بسرعة ارتقى حزب الأصالة والمعاصرة إلى واجهة السياسة في البلاد، وبالسرعة ذاتها نزل من على المنصة التي كان يستعد للاحتفال فوقها بالوصول إلى رئاسة الحكومة وقيادة أغلبية جديدة سنة 2012... مياه كثيرة تسربت إلى سفينته مع حلول الربيع العربي، وخروج شباب 20 فبراير إلى الشوارع هاتفين ضد الجرار وركابه. هنا قفز فؤاد عالي الهمة بسرعة من السفينة قبل أن تغرق، ورجع إلى بيته الطبيعي الذي خرج منه سنة 2007.. عاد إلى الديوان الملكي، فيما عمدت قيادة «البام» إلى تفويت جزء من مشروع الحزب إلى أحرار مزوار، في ما يشبه التدبير المفوض للمرحلة السياسية الحرجة التي أعقبت 20 فبراير... الحزب الذي فاز بالمرتبة الأولى في الانتخابات الجماعية لسنة 2009، وكان يعد نفسه لقطف تفاحة الانتخابات التشريعية لسنة 2012، وجد نفسه في المرتبة الرابعة، بل وجد نفسه مطالبا بالرجوع إلى الوراء لأن حساسية الظرفية السياسية لا تسمح بوجود حزب قيل إنه «حزب الدولة» في الواجهة. هنا، وفي هذا الجرح الحساس وضع بنكيران إصبعه، وبدأ يضغط ثم يضغط، وطيلة الحملة الانتخابية وهو يهاجم «البام» والهمة وإلياس ومزوار والحزب السلطوي، والجرار الذي اختبأ لما خرج الشباب إلى الشوارع يطالبون بالتغيير... دارت العجلة، وتحول بنكيران من عدو يسعى «البام» إلى حصاره وفك تحالفاته وتهميشه في الساحة السياسية، إلى أكبر مدعو إلى مؤتمر الحزب الذي تنطلق أشغاله اليوم. فهل ينجح الجرار في التطبيع مع الحقل الحزبي بعد أن خلط أوراق الجميع؟ للتطبيع شروط أهمها: -1 لا بد للحزب من القيام بنقد ذاتي لما ارتكبه من أخطاء عند دخوله الحقل الحزبي، وفي مقدمة هذه الأخطاء، استعمال أدوات الدولة والإدارة لحقن هياكله بالمنشطات الممنوعة في السباق نحو السلطة... الحزب يجب أن ينبع من حاجة اجتماعية، وأن يقدم قيمة مضافة، وأن يتدرج في النمو مثل الشجرة، تطرح الثمار عندما تصير جذورها أعمق في الأرض، أما نباتات البلاستيك فإنها بلا جذور ولا ثمار مهما كانت أغصانها طويلة وبدت أوراقها خضراء. -2 لا بد أن يبحث الحزب، في هذه المحطة الحساسة من حياته، عن هوية سياسية وإيديولوجية محددة. لقد ولد الحزب وعلى لسانه شعار واحد هو محاربة الإسلاميين، وهذا ليس برنامجا ولا ورقة اعتماد. هذا تكتيك فقط قد يتغير بين عشية وضحاها. ولد الحزب وهو عبارة عن خليط غير متجانس من يساريين أعياهم ضعف الجذور في التربة الاجتماعية (سماهم بيد الله: أبطال بلا مجد)، وأعيان حملهم بريق السلطة إلى مقاعد الجرار، وأتباع جاؤوا من كل فج عميق وقبلتهم صديق الملك... كل هؤلاء وجدوا أنفسهم في سفينة واحدة ولكن بوجهات متعددة. الحزب، أي حزب، يحتاج إلى قدر من الانسجام وإلى قدر من الرابطة السياسية والإيديولوجية وإلا صار الحزب «حلقة» ينفض الناس من حولها مباشرة عندما تنتهي الفرجة.. والفرجة في حزب الجرار انتهت أو تكاد. -3 على الحزب أن يحسم في وظيفته، هل هو «بارشوك» «Pare Choc» للسلطة في الحقل الحزبي، يريد أن يلعب دور مخفف الصدمات، أم هو حزب له برنامج ورؤية وأجوبة عن مشاكل المجتمع. المؤسسة الملكية لم تعد قادرة على حمل عبء أحد، وسلامتها اليوم وغدا في بعدها عن كل الأحزاب، وقربها من جوهر العملية الديمقراطية. لقد منيت أحزاب السلطة كلها بهزيمة مرة في تونس ومصر وسوريا واليمن، وقبل ذلك الجزائر... انتهت أحزاب الدولة، الرهان اليوم على دولة الأحزاب الحقيقية.