ليست فدوى العروي أول مغربية أحرقت نفسها احتجاجا، وإنما الشاب مراد الجندي الذي قرر أن يضع حدا لحياته يوم 10 فبراير من السنة الماضية. بدأت الحكاية حينما عاد مراد من عمله في سلك الجندية بضواحي السمارة بعدما تم تسريحه في شهر يوليوز سنة 2010، ولأن عائلته كانت تعيش أوضاعا قاسية، ولأنه كان معيلها الوحيد، حيث والده الشيخ مقعد، وأمه ربة بيت، وأخوه الصغير كان بدوره عاطل، فقد اشتدت عليه الضائقة المالية، فقرر أن يضع حدا لحياته. بعدما عاد مراد من السمارة، دخل في حالة صمت مريبة، ولم يكن يحكي لوالدته أو لأخيه المقرب إليه أي شيء عن حالته النفسية التي كانت قد تجاوزت حالة الإكتئاب بكثير، وعلى الرغم من المحاولات التي قامت بها والدته بالخصوص لمعرفة ماذا حدث له في السمارة، فإن مراد ظل صامتا، فلم يروي لا لأمه ولباقي أفراد عائلته لا ما حدث في السمارة، ولا ما كان ينوي القيا به في ابن جرير، ولذلك اختلفت الروايات التي رددها راديو الشارع عن الأسباب الحقيقية لهذه الوفاة المفزعة، لكن الحقيقة الوحيدة التي عرف تفاصيلها الجميع، بعد أن فاجأتهم، هي أن مراد توجه صبيحة العاشر من شهر فبراير من 2011 للسوق الأسبوعي للمدينة، والذي كان فارغا حينها إلا من بعض الفقراء التي اهتزت قلوبهم وهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا ليوقفوا الكارثة، حينما أرعبتهم عملية إضرام النار في جسده.
فدوى أول امرأة مغربية أحرقت نفسها احتجاجا
حكاية فدوى العروي مع الموت احتراقا لا تقل مأساة لما جرى لمراد بابن جرير، ففدوى أم عازب، وقد وضعت ابنها الأول دون أن يعترف به أبوه الذي تعرفه فدوى جيدا، ثم كان أن اغتصبت للمرة الثانية فولد مولود آخر بدون اعتراف، ثم قدفت بها متاعب الدنيا واكراهات العيش واشتداد الفقر لعائلة متواضعة جدا، إلى العمل خارج سوق السبت، تارة في أكادير وتارات أخرى في بني ملال، لكن الأمل في معانقة أحضان دافئة في منزل بسيط، كان يزيد من قوتها في مواجهة الصعاب المتنوعة والكثيرة، لكن الحياة لا تأتي دائما أفراحا، ولذلك حينما عادت إلى سوق السبت بعدما سمعت أن البلدية شرعت في توزيع بقع أرضية للمعوزين، اصطدمت بالمفاجأة غير السارة، وهذه جزء من تفاصيلها. حرمت فدوى من الحصول على بقعة كما البقية بدعوى أن والدها استفاد من بقعة، وبدعوى أن البرنامج لا يشمل توزيع البقع على الفروع، أي الأبناء، وإنما ينحصر على استفادة الأصول، أي الآباء، وعلى الرغم من أنها كانت تمثل لوحدها أسرة مكونة من أم وأب أو أبوين هاربين وطفلين، فإنها ظلت خارج الاهتمام، ولذلك قررت أن تصرخ بطريقتها حينما احتجت ببناية البلدية، لكن صراخها ذهب مع الريح، فقررت أن تضع حدا لحياتها عشية نفس اليوم وهي تصرخ"أنا ممصطياش"، أي "أنا لست مختلة عقليا"، فمن الذي كانت تقصده بهذه الجملة؟ هذا وحد من الأسئلة التي ظل الجواب عنها عالقا بعدما فارقت الحياة يوما واحدا بعد انطلاق مسيرات 20 فبراير. فدوى أول امرأة مغربية وعربية أحرقت نفسها وهي في سن العشرين بالضبط، والشريط الذي أمامكم يكشف جزءا من لحظات فظيعة اهتزت لها مدينة سوق السبت باقليم تادلة ازيلال، واقشعرت لها أبدان كل المغاربة الذين شاهدوها وهي تحترق.
ثلاث أشهر بعد رحيل فدوى العمري التي أنهت حياتها احتراقا بسوق السبت، اهتزت القلوب بمدينة الحاجب، بعدما أشعل الشاب رشيد الباي النار في جسده صباح يوم 23 ماي 2011، ولم يكن أحد من رفاقه في جمعية المعطلين ولا من جيرانه في الحي الفقير الذي لا يبعد كثيرا عن الشارع الرئيسي المؤدي إلى بلدية المدينة، يدركون أن رشيد الذي لم يحتفل بعيد ميلاده الثلاثين حينها، أنه قرر أن يحرق نفسه أمام الملأ. وتقول القصة التي تابعها رفاقه أن رشيد غضب كثيرا حينما حجزت القوات العمومية عربته التي يستعملها لعرض بعض من الخضر والفواكه، ولأن رشيد سئم ذلك في مناسبات سابقة، وكان في كل مرة يخسر المئات من الدراهم هو في أمس الحاجة إليها، فقد صرخ عاليا حينما تيقن أنه لن يستطيع استرجاع عربته المتواضعة، ولأن كل العائلة يعيشون على ما يجنيه رشيد من دراهم قليلة من تجارة غير مضمون ربحها، ولكل ذلك، فقد صب مادة "الدوليو" على جسده أمام مقر البلدية احتجاجا، لكن من حسن حظ رشيد أن رفاقه حملوه بسرعة، والنار مازالت تأكل جسده، فألقوا به في الساقية المجاورة لمقر البلدية، فنجا من موت محقق.
ومرة أخرى جندي متقاعد ينتحر احتراقا بالنار في مراكش بدت الأجواء عادية صباح الخميس 26 يناير 2012، في المحكمة الابتدائية بمدينة قلعة السراغنة، وفي إحدى قاعاتها عندما بدأ العون القضائي بالمناداة على المتقاضين، لم يلتفت أحد إلى الرجل الذي ترجل من مقعده حاملا معه قنينة بلاستيكة كبيرة بسعة 5 لترات "بيدون"، وفجأة صب سائل يميل إلى اللون الأحمر على جسده.. فاحت رائحة البنزين، وقبل أن يستدركه من حوله بثنيه عن التحرك، أسرع برمي عود الثقاب المشتعل على صدره.. لقد فات الأوان، ولم يجد الصراخ ومحاولات انقاذ الجندي المتقاعد واليائس من لهب النار الذي انتشر بسرعة في جسده. نقل على وجه السرعة إلى المستشفى الإقليمي بمدينة قلعة السراغنة ومنه إلى مراكش في انتظار نقله إلى مركز الحروق في المستشفى الجامعي ابن رشد في الدارالبيضاء، لكن مرة أخرى فات الأوان! فارق عبد الرحيم بوكرين الحياة بعد مرور أقل من 24 ساعة على إضرام النار في جسده، وقد قدمته الرواية الرسمية التي نشرت في وكالة المغرب العربي للأنباء على أنه شخص كان يعاني من إضرابات نفسية، لكن التابث أنه كان مثقلا بحمل مشاكل اجتماعية سيزيفية لم تنتهي داخل البيت وخارجه، وأنه كان يدبرها بصعوبة في المحاكم، لذلك فتح تحقيق لمعرفة السر الذي جعله يقرر الانتحار حرقا في قلب المحكمة الإبتدائية.