يتذكر العراقيون الشرفاء اليوم، المهتمين بالسياسة والبسطاء منهم، مواقف الرئيس مبارك تجاههم وتجاه بلدهم منذ العام 1990، وكيف ساهم وشارك، وقاد في بعض الاحيان، عملية تدمير بلدهم واخضاعه لحصار ظالم استمر لمدة ثلاثة عشر عاما، ثم تأييده المعلن والمخفي لاحتلال بلدهم. الكل يعرف كيف افشل الرئيس مبارك كل المحاولات التي كان يجريها بعض القادة العرب، وعلى رأسهم ملك الاردن الراحل حسين، من اجل تأمين انسحاب العراق من الكويت بعد احتلاله غير المقبول. وكيف ان كل هذه المحاولات احبطت بعد ان وصلت الى مرحلة متقدمة من قبل الرئيس مبارك. وهذا الكلام لا نطلقه جزافا ومن يريد ان يتأكد من هذا الامر يستطيع ان يعود الى 'الكتاب الابيض' الذي اصدرته الحكومة الاردنية في عام 1991، والذي شرحت فيه محاولات الاردن لاقناع العراق بسحب قواته من الكويت، وكيف ان هذه المحاولات، وبعد ان بدأت تؤتي ثمارها، اصطدمت برفض الرئيس مبارك، مما حد بالملك حسين الى ان يغضب من تصرفاته. لقد سجل 'الكتاب الابيض' ما قاله الرئيس مبارك في اخر حديث تليفوني مع الملك حسين الذي كان يخبره فيه بأنه توصل الى اقناع الرئيس العراقي انذاك بسحب قواته من الكويت، وكيف رد الرئيس مبارك، مما حدا بالملك حسين الى اغلاق سماعة الهاتف غاضبا من جوابه ومحاولاته لافشال الحل السلمي للمشكلة. ولا يمكن لعراقي ان ينسى كيف ان الرئيس مبارك اجهض المؤتمر الذي عقدته الجامعة العربية في محاولة اخيرة لحل المشكلة، وكيف انه تجاوز ميثاق الجامعة، بل خرقه باتخاذ قرار بالاغلبية، في الوقت الذي ينص فيه الميثاق على اتخاذ القرارات بالاجماع ليدين العراق وليسلم الولاياتالمتحدة وبريطانيا ذريعة اخرى لتحشيد الدعم لفكرة الهجوم على العراق وتدميره. كما لا يمكن ان ينسى العراقيون مشاركة حكومة الرئيس مبارك في الحرب على العراق في عام 1991، بارسال قوات مصرية الى حفر الباطن. هذه القوات التي اخبرنا السيد محمد حسنين هيكل كيف ان افرادها، والذين كانوا قد شبعوا بفكرة المشاركة في الهجوم على العراق، كانوا يهتفون بعبارة 'الله واكبر' عندما كانوا يسمعون باخبار اطلاق الصواريخ العراقية باتجاه اسرائيل. (ولو اني سمعت من بعض افراد الجيش العراقي انذاك بان بعض القيادات العسكرية المصرية كانت اقسى من الامريكية في التعامل معهم، بسبب ما عبئوا به ضد العراق انذاك). ولم يهتز الرئيس مبارك للانباء التي اكدت ان الجيش الامريكي دفن ثمانين الف مقاتل عراقي احياء في خنادقهم بالبلدوزرات، لا بل وصل الامر بأحد مفكريه ومريديه الى ان يطلب من القوات الامريكية تدمير السدود العراقية لاغراق بغداد واجبار العراق على التسليم بالهزيمة. اما دوره في اثناء الحصار وتسريبه للمعلومات الى لجان التفتيش وتشديده للحصار ورفضه المساهمة في تخفيفه امورا اخرى لا يمكن ان تمسح من ذاكرة العراقيين بسهولة. اكثر من اي شيء اخر هو علمهم بان العراق كان اكثر من كريم في تعامله مع مصر والمصريين ومعه، بالذات، قبل ذلك التاريخ. وكيف انه استقبل ما يقرب من خمسة ملايين مصري وعاملهم معاملة العراقيين ومنحهم نفس الحقوق، بل واكثر. ولم يشتك منهم في الوقت الذي سمح فيه الرئيس مبارك لاعلامه بالتشكي والتحريض على نحو خمسين الفا من العراقيين الذين لجأوا الى مصر مضطرين بعد الاحتلال، والمطالبة بترحيلهم بدعوى انهم سيؤسسون (دولة شيعية) داخل مصر، هكذا وبكل سذاجة كما ورد على لسان الاعلامي سيء الصيت عمرو اديب في برنامجه التلفزيوني. (بالمناسبة فان اديب هذا حيا، بل حث الاسرائيليين على فعل المزيد بأهل غزة ومن شاشة التلفزيون ايضا). واخير وليس اخرا فان الرئيس المصري ساهم مساهمة فعالة، هو والموالون له من الكتاب والاعلاميين في التمهيد والتأييد لاحتلال العراق في عام 2003. وللتذكير فقط فان الرئيس حسني مبارك كان قد عاش في العراق معززا مكرما لفترة ليست بالقصيرة كضابط طيار في قاعدة الحبانية في العراق، وعُومِل اطيب معاملة من قبل العراقيين، حتى ان آمره في القاعدة عندما شعر بانه في ازمة مالية وعائلية اقرضه مبلغا من المال، اعاده الرئيس بعد سنين من عودته الى مصر. بالتأكيد فان العراقيين استعادوا ذكرياتهم مع الرئيس مبارك وموقفه اثناء العدوان الاسرائيلي الغاشم على غزة الصامدة عام 2010 وكيف تصرفت القيادة المصرية ازاء هذا العدوان الاجرامي. وكيف انه كان ينسق مع القيادة الاسرائيلية في تشديد الحصار على غزة وغلق المعابر والبحث عن وتدمير الانفاق، التي تعتبر بمثابة شريان الحياة بالنسبة لابناء غزة الصامدين والمحتسبين. ان تمادي الرئيس مبارك في سياسته المرتبطة بالولاياتالمتحدةالامريكية والمتعاونة مع اسرائيل وصل الى الحد الذي تصور فيه بان ما يفعله سيجعله باقيا في الحكم طوال حياته، ومن ثم يورث الحكم الى ابنه. واعتقد ان الولاياتالمتحدة واسرائيل سيضمنان له ذلك بالتغاضي عن كل ما يفعله ويزوره من انتخابات. ونسي بان تاريخ السياسة الامريكية مليء بالاشخاص الذين خدموا السياسة الامريكية والذين تُركوا يبحثون عن ملجأ آمن لهم بعد انتهاء صلاحيتهم. اليوم جاءت لحظة شاه ايران، الذي عاش نفس الوهم الذي عاشه ويعيشه الرئيس مبارك. فقبل اكثر من ثلاثة عقود تصور شاه ايران بانه يمكن ان يفعل اي شيء، وهو في مأمن من معارضيه. في بداية الثورة الايرانية اتهم الشاه الشيوعيين والاتحاد السوفييتي بمحاولة الاطاحة به، ثم عاد في ايامه الاخيرة ليعلن وبمرارة ان الغرب والولاياتالمتحدةالامريكية هما من اطاحا به. وعلى الرغم من ان تصريحه هذا غير دقيق لان الثورة الايرانية لم تقم بفعل امريكي وانها كانت ثورة شعبية عارمة في وجه الظلم والديكتاتورية والفساد والفقر، والصحيح في السيناريو انه بمجرد ما شعرت الولاياتالمتحدة بقرب نهاية الشاه تخلت عنه وتركته يستقبل مصيره لوحده. هذا السيناريو يتكرر اليوم في مصر. فكما فعلت الولاياتالمتحدة مع شاه ايران، من دعم ومحاولات للابقاء ثم ارسال مبعوث لمعرفة الحقيقة، ثم التخلي الكامل، تفعله الان مع الرئيس مبارك. وما تأكيد البيت الابيض الاخير بأن ساعة التغيير قد حانت في مصر ومطالبة الرئيس مبارك بالتعجيل في التنحي الا دليل على ذلك. بالتأكيد ان الرئيس المصري اليوم وهو في وحدته وخلوته وخذلانه يستعيد شريط حياته وما فعله مع حلفائه السابقين، ومع من تعاون معه واكرمه سابقا، وما فعله بمصر ومكانتها العربية الكبيرة وبالمصريين الابطال الذين استهان بهم وافقرهم واغتنى هو وحاشيته على حسابهم، اقول في هذه اللحظات الاخيرة اتمنى ان يتذكر الرئيس مبارك ما فعله بالعراق والعراقيين وبالملايين التي دفعت حياتها من اطفال ونساء وشيوخ وشباب نتيجة لسياسته ومساهمته المباشرة وغير المباشرة في الحروب التي شنت عليه من قبل الولاياتالمتحدة وبالحصار الظالم واللانساني، الذي فرض على العراقيين، كي يمضي ما بقي من ايامه يطلب الرحمة والغفران، ولا ادري ان كان دعاؤه سيستجاب، والامر لله العلي القدير. ' د. سعد ناجي جواد: أكاديمي عراقي