أوقعت وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون نفسها بالحرج مرتين خلال جولتها على باكستان والشرق الاوسط. الاولى عندما قالت للمسؤولين الباكستانيين انها لا تصدقهم عندما يقولون انهم لا يعرفون أين يختبئ زعيم تنظيم "القاعدة" اسامة بن لادن. هذا التصريح أصاب القيادة الباكستانية بالدهشة. وعلى الأثر اضطرت كلينتون الى التراجع والى الإيضاح بانها لم تكن تعني بكلامها التشكيك بالحكومة الباكستانية الحليفة للولايات المتحدة في حربها ضد "القاعدة" و"طالبان". والمرة الثانية التي أحدث فيها كلام كلينتون بلبلة، كانت في اسرائيل عندما دعت الفلسطينيين الى تجاوز مسألة تجميد الاستيطان والجلوس الى طاولة المفاوضات مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بلا شروط مسبقة. لا بل انها ذهبت اكثر من ذلك لتصف ب"غير المسبوق" تعهد الحكومة الاسرائيلية عدم بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية او مصادرة أراضٍ جديدة، ثم لتعتبر ان اصرار نتنياهو على بناء وحدات سكنية في المستوطنات القائمة فعلاً أمر صحيح من الناحية "التاريخية". وكان لموقف كلينتون وقع الصاعقة على الفلسطينيين لا سيما الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي بات بعد الموقف الاميركي المستجد هو من يعرقل المفاوضات باصراره على وقف الاستيطان قبل العودة الى طاولة المفاوضات. ولم تُجدِ بعض الايضاحات التي اطلقتها كلينتون في اليوم التالي، لأن الفلسطينيين فهموا الرسالة، وأدركوا ان هناك انقلاباً في الموقف الاميركي. والصدمة التي اصيب بها المسؤولون الفلسطينيون الذين كانوا فعلاً يراهنون على حصول تقدم في عملية السلام خلال ادارة الرئيس الاميركي باراك اوباما، لم يخفف منها قول كلينتون ان الموقف الاميركي من المستوطنات لم يتغير. واذا كان الوضع كذلك فما كان الداعي الى كيل المديح للعرض الاسرائيلي؟ فهل كانت كلينتون مضطرة للوقوع في التناقض، ام ان الكلام الذي اطلقته هو كلام تعنيه فعلاً وكانت تريد معرفة رد الفعل عليه؟ واذا ما رجحنا ان الوزيرة الاميركية تريد الخروج من مأزق العجز عن اقناع نتنياهو بتجميد الاستيطان قبل التفاوض، فإن ذلك احدث ضرراً بموقف ادارة اوباما حيال الفلسطينيين الذين سيتلقون الضغوط عوض اسرائيل من اجل معاودة المفاوضات. وربما كان الانقلاب في الموقف الاميركي الدافع وراء قرار عباس بعدم ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وهو في موقف لا يحسد عليه، إذ انه على رغم كل الدعم الاميركي اللفظي له، لا يجد ترجمة لهذا الدعم على الارض، فالدولة الفلسطينية الموعودة لا تبدو قريبة التحقق في ظل التعنت الاسرائيلي، وعدم الرغبة الاميركية في التدخل لحمل اسرائيل على القبول بالآليات المفضية الى قيام الدولة الفلسطينية، وتالياً يجد الرئيس الفلسطيني نفسه في موقف المحرج حيال الفلسطينيين المعارضين لعملية السلام وتقديم التنازلات لاسرائيل والرهان على غير المقاومة في انتزاع المطالب الوطنية. بعد اسرائيل، تعمل واشنطن الآن على احراج عباس اكثر، ويبدو الفلسطينيون على وشك نفاد الصبر من المناداة ب"حل الدولتين" الذي لا يجد طريقه الى التحقق، فكان تلويح رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات بالتراجع عن خيار الدولتين والمطالبة بحل الدولة الواحدة. لقد أوقع الموقف الاميركي الجديد السلطة الفلسطينية في الحرج. فمن جهة لا يمكن هذه السلطة ان تقدم المزيد من التنازلات وتقبل بشروط نتنياهو للوصول الى دولة منزوعة السيادة، بالكاد تملك نشيداً وعلماً، او القول لا لهذه الشروط والظهور دولياً بمظهر من يرفض السلام. وبالنتيجة لم تكن جولة كلينتون في الشرق الاوسط موفقة، بل انها أدت الى انطباع بأن هذه الجولة محت كل التفاؤل الذي تولّد عن خطاب اوباما في جامعة القاهرة في حزيران الماضي. وتالياً فإن الآمال بقرب التوصل الى حل في المدى المنظور قد تبددت.