لعل الإجابة المنطقية عن السؤال أعلاه هي بالإيجاب؛ اعتمادًا على غير سبب، قد يكون في مقدمتها أنه الأمر الطبيعي؛ لأن كل كيان سياسي واجتماعي يتبنى فكرة معينة عن الحياة، يُتوقع منه أن يسعى إلى تعميمها على الناس، ما استطاع إلى ذلك، سبيلا. ومن الناحية السياسية، وفيما يتعلق بالعالم العربي والإسلامي؛ فإن أمريكا قد تعززت قناعاتُها بضرورة «الإصلاح الديموقراطي» بعد تفجير برجي التجارة العالمية؛ ما دعا إدارة بوش الابن، والمحافظين الجدد إلى تبني سياسات «طموحة» أملت في تغيير المناهج التعليمية، وتخليصها مما ظنوه عوامل للتطرف، و«الإرهاب» كما كثفت إدارة بوش من ضغوطها، حتى على الحكام المتحالفين مع واشنطن، ولم يكن نظام مبارك أبعدهم عن تلك الضغوط. وهنا كان العامل الأفعل هو العامل السياسي. وطوال عقود ظلت أمريكا والدول الغربية تغضّ الطرف عن كل الانتهاكات والمظالم والاستهتار بكل الدعوات ل «الدَّمْقرطة» أو الإصلاح السياسي، وإطلاق الحياة الحزبية، وحرية الصحافة، مقابل حفاظ هذه النظم على ما يُسمّى بالاستقرار، في المنطقة، وفي طيات هذه الكلمة (الاستقرار) المصالح الغربية، من نفط وتبادلات تجارية وعسكرية، وفي قلبها، الحفاظ على حالة اللاحرب مع « إسرائيل» والتمهيد لمعاهدات صلح دائمة معها. والمعنى أن الأسباب الفكرية لم تبلغ أن تكون للغرب، وفي مقدمته أمريكا الدافع الفاعل، ولا أنها قبلت التضحية بمصالحها، في سبيل قيمها. وقد ظل الطابع الغالب على سياسة الغرب تجاه هذه المسألة: شعارات سياسية مغلفة بغلاف الديمقراطية والإصلاح؛ للابتزاز، كما في مصر؛ لدفع النظام إلى مزيد من التزلّف، للغرب، بتعميق التحالف مع إسرائيل، أو لتسويغ الاحتلالات، مع ذرائع أخرى، كما في العراق. وقد يرد السؤال: لِمَ نستبعد الجدية الأمريكيةوالغربية في نشر الديمقراطية في البلاد العربية، والإسلامية؟ يقف أمام تصديق أمريكا غير سبب، منها: أولاً: غلبة النفعية، الرأسمالية على البعد القِيَمي، لصُنّاع القرار، وراسمي السياسة الغربيةوالأمريكية، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها قضية المقراحي الذي أفرجت عنه بريطانيا، على الرغم من الحكم القضائي؛ لصفقة مع النظام الليبي. وحتى أوباما حين خَلَف المحافظين الجدد الذين أنهكوا أمريكا وكثَّروا أعداءها، وكارهيها أعلن أنه لن يسعى إلى فرض الديموقراطية، وكان نهجه العملي يقوم على تغليب الاعتبارات النفعية، والمصلحية، على الأبعاد الأيديولوجية. ولوحظ تضاؤل اهتمام إدارته بملف الإصلاح الديمقراطي في مصر، وبدت إدارتُه، وكأنها تقبل بتبريرات النظام المصري القائلة بالإصلاحات التدريجية، وأن هذا هو ما يلائم مصر. ومثل ذلك يُقال عن دول الخليج التي لا تنخرط في تحوّلات ديموقراطية ترضي الغرب، ومع ذلك، تغضّ أمريكا، والغرب الطرف عنها؛ لتلك المصالح الضخمة المترتبة على حسن العلاقات معها. ثانيًا: البعد الإسلامي: تعلم أمريكا، والغرب، أو اتجاهات فكرية وسياسية فيه، عمق المكانة التي يشغلها الإسلام في أهل المنطقة، ولذلك تظل المخاوف من تغلب الحركات الإسلامية، -بأنواعها، وعلى اختلافها في «التشدّد» أو «الاعتدال»- حاضرة، ففي أزمة مصر الأخيرة ارتفعت الأصوات من السناتور الأمريكي، والمرشح السابق للرئاسة عن الحزب الجمهوري، جون ماكين، بالتحذير من إشراك الإخوان المسلمين في الحكم في مصر. ومثل تلك التصريحات صدرت عن سارة بيلين مرشحة الحزب الجمهوري لنائب الرئيس. وليس بعيدًا عن الأذهان ما قابل به الغرب، وفرنسا جبهة الإنقاذ الإسلامية، حين كانت على وشك الفوز الكاسح بالانتخابات التشريعية الجزائرية في سنة 1991م. ثالثًا: «إسرائيل» المزروعة في قلب المنطقة، خنجرًا مسمومًا، لا ينفك ينزف، ولا نبالغ لو قلنا إن مجمل الاحتقان ودوافع الثورة - ولو لم يحسّ الثائرون بذلك، أو لو لم يصرحوا به- يعود إلى هذا الكيان الذي لا يكف عن استفزاز مشاعر أهل المنطقة، ويذكرهم بانتصاره عليهم، جميعًا، وتهديده لهم، كذلك؛ فلا يملك الغرب، وأمريكا أن تطمئن إلى تحول «ديموقراطي» يمكِّن الشعوب العربية، والإسلامية من اختيار قادتها الذين يعبرون عنها، وفي صميم رغبات الشعوب التخلص من هذا الكيان، أو تأديبه، وتحجيمه، على أكثر المطالب واقعية. ولا يعزب عن راصدي الرأي العام العربي والإسلامي لمن ترتفع نسب التأييد، من القوى السياسية العربية، ولأي الأسباب؛ وهي بوضوح لمن يقاوم هذا المحتل، ولو بالقليل من الإمكانات. ولما كان أمن إسرائيل أمرًا مهيمنًا في السياسات الغربية، بعامة، والأمريكية، بخاصة؛ فإن أي تغير في المنطقة، ولا سيما العربية المحيطة ب«إسرائيل» لن يسمح له بالتحقق إلاّ بعد الاطمئنان إلى الجهة التي يوكل لها أمر الحكم، وقرار السلم، والحرب. وليس بعيدًا عن هذا السياق ما تعاني منه مصر، هذه الأيام من حالة مخاض عسيرة؛ فاقت ما عانت منه تونس؛ لِما لمصر من دور وتأثير. وليس بعيدًا عنا كذلك تلك الأخبار التي تردّدت عن شخصية عمر سليمان نائب الرئيس المصري، والمرتبط بعلاقات قوية مع إسرائيل، وأمريكا، وكيف أن مثل هذه المعلومات، من جهة أخرى، من شأنها حرق هذه الشخصية السياسية والأمنية؛ ما يدل على البون الشاسع بين تطلعات أمريكا والمواصفات التي ترتضيها للزعيم، وتطلّعات الشعوب العربية، ومنها المصري. ويبقى السؤال: ما قصة الصحوة الأمريكية الديموقراطية المفاجئة، ودعوات الإدارة الأمريكية للنظام المصري للتحول الديموقراطي، والإصلاح السريع، وكذا تحذيرات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون من «عاصفة من الاضطرابات بكل معنى الكلمة» تتقدم نحو المنطقة، وحضّها زعماء المنطقة على الإسراع في تطبيق الإصلاحات الديموقراطية الحقيقية، وإلاّ خاطروا بمزيد من زعزعة الاستقرار». بالطبع هذه المواقف لا يصحّ أن تُفهم إلاّ في ضوء التطورات المهمة الأخيرة، في مصر، ومن قبلها تونس، والتغيرات الاجتماعية، وصعود دور الشباب الواعي، والخارج عن السيطرة السياسية؛ ما يهدّد بانفلات الأوضاع، وصعوبة ردّها، إلى سابق عهدها، أو إلى سابق ارتباطها. فلا بد من خطوات استباقية، أمريكية، ومن خطط للاحتواء، تقوم على توسيع المشاركة السياسية؛ لتشمل طاقات شبابية، وحركات لها وزنها، ولا يمكن تجاهلها، حتى لو كانت إسلامية، الطابع، «مكره أخوك، لا بطل» بشرط أن لا تكون المسيطرة، أو المتفردة.