المغرب بين تحد التحالفات المعادية و التوازنات الاستراتيجية في إفريقيا    البطولة: المغرب التطواني يواصل إهدار النقاط بهزيمة أمام الدفاع الجديدي تقربه من مغادرة قسم الصفوة    رئيس الحكومة يتباحث مع الوزير الأول الفرنسي    فرنسا.. قتيل وجريحين في حادث طعن بمولهاوس (فيديو)    أخنوش يتباحث مع وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي    توقيف 6 أشخاص سرقوا سلع التجار أثناء حريق سوق بني مكادة بطنجة    توقيف مواطن فرنسي من أصول جزائرية موضوع أمر دولي    السينما المغربية تتألق في مهرجان دبلن السينمائي الدولي 2025    في تنسيق بين ولايتي أمن البيضاء وأسفي.. توقيف شخص متورط في النصب والاحتيال على الراغبين في الهجرة    الوداد الرياضي يتعادل مع ضيفه النادي المكناسي (0-0)    الصويرة تحتضن النسخة الأولى من "يوم إدماج طلبة جنوب الصحراء"    غرق ثلاثة قوارب للصيد التقليدي بميناء الحسيمة    الركراكي: اللاعب أهم من "التكتيك"    البطلة المغربية نورلين الطيبي تفوز بمباراتها للكايوان بالعاصمة بروكسيل …    مبادرة "الحوت بثمن معقول".. أزيد من 4000 طن من الأسماك عبر حوالي 1000 نقطة بيع    الرئيس الفرنسي يعرب عن "بالغ سعادته وفخره" باستضافة المغرب كضيف شرف في معرض الفلاحة بباريس    الملك يبارك يوم التأسيس السعودي    عجز الميزانية قارب 7 ملايير درهم خلال يناير 2025    تشبثا بأرضهم داخل فلسطين.. أسرى فلسطينيون يرفضون الإبعاد للخارج ويمكثون في السجون الإسرائلية    نهضة بركان تسير نحو لقب تاريخي    "البيجيدي" مستاء من قرار الباشا بمنع لقاء تواصلي للحزب بالرشيدية    دنيا بطمة تلفت أنظار السوشل ميديا    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    "الصاكات" تقرر وقف بيع منتجات الشركة المغربية للتبغ لمدة 15 يوما    مشروع قرار أمريكي من 65 كلمة فقط في الأمم المتحدة يدعو لإنهاء الحرب في أوكرانيا دون الإشارة لوحدة أراضيها    مساءلة رئيس الحكومة أمام البرلمان حول الارتفاع الكبير للأسعار وتدهور الوضع المعيشي    زخات مطرية وتساقطات ثلجية مرتقبة بعدد من المناطق المغربية اليوم    في حضور أخنوش والرئيس الفرنسي.. المغرب ضيف شرف في المعرض الدولي للفلاحة بباريس    رئيسة المؤسسة البرازيلية للبحث الزراعي: تعاون المغرب والبرازيل "واعد" لتعزيز الأمن الغذائي    لاعب الرجاء بوكرين يغيب عن "الكلاسيكو" أمام الجيش الملكي بسبب الإصابة    رفض استئناف ريال مدريد ضد عقوبة بيلينغهام    الكوكب المراكشي يبحث عن تعزيز موقعه في الصدارة عبر بوابة خريبكة ورجاء بني ملال يتربص به    بين العربية والأمازيغية: سعيدة شرف تقدم 'الواد الواد' بحلة جديدة    إحباط محاولة تهريب مفرقعات وشهب نارية بميناء طنجة المتوسط    "العدل والإحسان" تدعو لوقفة بفاس احتجاجا على استمرار تشميع بيت أحد أعضاءها منذ 6 سنوات    السحب تحبط تعامد أشعة الشمس على وجه رمسيس الثاني    متابعة الرابور "حليوة" في حالة سراح    استثمار "بوينغ" يتسع في المغرب    تحقيق في رومانيا بعد اعتداء عنيف على طالب مغربي وصديقته    فيديو عن وصول الملك محمد السادس إلى مدينة المضيق    الصحراء المغربية.. منتدى "الفوبريل" بالهندوراس يؤكد دعمه لحل سلمي ونهائي يحترم سيادة المغرب ووحدته الترابية    الصين تطلق أول نموذج كبير للذكاء الاصطناعي مخصص للأمراض النادرة    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    دراسة: هذه أفضل 4 أطعمة لأمعائك ودماغك    رفع الستار عن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان روح الثقافات بالصويرة    تقدم في التحقيقات: اكتشاف المخرج الرئيسي لنفق التهريب بين المغرب وسبتة    حوار مع "شات جيبيتي".. هل الأندلس الحقيقية موجودة في أمريكا؟    "ميزانية المواطن".. مبادرة تروم تقريب وتبسيط مالية جهة طنجة للساكنة    لجنة تتفقد المناخ المدرسي ببني ملال    المؤتمر الوطني للعربية ينتقد "الجائحة اللغوية" ويتشبث ب"اللسانَين الأم"    الحصبة.. مراقبة أكثر من 9 ملايين دفتر صحي وتخوفات من ارتفاع الحالات    من العاصمة .. الإعلام ومسؤوليته في مواجهة الإرهاب    على بعد أيام قليلة عن انتهاء الشوط الثاني من الحملة الاستدراكية للتلقيح تراجع نسبي للحصبة وتسجيل 3365 حالة إصابة و 6 وفيات خلال الأسبوع الفارط    6 وفيات وأكثر من 3000 إصابة بسبب بوحمرون خلال أسبوع بالمغرب    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمدي نجاد في حلقات التاريخ
نشر في السند يوم 07 - 11 - 2010

الواقع لا يبقى واقعا، والقوي لا يبقى قويا، كما أن الضعيف لا يبقى بالضرورة ضعيفا، والتاريخ في حالة تغير مستمر. لقد تحدث المؤرخون مطولا عن مراحل التاريخ وعدم استقرارها على نمط معين، وأوضح فلاسفة السياسة صراع المتناقضات وصراع الأضداد قائلين بأن كل واقع يحمل في الداخل نفيه، أو أن لكل مقولة مقولة مضادة تصارعها، فينتج عن الصراع وضع جديد يحمل في داخله نفيه أو تحديا لاستمراره.
وقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات الكريمة التي تتحدث عن سنن الأولين والهزات التي تعرضت لها وغيرتها بصورة جذرية. ويتحدث القرآن الكريم عن الصراع بين الحق والباطل والذي يستمر إلى يوم الدين، وهو صراع يكشف في النهاية المزيد من الحقائق التي تؤثر في الواقع فتغيره.لا تشذ المنطقة العربية الإسلامية عن سيرة التاريخ، ولعل هذا ما يفسر ارتفاع وتيرة الصراع الداخلي في العديد من المجتمعات والدول العربية والإسلامية. حالة الوعي بالمرحلة التاريخية من مختلف زواياها الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية تتصاعد في انتشارها وكثافتها، ولا مفر إلا أن تعبر عن نفسها بهذه الطريقة أو تلك، وكلما واجهت سدا منيعا يحول دون هذا التعبير، تغلب العنف على طابع الصراع بين ما هو قائم وبين قوى التغيير.
الثبات ليس من سمات التاريخ، وحركة التغيير لا بد أن تأخذ دورها وتدور عجلتها، وإن لم تكن أنت الذي يحركها، فإن غيرك يحركها، وإن لم تكن معجبا بما يقوم به غيرك، فما عليك إلا أن تندب حظك لأن العجلة ستأخذك في طريقها.
قوى التغيير متصاعدةعلت في المنطقة العربية الإسلامية بعد الحرب العالمية الثانية أصوات الوحدة والتغيير والتقدم، واعتلى العروش حكام تحدثوا بآمال الناس وطموحاتهم، ومنهم من استطاع أن يستقطب العقول والقلوب على أمل أن يرفع من المستوى الحضاري للأمة، ويحقق لها ما وعدها به.
لكن هذه المرحلة اندثرت تحت وطأة الهزائم متعددة الأشكال والألوان، فظهر جيل جديد يعيد التفكير في الأساليب والوسائل السابقة، ويفكر بوسائل ومقاربات جديدة من أجل تغيير الوضع القائم. هناك من ضحوا وطحنتهم الأنظمة العربية والإسلامية، وهناك من تراجعوا محبطين يائسين، وهناك من فشلوا، وهناك من استمروا في محاولاتهم.
كانت حركة الإخوان المسلمين على رأس تلك القوى التي استمرت بعمل دؤوب بطيء، وما زالت على أمل تغيير الواقع بسلاسة ودون إراقة دماء، أما الحركات القومية فأصيبت بضربات قاسية ما زالت تحد من قدراتها على النهوض. أما المقاومة الوطنية الفلسطينية ففشلت ووصلت إلى درجة القبول بالواقع كما هو، والحركات الوحدوية انكفأت.
ولد الفشل مراجعات للمقاربات والوسائل والأساليب، فظهر تنظيم القاعدة الذي صنع أحداثا أدت في النهاية إلى حروب كبيرة في المنطقة العربية، وأجبر الدول الغربية على اتباع سياسات داخلية وخارجية أثرت على مجمل النشاطات الاقتصادية والعسكرية والأمنية والتحالفات الخارجية.
وظهرت حركات جهادية في أفغانستان غيرت الوضع السياسي القائم، وتطورت طالبان التي ما زالت تقاتل حتى الآن دولة عظمى، وظهرت المقاومة العراقية التي أفسدت على أميركا مشاريعها الاستعمارية. والمسألة هنا لا تتعلق بتقييم الشخص لهذه التنظيمات وما إذا كانت على صواب أو على خطأ، وإنما بقدرتها على صناعة التاريخ، وبدور القمع والاستبداد والاستغلال والاستعباد في ظهورها وتزايد قواها والمؤيدين لها.
على مستوى الدول، هناك من بقي غير مرتاح للوضع العربي والإسلامي مثل العراق في عهد صدام حسين، وسوريا الآن والسودان وماليزيا، لكن دون تصاعد عدم الارتياح إلى درجة التحدي، وذلك لأسباب لا ضرورة للخوض بها هنا.
فقط إيران هي التي شهدت تطورات كبيرة تتميز بروح التحدي للقوى التقليدية الحاكمة في المنطقة العربية الإسلامية، والمهيمنة على المستوى العالمي. ولهذا كان تقديري عام 1979، وكما ورد في كتابي المعنون "سقوط ملك الملوك"، أن إيران ستتعرض لتآمر وحروب بهدف إسقاط نظام حكمها الجديد، والعودة بعقارب الساعة إلى الوراء، وذلك لأن القوى المهيمنة والمسيطرة داخليا وخارجيا لا تأذن بالتغيير، ولا تسكت على التحدي.
هذه هي سيرة التاريخ: تتمسك القوى المستفيدة بالواقع القائم، ولديها الاستعداد لشن حروب وسفك دماء من أجل أن يبقى الوضع القائم قائما. وبالفعل تعرضت إيران لحروب وحصار، وما زالت تتعرض لحصار تتصاعد شدته، وتتعرض للتهديد بالحرب بما فيها الحرب النووية.
نتيجة للدعم الإيراني، نشأ تنظيم حزب الله في لبنان الذي اتبع أساليب تنظيمية وأمنية وعسكرية جديدة لم تعهدها المنطقة من قبل، واستطاع أن يقلب المعادلة اللبنانية عامي 1983 و 1984، وأن يطرد الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، وأن يصمد أمام الجيش الإسرائيلي عام 2006، ويحول دون تحقيق أهداف إسرائيل.
من الناحية التاريخية، لا قيمة في النهاية لمواقف الحب والكراهية لإيران أو لحزب الله، وتنبع الأهمية التاريخية فقط من القدرة على صناعة الحدث وإحداث التغيير على أرض الواقع. هل حزب الله قادر على التحدي وصناعة التاريخ أم لا؟ هل إيران قادرة على صناعة التاريخ أم لا؟ الجواب بالتأكيد متوفر لدى القوى التي تقاتل من أجل إبقاء الماضي حاضرا ومستقبلا، وهو ظاهر في سياساتها الموجهة نحو إلغاء الحاضر والسير بالمستقبل باتجاه الماضي.
وإذا كان هناك من يرى في إيران وحزب الله عدوين فعليه أن يطور أساليبه ووسائله ليكون قادرا على وأد تطورهما، وعلى الذي يرى فيهما خيرا أن يلحق بركبهما.الرئيس نجاد في لبنانلم تكن زيارة الرئيس الإيراني للبنان عادية أو تقليدية، وإنما كانت عبارة عن حلقة من حلقات صراع الأضداد الواعي، وصراع المتناقضات الواعي في المنطقة. إنه صراع الأضداد من حيث إن قوى في المنطقة تعمل عن وعي على تغيير واقعها ووفقا لرؤية واضحة لا تتناسب مع القوى التقليدية الحاكمة، وصراع متناقضات من حيث أن قوى خارجية تتناقض تماما مع فكرة استقلال المنطقة ككل أو كأجزاء.
واضح أن الرئيس الإيراني كان يتعمد التحدي، وأراد إيصال رسالة بأن مرحلة التحفظ والتردد قد انتهت، وأن إرادة التغيير متوفرة تماما ومدعومة بقوة مادية ظاهرة للعيان. ويمكن تحديد هذا التحدي بالنقاط التالية:
1- الزيارة هي للبنان التي تعد حلقة إستراتيجية في ميزان القوى الإقليمي، والذي تعمل الولايات المتحدة وإسرائيل وأنظمة عربية على حسمها لصالحها على مدى سنوات طويلة. تشكل لبنان ميدان تفاعلات ثقافية وفكرية وأمنية وعسكرية وسياسية هامة لمختلف القوى الإقليمية منذ أقيمت كدولة، وهي ما زالت تحتفظ بمكانتها، وتستقطب الصراعات المتنوعة الدموية وغير الدموية.
تعرضت لبنان الرسمية لضغوط كبيرة من أجل عدم إتمام هذه الزيارة، لكن ضغط القوى الساعية إلى التغيير والمدعومة من إيران ماديا أو معنويا تغلب على رغبات الفريق الآخر. وهذه نقطة كبيرة سجلها الرئيس الإيراني لصالحه في ميدان الصراع.
2- حمل الرئيس الإيراني معه جهازا علميا خاصا بأبحاث النانو في إشارة واضحة منه إلى أن إيران قد بلغت من التقدم العلمي والتقني ما يجعلها في مصاف الدول المتطورة علميا وتقنيا. ومن يستطيع تطوير هذا الجهاز يكون قد بلغ من أمر التطوير العلمي والتقني مستوى رفيعا يؤهله لمختلف الصناعات الإلكترونية العسكرية والمدنية، ويمكنه من تطوير أسلحة قادرة على التصدي لأسلحة الدول الغربية.
ويبدو أن الرئيس الإيراني قد اكتفى بهذا الجهاز عوضا عن حمل الصواريخ والدبابات والأسلحة الإشعاعية. أساتذة الفيزياء والسياسيون الواعون للحركة العلمية العالمية يعرفون تماما قيمة هذا الجهاز الإستراتيجية.
3- (لو) كانت إيران ضعيفة، لأتى الرئيس الإيراني إلى لبنان في زيارة أرنبية (من سلوك الأرنب) متسمة ببعض المراسيم وحفلات الطعام البروتوكولية والفذلكات الخطابية. وإذا كان له أن يزور جنوب لبنان لفعل ذلك مثل الخروف الوديع الذي يبحث عن عشب يتلهى به. أخذت زيارته لجنوب لبنان بعدا شعبيا، واستقبلته الجماهير التي تشعر بوحدتها معه وجدانيا وسياسيا، وامتازت بخطاب غير تقليدي موجه ضد إسرائيل التي اكتفت بإطلاق النفوخات (البالونات) الخاوية.
هناك من لام الرئيس الإيراني أو انتقده بسبب ما وُصف بتجاوز السيادة اللبنانية والخروج عن أصول زيارات رؤساء الدول. من الناحية الإستراتيجية، هذا لوم أو انتقاد لا قيمة له، لأن الزيارة عبر عن جزء لا يتجزأ من الجدل التاريخي الذي لا يمكن أن يتنحى لصالح مراسيم موسيقية وحرس شرف. ذلك عدا عن أن الحديث عن السيادة لا معنى له في ظل أوضاع عربية متدهورة تفتقر إلى حرية الإنسان وسيادة الدول.
استياء أنظمة عربيةاستاءت أنظمة عربية عدة من زيارة الرئيس الإيراني، واستاء معها من يدور في فلكها من الناس، ووجهت وسائل الإعلام قذائفها الإعلامية على إيران ورئيسها، ولم يبخل كتاب عرب بانتقاد الزيارة وتصوير ما رأوا أنه بشاعة وهجمة شيعية على أهل السنة.
هذا أيضا لا قيمة له من ناحية الصراع الإستراتيجي لأن أغلب الأنظمة العربية معلقة بذيل القوى الغربية المتنفذة تقليديا. توجه الزيارة رسائل لأهل الغرب وليس لأنظمة عربية لا تستطيع الاستمرار دون الدعم الأمني والعسكري والاقتصادي والمالي الإسرائيلي والأميركي. وإذا قررت أميركا غدا التعاطي مع إيران والجلوس معها على طاولة التفاهم بشأن المنطقة فإن هذه الأنظمة العربية لن تكون إلا مجرد جوقة لتبجيل الأميركي.
أمام الأنظمة العربية أن تدرس الزيارة وأن تقرر فيما إذا كانت تريد السير بركب التغيير، أو المساعدة في كبح الجماح والمحافظة على الوضع القائم. إذا قررت السير في ركب التغيير فإنها تحكم على نفسها بالإعدام لأنها تمثل الماضي ولا علاقة لها بالمستقبل، وإن أرادت أن تبقى ذيلا فعليها أن تستمر في استنزاف الطاقات العربية لصالح القوى الأجنبية مما يعزز قدرة إيران على استقطاب الجماهير العربية. وكيفما كان خيارها فإنها خاسرة، وهذا هو شأن كل من لا يملك إرادة حرة.
وحيث إن قوى التغيير في المنطقة العربية الإسلامية ضاغطة، فإن قوى المحافظة على الوضع القائم تعمل جاهدة على وقف عجلة التاريخ. هذا واضح في محاولات صناعة فتنة مذهبية بين السنة والشيعة من قبل أميركا وإسرائيل وأنظمة عربية وبعض رجال الدين من شيعة وسنة.
الفتنة مهمة جدا من الناحية التكتيكية لأنها لا توقف عجلة التاريخ فقط، وإنما تعيد العجلة إلى الوراء قرونا عديدة. على المسلمين سنة وشيعة أن يعودوا إلى معارك الجمل وصفين وكربلاء لتصفية حساباتهم الداخلية، وبذلك يتخلفون بالمزيد عن المستويات الحضارية التي وصلها العالم الآن على كل المستويات. طبعا الأنظمة العربية لا تنتمي للحاضر، وهناك من المسلمين سنة وشيعة من لا يزال يعيش في لجج التاريخ، ويرى أن التقدم لا يتأتى إلا بالسير إلى الخلف.
اللجوء إلى فكرة الفتنة المذهبية يشكل خطرا على جمهور الناس، لكن قيادات التغيير سواء على المستوى الإيراني أو العربي واعية تماما لهذه المسألة وتحاول دائما تجنب الصدام الفتنوي لما فيه من مخاطر كبيرة على الأمة، ومن فائدة ضخمة لإسرائيل وأميركا. فضلا عن أن الفتنة لا تنفع إلا في حالات غياب الوعي، وظاهر أن المنطقة قد تجاوزت هذا الغياب، وأن الوعي هو المحرك الأساسي لقوى التغيير.
نزيف الدمهناك من يحاول أن يكون "عقلانيا" في تحليله فيقول إن الدم الفلسطيني ما كان لينزف لولا المقاومة الفلسطينية، وإن الدم العراقي ما كان لينزف لولا المقاومة العراقية. ويضيف أن إيران تقود المنطقة إلى حالة عدم الاستقرار الدموي.
والمعنى أن محاولات التغيير مكلفة جدا، ومن الأفضل القبول بالواقع كما هو، مع محاولات إقناع الأقوياء بحقوق الضعفاء. هذا هو جدل التابعين للقوى المسيطرة والمستفيدة عادة من الناحيتين المادية والمعنوية.
هذا جدل ساقط تاريخيا لأن القوي لا يمارس الظلم من أجل إقامة العدل، وعصا الظالم لا يكسرها استجداء. من الصعب على عاقل أن يجيز إراقة الدماء، لكن عجلة التاريخ لا بد أن تستكمل سيرها. وإذا كان هناك من يحزن على دم يسيل، فعليه أن يحزن أيضا على أمة تعيش خنوع الذليل الواقع لا يبقى واقعا، والقوي لا يبقى قويا، كما أن الضعيف لا يبقى بالضرورة ضعيفا، والتاريخ في حالة تغير مستمر. لقد تحدث المؤرخون مطولا عن مراحل التاريخ وعدم استقرارها على نمط معين، وأوضح فلاسفة السياسة صراع المتناقضات وصراع الأضداد قائلين بأن كل واقع يحمل في الداخل نفيه، أو أن لكل مقولة مقولة مضادة تصارعها، فينتج عن الصراع وضع جديد يحمل في داخله نفيه أو تحديا لاستمراره. وقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات الكريمة التي تتحدث عن سنن الأولين والهزات التي تعرضت لها وغيرتها بصورة جذرية. ويتحدث القرآن الكريم عن الصراع بين الحق والباطل والذي يستمر إلى يوم الدين، وهو صراع يكشف في النهاية المزيد من الحقائق التي تؤثر في الواقع فتغيره.لا تشذ المنطقة العربية الإسلامية عن سيرة التاريخ، ولعل هذا ما يفسر ارتفاع وتيرة الصراع الداخلي في العديد من المجتمعات والدول العربية والإسلامية. حالة الوعي بالمرحلة التاريخية من مختلف زواياها الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية تتصاعد في انتشارها وكثافتها، ولا مفر إلا أن تعبر عن نفسها بهذه الطريقة أو تلك، وكلما واجهت سدا منيعا يحول دون هذا التعبير، تغلب العنف على طابع الصراع بين ما هو قائم وبين قوى التغيير.الثبات ليس من سمات التاريخ، وحركة التغيير لا بد أن تأخذ دورها وتدور عجلتها، وإن لم تكن أنت الذي يحركها، فإن غيرك يحركها، وإن لم تكن معجبا بما يقوم به غيرك، فما عليك إلا أن تندب حظك لأن العجلة ستأخذك في طريقها.قوى التغيير متصاعدةعلت في المنطقة العربية الإسلامية بعد الحرب العالمية الثانية أصوات الوحدة والتغيير والتقدم، واعتلى العروش حكام تحدثوا بآمال الناس وطموحاتهم، ومنهم من استطاع أن يستقطب العقول والقلوب على أمل أن يرفع من المستوى الحضاري للأمة، ويحقق لها ما وعدها به. لكن هذه المرحلة اندثرت تحت وطأة الهزائم متعددة الأشكال والألوان، فظهر جيل جديد يعيد التفكير في الأساليب والوسائل السابقة، ويفكر بوسائل ومقاربات جديدة من أجل تغيير الوضع القائم. هناك من ضحوا وطحنتهم الأنظمة العربية والإسلامية، وهناك من تراجعوا محبطين يائسين، وهناك من فشلوا، وهناك من استمروا في محاولاتهم. كانت حركة الإخوان المسلمين على رأس تلك القوى التي استمرت بعمل دؤوب بطيء، وما زالت على أمل تغيير الواقع بسلاسة ودون إراقة دماء، أما الحركات القومية فأصيبت بضربات قاسية ما زالت تحد من قدراتها على النهوض. أما المقاومة الوطنية الفلسطينية ففشلت ووصلت إلى درجة القبول بالواقع كما هو، والحركات الوحدوية انكفأت. ولد الفشل مراجعات للمقاربات والوسائل والأساليب، فظهر تنظيم القاعدة الذي صنع أحداثا أدت في النهاية إلى حروب كبيرة في المنطقة العربية، وأجبر الدول الغربية على اتباع سياسات داخلية وخارجية أثرت على مجمل النشاطات الاقتصادية والعسكرية والأمنية والتحالفات الخارجية.وظهرت حركات جهادية في أفغانستان غيرت الوضع السياسي القائم، وتطورت طالبان التي ما زالت تقاتل حتى الآن دولة عظمى، وظهرت المقاومة العراقية التي أفسدت على أميركا مشاريعها الاستعمارية. والمسألة هنا لا تتعلق بتقييم الشخص لهذه التنظيمات وما إذا كانت على صواب أو على خطأ، وإنما بقدرتها على صناعة التاريخ، وبدور القمع والاستبداد والاستغلال والاستعباد في ظهورها وتزايد قواها والمؤيدين لها.على مستوى الدول، هناك من بقي غير مرتاح للوضع العربي والإسلامي مثل العراق في عهد صدام حسين، وسوريا الآن والسودان وماليزيا، لكن دون تصاعد عدم الارتياح إلى درجة التحدي، وذلك لأسباب لا ضرورة للخوض بها هنا.فقط إيران هي التي شهدت تطورات كبيرة تتميز بروح التحدي للقوى التقليدية الحاكمة في المنطقة العربية الإسلامية، والمهيمنة على المستوى العالمي. ولهذا كان تقديري عام 1979، وكما ورد في كتابي المعنون "سقوط ملك الملوك"، أن إيران ستتعرض لتآمر وحروب بهدف إسقاط نظام حكمها الجديد، والعودة بعقارب الساعة إلى الوراء، وذلك لأن القوى المهيمنة والمسيطرة داخليا وخارجيا لا تأذن بالتغيير، ولا تسكت على التحدي. هذه هي سيرة التاريخ: تتمسك القوى المستفيدة بالواقع القائم، ولديها الاستعداد لشن حروب وسفك دماء من أجل أن يبقى الوضع القائم قائما. وبالفعل تعرضت إيران لحروب وحصار، وما زالت تتعرض لحصار تتصاعد شدته، وتتعرض للتهديد بالحرب بما فيها الحرب النووية.نتيجة للدعم الإيراني، نشأ تنظيم حزب الله في لبنان الذي اتبع أساليب تنظيمية وأمنية وعسكرية جديدة لم تعهدها المنطقة من قبل، واستطاع أن يقلب المعادلة اللبنانية عامي 1983 و 1984، وأن يطرد الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، وأن يصمد أمام الجيش الإسرائيلي عام 2006، ويحول دون تحقيق أهداف إسرائيل.من الناحية التاريخية، لا قيمة في النهاية لمواقف الحب والكراهية لإيران أو لحزب الله، وتنبع الأهمية التاريخية فقط من القدرة على صناعة الحدث وإحداث التغيير على أرض الواقع. هل حزب الله قادر على التحدي وصناعة التاريخ أم لا؟ هل إيران قادرة على صناعة التاريخ أم لا؟ الجواب بالتأكيد متوفر لدى القوى التي تقاتل من أجل إبقاء الماضي حاضرا ومستقبلا، وهو ظاهر في سياساتها الموجهة نحو إلغاء الحاضر والسير بالمستقبل باتجاه الماضي.وإذا كان هناك من يرى في إيران وحزب الله عدوين فعليه أن يطور أساليبه ووسائله ليكون قادرا على وأد تطورهما، وعلى الذي يرى فيهما خيرا أن يلحق بركبهما.الرئيس نجاد في لبنانلم تكن زيارة الرئيس الإيراني للبنان عادية أو تقليدية، وإنما كانت عبارة عن حلقة من حلقات صراع الأضداد الواعي، وصراع المتناقضات الواعي في المنطقة. إنه صراع الأضداد من حيث إن قوى في المنطقة تعمل عن وعي على تغيير واقعها ووفقا لرؤية واضحة لا تتناسب مع القوى التقليدية الحاكمة، وصراع متناقضات من حيث أن قوى خارجية تتناقض تماما مع فكرة استقلال المنطقة ككل أو كأجزاء. واضح أن الرئيس الإيراني كان يتعمد التحدي، وأراد إيصال رسالة بأن مرحلة التحفظ والتردد قد انتهت، وأن إرادة التغيير متوفرة تماما ومدعومة بقوة مادية ظاهرة للعيان. ويمكن تحديد هذا التحدي بالنقاط التالية:1- الزيارة هي للبنان التي تعد حلقة إستراتيجية في ميزان القوى الإقليمي، والذي تعمل الولايات المتحدة وإسرائيل وأنظمة عربية على حسمها لصالحها على مدى سنوات طويلة. تشكل لبنان ميدان تفاعلات ثقافية وفكرية وأمنية وعسكرية وسياسية هامة لمختلف القوى الإقليمية منذ أقيمت كدولة، وهي ما زالت تحتفظ بمكانتها، وتستقطب الصراعات المتنوعة الدموية وغير الدموية.تعرضت لبنان الرسمية لضغوط كبيرة من أجل عدم إتمام هذه الزيارة، لكن ضغط القوى الساعية إلى التغيير والمدعومة من إيران ماديا أو معنويا تغلب على رغبات الفريق الآخر. وهذه نقطة كبيرة سجلها الرئيس الإيراني لصالحه في ميدان الصراع.2- حمل الرئيس الإيراني معه جهازا علميا خاصا بأبحاث النانو في إشارة واضحة منه إلى أن إيران قد بلغت من التقدم العلمي والتقني ما يجعلها في مصاف الدول المتطورة علميا وتقنيا. ومن يستطيع تطوير هذا الجهاز يكون قد بلغ من أمر التطوير العلمي والتقني مستوى رفيعا يؤهله لمختلف الصناعات الإلكترونية العسكرية والمدنية، ويمكنه من تطوير أسلحة قادرة على التصدي لأسلحة الدول الغربية. ويبدو أن الرئيس الإيراني قد اكتفى بهذا الجهاز عوضا عن حمل الصواريخ والدبابات والأسلحة الإشعاعية. أساتذة الفيزياء والسياسيون الواعون للحركة العلمية العالمية يعرفون تماما قيمة هذا الجهاز الإستراتيجية.3- (لو) كانت إيران ضعيفة، لأتى الرئيس الإيراني إلى لبنان في زيارة أرنبية (من سلوك الأرنب) متسمة ببعض المراسيم وحفلات الطعام البروتوكولية والفذلكات الخطابية. وإذا كان له أن يزور جنوب لبنان لفعل ذلك مثل الخروف الوديع الذي يبحث عن عشب يتلهى به. أخذت زيارته لجنوب لبنان بعدا شعبيا، واستقبلته الجماهير التي تشعر بوحدتها معه وجدانيا وسياسيا، وامتازت بخطاب غير تقليدي موجه ضد إسرائيل التي اكتفت بإطلاق النفوخات (البالونات) الخاوية.هناك من لام الرئيس الإيراني أو انتقده بسبب ما وُصف بتجاوز السيادة اللبنانية والخروج عن أصول زيارات رؤساء الدول. من الناحية الإستراتيجية، هذا لوم أو انتقاد لا قيمة له، لأن الزيارة عبر عن جزء لا يتجزأ من الجدل التاريخي الذي لا يمكن أن يتنحى لصالح مراسيم موسيقية وحرس شرف. ذلك عدا عن أن الحديث عن السيادة لا معنى له في ظل أوضاع عربية متدهورة تفتقر إلى حرية الإنسان وسيادة الدول.استياء أنظمة عربيةاستاءت أنظمة عربية عدة من زيارة الرئيس الإيراني، واستاء معها من يدور في فلكها من الناس، ووجهت وسائل الإعلام قذائفها الإعلامية على إيران ورئيسها، ولم يبخل كتاب عرب بانتقاد الزيارة وتصوير ما رأوا أنه بشاعة وهجمة شيعية على أهل السنة. هذا أيضا لا قيمة له من ناحية الصراع الإستراتيجي لأن أغلب الأنظمة العربية معلقة بذيل القوى الغربية المتنفذة تقليديا. توجه الزيارة رسائل لأهل الغرب وليس لأنظمة عربية لا تستطيع الاستمرار دون الدعم الأمني والعسكري والاقتصادي والمالي الإسرائيلي والأميركي. وإذا قررت أميركا غدا التعاطي مع إيران والجلوس معها على طاولة التفاهم بشأن المنطقة فإن هذه الأنظمة العربية لن تكون إلا مجرد جوقة لتبجيل الأميركي.أمام الأنظمة العربية أن تدرس الزيارة وأن تقرر فيما إذا كانت تريد السير بركب التغيير، أو المساعدة في كبح الجماح والمحافظة على الوضع القائم. إذا قررت السير في ركب التغيير فإنها تحكم على نفسها بالإعدام لأنها تمثل الماضي ولا علاقة لها بالمستقبل، وإن أرادت أن تبقى ذيلا فعليها أن تستمر في استنزاف الطاقات العربية لصالح القوى الأجنبية مما يعزز قدرة إيران على استقطاب الجماهير العربية. وكيفما كان خيارها فإنها خاسرة، وهذا هو شأن كل من لا يملك إرادة حرة.وحيث إن قوى التغيير في المنطقة العربية الإسلامية ضاغطة، فإن قوى المحافظة على الوضع القائم تعمل جاهدة على وقف عجلة التاريخ. هذا واضح في محاولات صناعة فتنة مذهبية بين السنة والشيعة من قبل أميركا وإسرائيل وأنظمة عربية وبعض رجال الدين من شيعة وسنة.الفتنة مهمة جدا من الناحية التكتيكية لأنها لا توقف عجلة التاريخ فقط، وإنما تعيد العجلة إلى الوراء قرونا عديدة. على المسلمين سنة وشيعة أن يعودوا إلى معارك الجمل وصفين وكربلاء لتصفية حساباتهم الداخلية، وبذلك يتخلفون بالمزيد عن المستويات الحضارية التي وصلها العالم الآن على كل المستويات. طبعا الأنظمة العربية لا تنتمي للحاضر، وهناك من المسلمين سنة وشيعة من لا يزال يعيش في لجج التاريخ، ويرى أن التقدم لا يتأتى إلا بالسير إلى الخلف.اللجوء إلى فكرة الفتنة المذهبية يشكل خطرا على جمهور الناس، لكن قيادات التغيير سواء على المستوى الإيراني أو العربي واعية تماما لهذه المسألة وتحاول دائما تجنب الصدام الفتنوي لما فيه من مخاطر كبيرة على الأمة، ومن فائدة ضخمة لإسرائيل وأميركا. فضلا عن أن الفتنة لا تنفع إلا في حالات غياب الوعي، وظاهر أن المنطقة قد تجاوزت هذا الغياب، وأن الوعي هو المحرك الأساسي لقوى التغيير.نزيف الدمهناك من يحاول أن يكون "عقلانيا" في تحليله فيقول إن الدم الفلسطيني ما كان لينزف لولا المقاومة الفلسطينية، وإن الدم العراقي ما كان لينزف لولا المقاومة العراقية. ويضيف أن إيران تقود المنطقة إلى حالة عدم الاستقرار الدموي. والمعنى أن محاولات التغيير مكلفة جدا، ومن الأفضل القبول بالواقع كما هو، مع محاولات إقناع الأقوياء بحقوق الضعفاء. هذا هو جدل التابعين للقوى المسيطرة والمستفيدة عادة من الناحيتين المادية والمعنوية.هذا جدل ساقط تاريخيا لأن القوي لا يمارس الظلم من أجل إقامة العدل، وعصا الظالم لا يكسرها استجداء. من الصعب على عاقل أن يجيز إراقة الدماء، لكن عجلة التاريخ لا بد أن تستكمل سيرها. وإذا كان هناك من يحزن على دم يسيل،
فعليه أن يحزن أيضا على أمة تعيش خنوع الذليل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.