في هذه الحلقة يعود انياس دال إلى الظروف التي تأسست فيها اللبنات الأولى للقوات المسلحة الملكية في عهد ولي عهد السلطان محمد الخامس، وفي هذا السياق يعود إلى حادثة تصفية عباس المساعدي. في خضم الصراع القوي الذي سيخوضه ضد زعيم اليسار المغربي، سوف يعول مولاي الحسن على الدعم الكبير للعسكريين الفرنسيين. ضباط مغاربة في جزء كبير منهم تلقوا تكوينا وتداريب في المدارس العسكرية الفرنسية، هذا في الوقت الذي تم فيه تخصيص تسهيلات مالية من أجل تجهيز وتسليح الجيش الفتي. هذا الكرم الاستثنائي يتعارض عادة مع الشح في مساعدات الحكومة الفرنسية، التي لا ترغب في «تمويل» تنمية الاستقلال الذي كان معاديا لمصالح القوة الاستعمارية القديمة. وقد سجل المعطي منجيب، في كتابه «الملكية المغربية والصراع من أجل السلطة» (1992، ص. 66) أن «الحسن الثاني استفاد من الاستعدادات الإيديولوجية والسياسية الجيدة للأوساط العسكرية الفرنسية، وانخرط بكل ما أوتي من قوة في تأسيس جهاز عسكري قوي سوف يستفيد منه القصر سياسيا من أجل إسكات رؤوس حزب الاستقلال وجيش التحرير». وقد تولى الأمير شخصيا تصميم الملابس العسكرية بأثمنة أبهرت بعض الوزراء، ومن ثم اكتسب شعبية كبيرة في صفوف الضباط والجنود.وبُغية إنجاز هذه المهمة الصعبة، كان يتعين على الحسن الثاني أن يبعد المهدي بنبركة، الذي كان هدفه، كما يقال، أن يخضع 9.000 إلى 10.000 رجل من جيش التحرير لهيمنة حزب قد يصبح هو الحزب الوحيد. هذه الفترة هي التي انتهت بالخصوص باختطاف وتصفية أحد قادة جيش التحرير اسمه عباس المسعدي. في كتابه «ذاكرة ملك»، يخصص الحسن الثاني ثلاث صفحات كاملة لهذه القضية. وهذا يبرز الأهمية التي يوليها لهذه القضية. ويحكي كيف أنه ربطته علاقة صداقة بشخص اسمه «الحجاج»، الذي اعترف له بأنه قتل المسعدي بأمر من المهدي بنبركة. غير أن هذه الاتهامات، التي يؤكدها عبد الكريم الخطيب، أحد رجال المقاومة البارزين، وأحد المخلصين للحسن الثاني، يرفضها رفضا قاطعا وبشدة محمد عواد، الذي كان لمدة خمس عشرة سنة كاتبا خاصا للمهدي بنبركة، وموثق حزب الاستقلال قبل الانشقاق. وهكذا، وبعد إقراره بأن بنبركة «سرعان ما دخل في معارضته للأمير»، لأنه كان يرغب في أن يحتفظ جيش التحرير باستقلاليته وبهياكله، وألا يلتحق ب«جيش الملك»، يشدد عواد باقتناع على كون بنبركة لم يقم بتصفية ولم يأمر بتصفية أي من الخصوم السياسيين. يقول عواد في لقاء لي معه: «كنتُ أرى بنبركة كل يوم، وأنا أعرف جيدا أنه كان بعيدا عن ذلك. بل لقد كان يندد بكل هذه الاغتيالات، ويأسف لها كثيرا. وكان يقول ذلك». ويوحي عواد بكون الفقيه البصري، أحد كبار رجال المقاومة، الذي كان يحظى باحترام بنبركة، ويقيم معه علاقات شخصية جيدة، هو من كان وراء اغتيال المسعدي. يقول إن البصري لعب دورا كبيرا في العديد من التصفيات، وكان المهدي بنبركة يعلم ذلك، لكنه لم يكن يرغب في التدخل فيه.أما الصحافية زكية داوود والمؤرخ المعطي منجيب، وهما معا يعرفان التاريخ المغربي معرفة جيدة، فإنهما يعتمدان رواية وسطية. تقول زكية داوود في كتابها «بنبركة.. حياة وموت»، الصادر سنة 2000: «يؤكد خصوم المهدي بنبركة أنه، انطلاقا من رغبته في إدماج جيش التحرير في كنف الاستقلال، عمد بكل بساطة، بواسطة أحد رجاله، إلى تصفية ضامن ورمز جيش التحرير. أين تكمن مسؤولية المهدي بنبركة؟ يؤكد الموالون له، بل وحتى شخصيات لم تكن تحبه من الاتحاد المغربي للشغل، أن بنبركة ليست له أية يد في هذا الاغتيال. وبالنسبة إلى المدافعين عنه، فإن عمله على التقريب بين الجماعات المستقلة داخل جيش التحرير وحزب الاستقلال هو الذي جعل الشكوك تحوم من حوله. ولا بد أن الحقيقة توجد بين هاتين الروايتين».ويورد هذان الكاتبان كذلك شهادتين اثنتين لكل من شارل أندري جوليان ولأحد المناضلين السابقين من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مفادهما أن «المهدي بنبركة نفسه لم يكن يشعر بكونه بريئا براءة تامة».ومن خلال الاستفادة من هذا الحادث، نجح مولاي الحسن، المقنع جدا وبمساعدة عبد الكريم الخطيب، في تفكيك جيش التحرير وإدخال جزء كبير منه في صفوف القوات المسلحة الملكية التي كانت قيد التشكل. ويروي الدكتور كليري أنه بمناسبة هذه المساومات، وكان وقتها مرافقا للأمير، حاول «بعض الغاضبين الجامحين» الهجوم عليه وقتله، غير «أنني لم أتمكن من البقاء على قيد الحياة إلا بفضل تدخل كريم وشجاع من الأمير».