إكراه في الدين)، وقوله عز وجل (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) حيث يبقى لكل فرد حق اعتقاد ما يشاء شريطة عدم المساس بقواعد الدين الإسلامي. أما الأمر الثاني الذي عالجه الفصل 220، فيتعلق هذه المرة بالإغراء في الدين، أي عمل جهة معينة فردا أو مؤسسة على إغراء الفرد أو الجماعة المسلمة على ترك دين الإسلام، وعكس الأمر فقد جاء التنصيص في هذه الفقرة على منع إغراء المسلم دون سواه، فمنع كل فرد أو مؤسسة غير مسلمة تتواجد في المغرب، أن تغري المغاربة المسلمين لترك الإسلام واعتناق أي دين آخر، كما نص الفصل على طرق الإغراء وعددها في قوله: "باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أواستغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أو المياتم"، ومع أن النص لم يحدد الدين الذي تدعو هذه المؤسسات المغاربة المسلمين إلى اعتناقه ففي ذكره لطرق الإغراء هاته إشارة إلى المسيحية التي اعتادت عبر التاريخ في إرسالياتها التبشيرية سلوك مثل هذه الطرق لإغراء المسلمين وتحويلهم عن دين الإسلام، مستعملة في ذلك "الميزانية الضخمة التي تفوق حقا ميزانية بعض الدول مجتمعة والتي توفرها الفاتكان ومجلس الكنائس العالمي مثلا لعملية تنصير المسلمين في أندونيسا... لست أتحدث عن المطارات الجوية والأساطيل البحرية والمحطات الإعلامية والصحف اليومية ناهيك عن آلاف من الأطر البشرية المدربة، مما يجعل عملية التبشير في أندونيسيا وحدها حركة تستهدف صراحة المسلمين أنفسهم وحربا معلنة عليهم وخطة قائمة على قدم وساق. (مجلة فكر ونقد عدد 5). لو دققنا النظر في هذا الأمر الثاني الذي عالجه الفصل 220 لوجدناه بدوره منسجما والطرح الإسلامي ومبدأ الأخذ بيد المؤلفة قلوبهم، ففي قصره المنع على إغراء المسلم، إشارة ضمنية إلى جواز ذلك بالنسبة للمسلم والسماح له فردا وجماعة بتأليف قلب غير المسلم تمهيدا منه لإقناعه بالإسلام، وذلك مبدأ قرآني أيضا، جعل المؤلفة قلوبهم أحد الأصناف الثمانية المستحقة للزكاة والذين نصت عليهم الآية 60 من سورة التوبة. وقد يستغرب القارئ من هذا الفصل الذي يبيح ضمنيا للمسلم ما يحرم صراحة على غيره، ولكن الغرابة تزول ويبطل العجب بمعرفة أن الإسلام لا يقبل من الفرد إلا إذا كان مبنيا على الاقتناع، فالإيمان كما عرفه الفقهاء قول باللسان وإقرار بالجنان وعمل بالأركان، أما الإيمان الذي لا يقوم على التصديق والاقتناع فيسمى نفاقا يقول عز وجل: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)، وحذر القرآن من النفاق ومصير المنافق الذي يظهر ما لا يبطن، يقول عز وجل: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) وقال أيضا: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) واشتمل القرآن على سورة تحمل اسم "المنافقون" ذكر فيها أوصافهم ومصيرهم. إن الإسلام ركز على الفئة المؤمنة الصادقة من الناس وإن كانوا قلة، ولم يول اهتماما لكثرة الأتباع الذين لا ينبني إيمانهم على الصدق، عكس ما تسعى إليه المسيحية التي لا تهتم إلا باستقطاب الناس وإن كان إيمانهم غير صحيح، وإن ما يعاب على المسيحية بالخصوص ليس دعوتها إلى دينها" فمن حق الديانات الكتابية انطلاقا من طبيعتها المعروفة أن تسعى إلى ممارسة الدعوة وإقناع الآخرين بقيمها ومبادئها غير أنه حينما يخرج الأمر إلى التصميم على "سحق" الآخر المخالف والعمل على طرده من بنيته الأصلية واستغلال الأزمات الاقتصادية والاضطرابات السياسية والكوارث الطبيعية، والتوجه بذلك إلى الأطفال والقاصرين والنساء وزيارة البيوت في غياب الآباء والأزواج... (مجلة فكر ونقد عدد 5). فأمر مرفوض. أما الإسلام فلا يخاطب إلا العقلاء لأن العقل مناط التكليف، فهو أول شرط يشترط في أي عمل أو عبادة وغيابه يسقط التكليف، كما لا يقبل إسلام المكره، ولا كفره: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم). لماذا لا تتم متابعة المبشرين بناء على الفصل 220 من القانون الجنائي المغربي تبين لنا أن القانون الجنائي المغربي جرم كل من عمل على زعزعة عقيدة المسلم سواء كان فردا أو مؤسسة، أتساءل الآن كم مؤسسة توبعت في المغرب بهذا الفصل؟ أم أنه لا وجود لمثل هذه المؤسسات ببلادنا؟ للإجابة عن السؤال الثاني يكفي أن نلقي نظرة على بعض الصحف المغربية لنعرف الإجابة، وأكتفي هنا بذكر عناوين صدرت في جريدة الاتحاد الاشتراكي لنتيقن أن هذه المؤسسات تنشط بالمغرب بشكل كبير ومنذ زمن، ففي عددها 6114 بتاريخ: 2000-05-07 نشرت الجريدة مقالا على مساحة صفحة بأكملها تحت عنوان: "مغاربة اعتنقوا المسيحية على الانترنيت" أعده ع. جماهري، كتب فيه شهادة ودعوة أحد المغاربة المعتنقين للدين المسيحي، وفي عددها 6526 بتاريخ 2001-06-23 نشرت نفس الجريدة مقالتين أعدهما عبد الصمد الكباص وابراهيم زرقاني على مساحة الصفحتين 4 و5 شملت كل منهما عناوين كبيرة منها: "الحركات التبشيرية والطوائف الدينية تتصارع على المغرب"، "مواقع استراتيجية للطائفة الإنجيلية بالنواصر وطنجة"، "مبشرون تحت مظلة أساتذة اللغات الأجنبية ومولدات"، "كنائس تتصارع لاستقطاب الشباب المغاربة"، "كنيسة ماري بيكر تثبت جهازا قويا للإرسال بإسبانيا لإيصال برامج إذاعتها إلى المغرب"، أما الصفحة الخامسة فقد اشتملت على عناوين لا تقل إثارة عن سابقتها "الطائفة الإنجيلية تعد بمراكش ترجمة للكتاب المقدس إلى العامية المغربية وتفتح كنائس على شاكلة مكاتب الترجمة ومحلات للترجمة ومحلات للتصوير ومقاهي للانترنيت"، مخيمات للمسيحيين المغاربة بمكناس وإيموزار وإيفران وتجمعات تدريبية على التبشير بالخارج"، "طائفة شهود يهود تغرق الصناديق البريدية للمنازل بالأناجيل الصغيرة"، "هدايا المسيح". فهذه المقالات تدل على النشاط المسيحي بالمغرب، وهو نشاط ليس بالجديد، وإنما ترجع جذوره إلى الحقبة الاستعمارية، بل إلى زمن دخول الإسلام إلى المغرب، فالحقد المسيحي على الإسلام نتيجة انتشار هذا الأخير في بقاع العالم، انتشارا كان على حساب الامتداد الجغرافي للمسيحية جعل المسيحيين يسعون إلى استرداد هذه المناطق لنفوذهم بكل الأشكال ولا أدل على ذلك من الحروب الصليبية، ولقد نشرت جريدة الاتحاد الاشتراكي دائما مجموعة مقالات للطيب بوتبقالت تحت عنوان رئيسي: "المغاربة والديانة المسيحية عبر التاريخ"، طمح صاحب المقال "إلى إماطة اللثام على بعض المعطيات التي ميزت علاقة المغاربة التاريخية بالدين المسيحي بعيدا عن مزايدات الكتابات الكولونيالية الملغومة"، وعن اهتمام الإرساليات التبشيرية يقول الطيب بوتبقالت: "لقد اهتمت جماعة الفرنسيسكان بالتبشير قبل حصولها على اعتراف الكنيسة بها كتنظيم ديني مرجعي، وكانت أنظارها متجهة إلى العالم الإسلامي الذي تعتبره عالما كافرا يجب إخضاعه لتعاليم الديانة المسيحية وصاح القديس فرنسوا: "واحسرتاه على طنجة واحسرتاه على مراكش بلاد الضلال" وجمع أتباعه وقال لهم: "... حاربوا شريعة محمد وكونوا على استعداد للاستجابة لإرادة المولى". ولعل قرب المغرب من أوروبا المسيحية والانتشار الإسلامي في بلاد الأندلس عن طريقه، كان من أهم الأسباب في اهتمام الطوائف الكنسية والتبشيرية به فالمد الإسلامي جعل من المغرب بوابة له إلى أوروبا المسيحية وزاد العمل التبشيري من حدته مع فرض الحماية على المغرب وقد كان للأب "ch .De foucauld" دور بالغ الأهمية في بلدان المغرب العربي، انتهى باعتناق محمد بن عبد الجليل المسيحية سنة 1928م. وتعتبر مدن الشمال من المدن المستهدفة خاصة طنجة والعرائش ، حيث تضم هذه الأخيرة مركزا من أهم المراكز النشيطة، أما جنوب المملكة فتعد مدينة مراكش المركز الذي تنطلق منه الإرساليات في اتجاه جبال الأطلس والقرى الأمازيغية، وفيما نشرته جريدة الاتحاد الاشتراكي عن هذه المدينة كفاية. نعود الآن بعدما أجبنا عن السؤال المتعلق بوجود مؤسسات تبشيرية بالمغرب لنحاول الجواب عن السؤال الأول المتعلق بالمتابعة القانونية المنصوص عليها في الفصل220. وعن هذه المتابعة أقول لكم بالرغم ما تثيره العناوين السابقة الذكر من اهتمام القارئ والمتصفح للجريدة فهي لم تثر انتباه السلطة المحلية والأمنية، فإن كنت استطعت الإطلاع على هذه المقالات التي تظهر وجود هذه المؤسسات فلم أتمكن من قراءة خبر واحد بخصوص متابعة هذه المؤسسات ربما لقلة اطلاعي اللهم ما نشره عبد الصمد الكباص في مقاله السالف الذكر حيث قال: في أواسط التسعينات استدعت المصالح الأمنية الاستخبارية بمراكش مجموعة من الشباب المراكشي وأخبرت أولياءهم بأن أبناءهم وبناتهم قد ارتدوا عن الإسلام واعتنقوا المسيحية وأجبرتهم على التوقيع على التزام يقرون فيه حسب أحد هؤلاء المستدعين بأنهم مسلمون وأن لهم مشاكل في فهم الإسلام ويلتزمون بالعودة إلى تعميق معرفتهم به، كما التزموا بألا يمارسوا أي نشاط تبشيري لفائدة ديانة أخرى". والغريب أن السلطات الأمنية كما جاء في قول عبد الصمد الكباص لم تستدع المبشرين (بكسر الشين) بالمسيحية وإنما استدعت المبشرين (بفتح الشين) بها والأولى أن تستدعي هذه المؤسسات للتحقيق معها ومتابعتها بالفصل السالف الذكر متى ثبت تورطها. أخشى أن يجر علينا الانفتاح وتشجيع السياحة وجلب الاستثمارات الأجنبية ببلادنا وبالا ومصائب لا طاقة لنا بها فنفقد الدين والهوية ونصبح لقمة سائغة في فم أعدائنا، وقد يقول قائل لا يمكننا سد باب السياحة فهو باب يدر على المغرب أرباحا، وقطاعا يوظف ساكنة كبيرة، جوابي له قول الله عز وجل: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن الله عليم حكيم) فيا عجبا يفتن الرجل نفسه بطلب الرزق والله كفله له ويترك عبادة ربه مع أنه تعالى أمره بها: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). يوسف كلام