مازالت الدولة مترددة تجاه موضوع رفع يد الاحتكار عن التلفزة، ولم تقتنع بعد بأن ثورة الإعلام وتكنولوجيا الاتصال وغابة القنوات التلفزية العربية والعالمية حقيقة لا تستطيع تجاهلها. لم تقنعها بعد هجرة 70 في المائة من المغاربة إلى أرض الإعلام الحر الواسعة، بعيدا عن قنوات العرايشي المملة. لم تقتنع السلطة بأن الوقت قد حان لتحرير المشهد التلفزيوني من قبضة التحكم. الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري ساكتة عن الموضوع، خاصة بعد ضربة المقص المفاجئة التي قطعت رأس الغزالي لأنه لم يستوعب جيدا مزاج السلطة في موضوع دفاتر التحملات. وزير الاتصال الشاب أصبح يمشي على البيض، بعد أن لسعته العقارب لما أدخل يده إلى جهاز التلفزة، محاولا أن يضع دفاتر تحملات جديدة لتلفزيون ليس له إلا بند واحد في كناش تحملاته هو: الولاء للسلطة، وعدم الخروج عن التقاليد الإعلامية المرعية منذ ميلاد التلفزة في المغرب، التي كانت ولاتزال أداة حكم، وليست أداة إخبار وترفيه وتثقيف في خدمة الجمهور الذي يدفع ثمن اشتغال التلفزيون. لقد نصح الكثيرون مصطفى الخلفي بعدم الاقتراب من تلفزيون المخزن، لأن هذا الأخير يعتبره قلعة حصينة لتصريف الصورة التي يريد للمغاربة أن يعرفوها عن بلادهم وعن سياستهم، وأن آخر شيء سيصلح في المغرب هو الشاشة الصغيرة. كان الأولى بالحكومة الجديدة، التي كانت تنتقد القنوات الرسمية باستمرار، إذا لم تستطع إصلاح التلفزيون الرسمي فلا أقل من أن تسمح للقطاع الخاص وللمجتمع بخلق تلفزاته الخاصة، عوض أن نترك الشعب يهاجر نحو القنوات الأجنبية التي صارت تحتكر نسب مشاهدة عالية جداً في بلادنا، كما تظهر ذلك أرقام ماروك متري المتخصصة في قياس نسب المشاهدة. ما الذي يمنع رئيس الحكومة ووزيره في الإعلام من دعوة الهاكا إلى تطبيق قانون تحرير المشهد الإعلامي التلفزيوني؟ ما قيمة أن نضع قوانين للتعددية الإعلامية بينما الاحتكار هو الذي يحكم مشهدنا التلفزيوني؟ الجميع يعترف اليوم بفشل الدولة والقطاع العام في الصناعة والفلاحة والخدمات والنقل، وغيرها من القطاعات التي فوتت للخواص، إلا الإعلام الذي يحتاج أكثر من غيره إلى الإبداع والابتكار والحرية والتحلل من القيود.. إلا التلفزيون الذي تريد الإدارة أن تحتكر إنتاجه ! حسب البحث الوطني حول القيم والممارسات الدينية، الذي أنجز سنة 2007، يصرح 68.6 في المائة من الشباب بين 18 سنة و24 سنة بأنهم يلجؤون إلى القنوات الدينية الفضائية العربية لاكتساب معلوماتهم الدينية. كما أن دراسة حديثة أجريت مع 150 شابا وشابة، تتراوح أعمارهم بين 18 سنة و30 سنة وينتمون إلى ثلاث كليات في مدينة المحمدية، أظهرت أن 92 في المائة منهم لا يعرفون اسم رئيس المجلس العلمي لمدينتهم، وأن 66 في المائة لا يعرفون اسم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، في حين أظهر البحث أن 62 في المائة من المستجوبين يعرفون أسماء الدعاة الجدد على قنوات: اقرأ والرسالة والناس والرحمة... هذه نتائج أولية لهجرة الشباب نحو القنوات الأجنبية، والباقي سيأتي، مع المدة سنصير في المغرب مجرد جاليات لها ثقافات مختلفة ومصادر أخبار مختلفة وانشغالات مختلفة ومذاهب مختلفة لا يجمع بينها إلا الجغرافيا وخيط الكهرباء وصحن فوق السطح لربط هذه الشعوب والقبائل بالقنوات المفضلة لديها، كل هذا من أجل عيون السلطة التي لا تريد أن يحظى المغاربة بتلفزة عصرية ومهنية تلبي حاجاتهم اليومية وتتكلم لغتهم وتعبر عن مشاكلهم.