مَن التالي؟ سؤال بتنا نطرحه على أنفسنا كل لحظة. مَن منّا سوف يودّع مَن؟ مَن منّا سوف يضيء شمعة لمَن؟ مَن منّا سوف يزرع وردة على اسم مَن؟ وراء نعش مَن سوف نسير غداً؟ أي أمّ سوف تنزوي في ثياب الحداد؟ أي زوجة سوف يطفح كيل حزنها وأساها؟ أي ابنة سوف تقطف وردة ...لروح أبيها؟ الأسئلة تدور وآلة القتل تدور. القتلى يُشيّعون تباعاً والقاتل يحتفظ بابتسامته الصفراء. المفجوعون والمقهورون والحيارى يصلّون لراحة أنفس الضحايا والقاتل يحار: أي ربطة عنق سوف يرتدي هذا النهار؟ البلاد تسبح في دموعها والقاتل يسبح في حمام الحقد والكراهية والحسد. الأرض تهتزّ من هول الجريمة والقاتل متشبث بكرسيّه الهزّاز. الوطن يكاد يمسي جنازةً يومية والقاتل يمشي خلف نعش القتيل. يعزّي أهله ومحبّيه لكنه لا يذرف دموع التماسيح. إنه يبتسم فقط. كل القتلة يبتسمون. ينهض القاتل من نومه كل صباح ويرتدي ابتسامته كما يرتدي ربطة عنقه. الابتسامة قناع. الابتسامة خنجر في الظهر. كم مرّة ابتسم القاتل للقتيل؟ كم مرّة سدّد ابتسامته إلى قلبه؟ الإجرام ليس شكلاً. ليس تقطيب حاجبين أو تكشيرة أسنان. الإجرام ذهنية. كل المجرمين والسفاحين والقتلة غلّفوا جرائمهم بالشعارات، كلهم ادّعَوا العفّة والطهارة. كلهم انتهَوا إلى مزابل التاريخ أو أعواد المشانق. كان الجنرال الفاشي (هو أيضاً) فرانكو طريح فراشه حين تناهى إلى مسامعه هدير الشعب وهو يحيط بالقصر من كل الجهات. فسأل زوجته، وهو في سكراته الأخيرة: ما هذه الأصوات؟ قالت زوجته: الشعب أتى لوَداعك؟ أجابها فرانكو: لوين رايح الشعب؟ لم يفهم الجنرال، ولن يفهم، أن الشعب لا يروع، وأن الذين يروحون بلا أسف عليهم هم القتلة السفلة. فيا فخامة القاتل كفى. إرحل ألا تسمع هدير الشعب الآتي لوداعك؟