لا يقدم جوليان أسانج، صاحب موقع"ويكيليكس" نفسه بأنه صحفي، وإنما يعتبر نفسه بأنه مناضل من أجل الكشف عن الحقيقة، وفي التعريف الرسمي الذي يحمله موقعه يقول صاحبه بأنه يهدف إلى مكافحة الفساد في الحكومات والشركات عن طريق نشر الوثائق السرية التي تخصها ووضعها "أمام الناس العاديين ليعرفوا الحقيقة كما وقعت وليس كما يقدمها الطرف القوي"، على حد قول أسانج نفسه في حواره مع "الجزيرة". وقد نجح حتى الآن هذا الموقع في أن يتسبب في إسقاط حكومة فاسدة مثل الحكومة الكينية. وبنشره لوثائقه الآخيرة أثار الكثير من المشاكل والصعوبات لحكومات دول كبيرة على رأسها حكومة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد رأينا كيف تحالفت حكومات العالم ضد هذا الشخص وأصدرت في ظرف قياسي مذكرة اعتقاله من قبل الشرطة الدولية المعروفة اختصارا ب"الأنتربول". لكن هل كانت تسريبات "ويكيليكس" ستجد كل هذا الصدى الذي لقيته لو لم تتداولها وسائل الإعلام الكلاسيكية من جرائد وقنوات تلفزيونية وإذاعات؟ إن من أعطى زخما أكبر لما ورد في تلك الوثائق المسربة هو تناولها من قبل وسائل إعلام كلاسيكي ذات مصداقية كبيرة، ونجد ذلك في الإفتتاحيات الكثيرة التي كتبتها كبريات الصحف العالمية المسؤولة لتفسير إعادة نشرها لتلك الوثائق التي بثها الموقع المثير للجدل. فأغلبها بررت فعلها بأن ما قامت به هو من أجل خدمة الحقيقة التي تبقى مقدسة، وهي بالفعل لم تقم بالنشر إلا بعدما تأكدت بأن ما تنشره لن يعرض حياة أي شخص للخطر. فهل نحن أمام نوع جديد من الصحافة؟ يصعب الجواب عن مثل هذا السؤال في مثل هذه العجالة وفي وقت يعيش فيه عالم الإعلام ثورة كبيرة في مجال الاتصال والتواصل. لكن الحقيقة هي أننا مقبلين على تحول نوعي في قواعد العمل الصحفي وقد بدأت بالفعل حكومات بعض الدول الليبرالية خاصة الإسكندنافية في التفكير في مراجعة القوانين التي تسمح بتدفق المعلومات وحماية الصحافيين ومصادرهم. علي أنوزلا ويبدو أننا مازلنا لم نستوعب بعد الأثر الذي أحدثته تسريبات "ويكيليكس" على العمل الدبلوماسي نفسه، فآخر موجة من تسريبات هذا الموقع خلقت ارتباكا كبيرا داخل الحكومة الأمريكية وحكومات العديد من دول العالم الذين سيرتاب موظفوها كلما التقوا دبلوماسيا أمريكيا. فأهم ما كشفته لنا هذه التسريبات هو طريقة اشتغال هؤلاء الدبلوماسيين الذين لايتركون أية ملاحظة دون تدوينها ونقلها فورا إلى مسؤوليهم بما في ذلك حتى المعلومات المبنية على الإشاعات الفجة مثل القول فيما يتعلق بأول زيارة للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى المغرب بأن "الصالونات في الرباط" أي كناية عما تتداوله الإشاعة بين علية القوم في الرباط، تتدول خبر استياء سلطات الرباط من طريقة جلوس ساركوزي عند مقابلته للملك محمد السادس، بما انه كان يضع، كعادته، رجلا فوق رجل حتى بدا أسفل كعبه، وهو ما اعتبره الدبلوماسي الذي نقل الإشاعة "مخالفا للتقاليد الإسلامية" ! كما تكشف لنا بعض الوثائق كيف أن رئيس دولة من آسيا الوسطى قايض واشنطن بترتيب لقاء رسمي له مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما مقابل "استضافة" بلاده "خارج القانون" لأحد المعتقلين في إطار حرب أمريكا العالمية ضد الإرهاب ! وإذا ما كانت هناك من دروس يمكن أن نستنتجها من وراء هذه التسريبات الهائلة التي مازالت تتفاعل مفاجآتها مثل قنابل عنقودية يصعب لحد الآن تحديد حجم خسائرها، هو عجز الحكومة الأمريكية، بكل إمكانيتها وأجهزتها، والتي كما كشفت الوثائق المسربة يلجأ بعض موظفيها إلى استعمال أساليب دنيئة مثل التجسس على كبار الموظفين في الأممالمتحدة، أولا: عن عجزها في حماية معلومات كثيرة تعتبرها ذات طابع سري عال. وثانيا: عن عجزها، أمام ضغط رأيها العام، عن القيام بأي عمل كان يمكن أن يوقف أو يخرب موقع "ويكيليكس" قبل نشره لغسيلها على العالم. فقد أثبتت التجربة اليوم بأن تطور وسائل الاتصال الحديثة يتجاوز كل القيود التي تضعها الحكومات أمام تدفق المعلومات. أما الدرس الثاني الذي يهم المهتمين بصناعة الرأي العام فهو هذا التغيير الحاصل في وسائل التأثير على هذا الرأي وطرق صناعته مستقبلا. أما الدرس ماقبل الأخير، لأن هناك دروسا أخرى لن نستطيع أن نكتشفها في الوقت الحالي، فيكمن في قوة المعلومة، مهما بدت لنا تافهة. فقد أثبت الوثائق المسربة مدى حاجة صانع القرار في بلد ديمقراطي مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى أي معلومة حتى لو كانت شخصية أو مبنية على الانطباعات الخاصة قبل صياغة قراره. والملاحقة الأخيرة التي بدأت أشواطها لصاحب موقع "ويكيليكس" تكشف لنا بالملموس عن أن الحرب المقبلة هي حرب معلومات. وهي حرب، مع الأسف، قد تلجأ إلى وسائل لا أخلاقية موظفة القانون لحجب الحقيقة. عندما سألت أسانج "الجزيرة" عن رسالته أجاب بدون تردد :"يجب أن نحمي الناس بتقديم الحقيقة وأن نحمي الحقيقة بوضعها بين يدي للناس". اليوم المطلوب هو حماية أسانج نفسه.