لعل الأكثر دهشة وغرابة عندما نرى مسئولاً أو رئيساً يمعن في القتل والجرائم بحق شعبه , ثم يغسل يديه منها , بل ويصل الحد إلى عدم الاعتراف بوقوعها!! ، لم أعرف عبر التاريخ أن يصل الحد إلى هذا الزيف والتزييف للوعي والاستهتار بالعقل الآدمي ، بقدر ما أوغلت به وسائل الإعلام السوري .مضى على الانتفاضة الشعبية في سوريا حتى اليوم أكثر خمسة أسابيع ، لم يحلم في بدايتها الطفل الذي خربش على الحائط إلا بأن يكون رجلا يصنع الحرية كما صنعها أبناء تونس ومصر..لكن هذا الشعب ، الذي لفظ عمراً كاملاً من الخوف ومن العسف والقمع والفاشية وخرج من شِباك النظام محرراً يديه ومطلقاً العنان لحنجرته المخنوقة دهراً بحساب العذاب والألم , لا يرغب بأكثر من أن يعيش فوق أرضه كإنسان ويعامل كإنسان ، يقرر لأنه ابن الشعب ، يساهم في بناء وصنع الوطن وتطويره ، نفض عن رقبته ذل السلاسل وعن معصميه ذل القيود ..إنه الامتداد المشرقي لكل هؤلاء ، فماذا يعيبه ؟ وأين يقع العيب ؟ وضع النقطة فوق الحرف وشَرَّع صدره للريح.. طالباً حقه الضائع.. كان يعلم أن مصيره ربما يكون الموت..لأنه يقرأ تماماً نوع من يقبع فوق رأسه منذ عقود ومن امتلك زمام الوطن والأمر والنهي فيه بلا حدود ، وأقصاه عن الفعل وعن العمل.. جعل منه دابة تأكل وتشرب وتمشي إلى حتفها.. لكنه اتخذ قراره وعزم أمره وسار كي لا يسجل التاريخ عاراً لم يعرفه أسلافه. نادى بالحرية، نادى بإصلاح القوانين ، نادى بالبناء..لم ينادي في البدء بأنه يريد قلب الكرسي على من يمسك به ، لكن من يتمسك بالكرسي..لا يعترف له بوجود أو حق.. فقدم حتى الآن , أي بعد خمسة أسابيع قليلة من الدماء الزكية أكثر مما قدمت مصر خلال فترة انتفاضتها كلها ... والتي تعد 80 مليون نسمة ..!! إن حسبناها بالمعنى النسبي للسكان....وما زال حتى اليوم لم يحقق شيئاً من المنشود الذي أخرجه عن صمته وأطلق له عنان الثورة على الظلم وعلى البغي ، تُوَجه له كل التهم وكل الألقاب.." عصابات سلفية ، مندسين ، خونة ، مخربين ، عملاء مرتبطين بالخارج ،متآمرين..الخ .." وحده النظام من يملك الحق في التقييم .. وحده النظام من يستطيع الحفاظ على وحدة الوطن ، وحده النظام من يحمي المواطن والوطن ، وحده النظام من يحارب المؤامرة ، وحده النظام وإعلامه من يملك المصداقية ، ولا يسمح لأي إعلام صديق أو قريب أو غريب بدخول مناطق الثورة ..لأن الجميع موضع شك..!! حتى إعلام النظام لا يدخل التظاهرات ولا يصورها، بل ينكر حتى وجودها..!! وحده النظام من يحق له التغيير متى شاء وكيفما شاء ، وحده النظام من تتغير القوانين لتناسب مقاسه ولا تتغير من أجل المواطن إلا بدراسات طويلة ومعقدة يلزمها الوقت لأكثر من أربعة عقود أو أجيال! حسب رأي الرئيس لأن النظام لا يرى فيك أيها المواطن أي نضج أو قدرة على بناء دولة ديمقراطية !! لكن النظام وأهله فقط هم الناضجون..فقد قَدِموا إلينا على محفات ربانية من عالم الغيب ومن منتج غير بشري متفوق على البشر وعلى الناس في بلاد لم تنضج بعد !! نرى شاباً يفتح صدره للمدرعات ويقف بوجهها ، مد ذراعيه يستقبل الرصاص ، ارتدى كفنه مودعاً أمه طالباً إليها ألا تحزن..لأنه منذور للوطن.. راحت الدماء تراق بسهولة على أيدي البلطجية من رجال أمن وشبيحة ولجان شعبية ..كلها مُجَيش من أجل بقاء النظام ، كلها مستعد للقتل والسحل والتمثيل والإهانة وبث كل أنواع الرعب والإذلال..من أجل هذه الحفنة المنتفعة والمرتزقة تحت ذيول وعلى موائد النظام.. أما الشعب كل الشعب ، فعليه أن يبقى في خانة العبيد..ربما يكفي مشهد ما حدث لأهل " البيضا قرب بانياس"!! ، والذي جال العالم واستنكرته وحوش الغابة ، بل خجلت منه واحمرت أمامه وجوه المحتل الإسرائيلي ، ليعطي دليلاً قاطعاً على مدى الحقد الأعمى ، الذي يمكن لمواطن سوري أن يحمله ضد أخيه المواطن الآخر بفعل غسيله وجدانياً ووطنياً وعلفه كما التنابل..بخطاب مرفوض وممجوج بعيد عن أي عقل أو حس أو خلق بشري ، لكنه النوع المهم لما يريده النظام من مواليه وأتباعه ، علماً أن ما يحدث للمعتقلين في أقبية النظام وللجرحى أو لطريقة القتل البشعة والمُستنكَرة المتعَمدة أكبر من أن تصوره عدسة شاهد عيان..أو توفر له اللغة صورة صادقة من قلمٍ بارع . لم يقتصر أبواق النظام وإعلامه على الكذب والتلفيق واستنكار حدوث المظاهرات أو جرائم القتل ، بل شُوِّهت بأنها عبارة عن " تمثيليات وأن الدماء ما هي إلى صباغ أحمر!، ثم عَدَّلوه فقالوا أنها دماء إنسان حقيقية تُسكب ليصور بعدها الفعل على أنه من أجهزة الأمن..! " لكني لا أدري كيف يمكن لهذه التمثيليات أن تصور جثامين الشهداء وجموع المشيعين يزفونهم إلى المقابر!، هل يصل الأمر بالمتظاهر أن يرضى بالدفن حياً كي يدين النظام وجرائمه ..؟! نعم مَن يمكنه أن يكذب بأن جموع المصلين الخارجين من المسجد إلى مظاهرات تندد بالنظام وتطالب بالحريات على أنها " مظاهرات لمصلين خرجوا يبتهلون للرب مانح المطر يشكرونه على نعمة الماء..!! " إعلام يستطيع قلب الأمور على هذه الصورة قادر على اختراع طلاسم وحيل وأكاذيب لا تُضحِك ولا تنطلي إلا على أمثالهم من الأغبياء ، لأن الشعب السوري نفض عن عقله تلك القشرة السميكة أو الهلامية التي غلف بها النظام عقل المواطن خلال أربعة عقود مستغفلاً ذكاءه ومزوراً قدرته على الإدراك والتفريق والاستيعاب والتمييز بين ما هو حقيقي وما هو زائف ومخادع ، قد مُزِّقت بفعل جرائم النظام وأزلامه وأمام حجم وهول القتل..وفداحة الثمن الذي دفعه ومازال.. لا ندري متى سيتوقف ..؟! قد وضعت جداراً كبيراً وسوراً فاصلاً مانعاً عن إقامة أي ثقة ومنع أي تواصل بين الشعب والنظام..فكيف يتواصل القتيل مع القاتل ؟! كيف يتواصل من خرج سلمياً يطالب باستعادة حقه في كرامة هُدرت وفي حقوق هُضمت ، وقوانين عسف وظلم طَغت وتجبرت ، ومحاكم لا علاقة لها بالمحاكم العادلة والمنصفة حتى بالشكل..الصوت العالي والقاضي فيها لرجل الأمن وعصا السلطة ، في الحلقة الأصغر من قمة النظام ، وكل من يواليه ويدافع عنه غرق في الفساد والنهب إلى درجة التوحش، وإن دافع عن النظام فإنه يدافع في حقيقة الأمر عن استمرار وجوده بالصورة التي تعود عليها ، حلم ورسم وسرق واعتدى وبالغ .. فهو المرعوب اليوم والخائف المدافع باستماتة عن مصلحته..يخاف عمن يسأله يوماً..عمن يسائله.. يعلم يقيناً حجم ما اقترف وإلى أي حد غرقت يديه في وحل الخراب وتعميمه.. فإن ترك الأمر للمتعطشين للحرية والعدل.. فهذا يعني نهايته..ولا يمكنه أن يسمح بأن ينتهي ويُسأل.. من باب منطق الأمور.. يطلق النظام صيحة التآمر والفتنة الطائفية..هكذا يريد للصورة أن تتكون وهكذا يسعى إلى تهويلها وتصويرها..يرد عليه المتظاهرون بالتوحد والتمسك بالوحدة الوطنية صوتاً وفعلاً..يسير العلوي والدرزي والمسيحي ، يقع الاسماعيلي والسني وتختلط دماءهم..تفتح الكنيسة أبوابها لتستقبل الجرحى أسوة بالمسجد..ومع هذا يصر النظام على أنها " فتنة"! ..هكذا يريدها ..نظام يزرع بيده الفتنة يبثها ، يُسّوق لها..يُشعلها ..يرسل شبيحته المنادية " يا بشار لا تهتم ..عندك ناس بتشرب دم "..نعم هي تعتاش على الدماء..دراكولا الليل....أرانب أمام المحتل....لم تقف يوماً بوجه محتل أو مستبيح لأرضه ولسمائه وسيادته عليها !!، ولم ترد على عدوان.. لا في عين الصاحب ولا في الكبر. .لا في البوكمال ولا فوق قصر الرئاسة في اللاذقية... لكنها تشرب من دماء أهل البيضا وبانياس وإزرع وداريا والمعظمية ودوما وحرستا وبرزة..حمص ودرعا والقامشلي وحماة والحسكة . .ودمشق..العدد يكبر والمساحة تمتد على رقعة الوطن..لم تبق قرية أو مدينة دون أن تعلن رفضها وتمردها على نظامك يا بشار...يا من تأخذ البلاد إلى الموت..وتحرقها كنيرون..من أجل بقاءك...كل هذه الدماء برقبتك يا بشار.وهذا يثبت أنك لست على قدر المسؤولية. حتى من والوك عقوداً وصفقوا لك ولأبيك في مجلس الدمى" مجلس الشعب " لم يعد بمقدورهم أن يداروا خجلهم أو أن ينظروا بعيون أم ثكلى من قريتهم أو من محافظتهم..لم يتمكنوا مع كل ما زودتهم به من شعارات وما منحتهم من مناصب ومكاسب..أن يبرروا أو يكَّذِبوا كل هذا القتل..فقد عايشوه واقعاً على الأرض البارحة وفي الجُمعات السابقة إلى أن طاف الكيل في الجمعة العظيمة الحزينة..فأعلن من حاول في بداية الانتفاضة أن يكون رسولك ، أن يُطَّوع الناس ، أن يخفف من حدة الحرارة ..أن يساومهم على دماء أبنائهم...لكن الجمعة العظيمة كانت قشتهم أو قشتك الأخيرة..فقد انقصم ظهر البعير...فما بقي أمامهم إلا حفظ ما تبقى من ماء الوجه . على الأقل عدم خسارة أهلهم وأبناء بلداتهم , فها هم بعض النواب في مجلس الدمى المتحركة بخيوط الأمن يعلنون تنحيهم واستقالتهم " ناصر الحريري، وخليل الرفاعي ، إلى جانب تنحي عضو مجلس المحافظة في درعا يمان المقداد ، ومفتي درعا الشيخ رزق أبا زيد ". مع هذا تخرج بعض الأصوات ،مطالبة ببعض التريث ، تطالب المتظاهرين بمنح النظام فسحة من الوقت..ثقة جديدة لمدة محدودة.. !! تسارع الشارع وقلقه المزمن وانعدام ثقته المطاطة لدرجة أنه استثمر كل إمكانيات المط والشد والمرونة فيها لأربعين عاماً خلت ، لم تعد لديها طاقة على الاحتمال ولا الانتظار ولا يمكنها أن تثق بقتلة..لأنه الوقت هو ما يريدونه... هو ما يلعبون عليه ، لأن كل الوقت كان معهم ولقبل أيام معهم ، ومازالت بعض خيوطه بأيديهم ولا تمنعه المظاهرات... فحتى بعد إعلان رفع حالة الطوارئ..مازال الاعتقال اليومي يصول ويجول ويطال كل المحافظات وكل الفعاليات..سواء المعارض منها أم المتظاهر أم المار صدفة أم الصديق لأحدهم أم المتداخل على هذه الفضائية أو تلك..كيف يمكن أن تمنح الثقة لمن يعتقل حتى بعد رفع حالة الطواريء ؟ كيف يمكن منح الثقة لمن لم يطلق سراح أي معتقل منذ بداية هذه الانتفاضة السلمية ؟ كيف يمكن منح الثقة لمن شكل حكومة " تغيير" !! لم يغير من طاقمها القديم أهم الحقائب والوجوه والانتماء الأول لسيادة الحزب القائد للدولة والمجتمع ؟ كيف يمكن منح الثقة لمن أبقى ويبقي على مواد دستورية تعتبر الأهم والرئيسة ؟ ولم يعلن حتى الآن حل حزب السلطة .. كم من الوقت تحتاج رئيس سوريا ؟ وأنت الفرد الملك مطلق الصلاحية وبيدك وبجرة قلم يمكنك إصدار أي مرسوم تشريعي وإلغاء آخر؟!! كيف يمكن أن يثق بك شعب لم يكن له رأي باختيارك وقد ورثته وكأنه جزء من البيت أو عفوا من القصر .. ، الذي كبرت فيه ولا يمكن أن ترى نفسك إلا فيه ..معالق من الفضة بيدك وأوامر تنفذ دون اعتراض ...ووسائل راحة لم تعرف معنى العوز!! , ولو كنت فعلا مُقدِّراً صبر هذا الشعب عليك واحتماله لك ولأجهزتك لتوجهت له ولو مرة ..وهذا ما لم تفعله حتى الآن..في المرتين السابقتين كنت بين المطبلين من مجلس الدمى إلى الحكومة المجتهدة كتلاميذ فصل من مدارسنا الابتدائية، حتى" مبارك وابن علي" تفوقوا عليك قبل تنحيهم وبعده..فأي مصير ينتظره الشعب منك ؟ وأي مصير تنتظره من شعب عاملته بكل هذا التجاهل والاستهتار ؟! , وماذا يمكن لشعب أن يفعل إزاء نعوت وشكوك إعلامك بوطنيته وانتمائه ، وكيف جوبهت جرأته في كسر حصارك وممنوعاتك غير المحدودة لحركته وحريته مستنكراً عليه حقه في التظاهر والاحتجاج فقابلته أجهزة أمنك وشبيحة معاونيك وعائلتك بما لا يمكن لعدو أن يفعل ؟، فماذا تخفي بعد لهذا الشعب في جعبتك يا سيد بشار الأسد ؟! وهل سينتظر شعبك منك المزيد من الإيغال في القتل ؟! أم من المعقول أن تفهم ولو متأخراً كمن سبقوك بالرحيل ؟!! --