يعتلي بعض خطباء المساجد المنابر مزهوين بأنفسهم، غير عابئين أو مكترثين بالحالة الصحية للمرضى والشيوخ من المصلين، فيبدأ بقراءة صفحات من السجع اللغوي ويطيل في ذلك قبل أن يدخل في موضوع الخطبة، وغالبية هذه المقدمات غير المبررة منقولة من بعض الكتب عن المواعظ الدينية التي دونت في أواخر العهد العثماني، والتي تعتبر الفترة الأسوأ في تاريخ دولة الخلافة، بدلالة أنها تتوجت بانهيار نظام الخلافة وتجزئة الدولة الاسلامية الى دويلات، ويخطب ويطيل، ويصلي إماما بقراءة سور طويلة من القرآن الكريم، لكن اللافت أن اللهجة الخطابية الحماسية عند أكثرية أئمتنا -هداهم الله- هي لهجة هجومية، وكأن الخطيب في مشاجرة مع المصلين، ومع من يسمعون الخطبة في محيط الجامع والتي تنقلها مكبرات الصوت، وتدخلها الى البيوت، حتى ولو كان موضوع الخطبة عن أركان الاسلام وأهميتها، ولا أعلم مدى جدوى ذلك، ومدى تأثيره ايجابا على المصلين والمستمعين، فللخطبة أساليب معروفة، ومن أهمها الأسلوب الهادئ الرزين الذي يجلب انتباه السامع، وهل يدرك أئمتنا أن اللهجة الخطابية الهجومية منفرة حتى ولو كانت بين شخصين اثنين، وأنها دلالة ضعف خطابي وليس قوة، وأن الأسلوب الهادئ هو الذي يوصل المعلومة المراد ايصالها، يقول الله تعالى مخاطبا سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه:"ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك" فقد كان صلوات الله وسلامه عليه وهو المعلم القدوة، هادئا رحيما صبورا حليما، حتى أنه تعامل مع كارهيه ومناوئيه بتؤدة وحكمة، فأسلموا وكانوا من خيرة الصحابة الذين حملوا لواء الاسلام، وبنوا دولته رضي الله عنهم وأرضاهم، ويلجأ بعض الأئمة-عن جهل -الى ادخال الخرافة في خطبهم، وكأنها حقائق دينية مُسَلّمٌ بها، وكأنهم يخاطبون مجموعة من العجائز الجاهلين، وغير منتبهين الى أن جزءا من المصلين والمستمعين من النخب المتعلمة والمثقفة والمتفقهة بأمور دينها ودنياها. لكن الأدهى هو لجوء البعض من الخطباء، وهذا البعض كثير والحمد لله –الذي لا يحمد على مكروه سواه- يركز على العقاب أكثر من تركيزه على الترغيب والثواب، حتى أن المرء يخال أن الله ما خلق النار الا لتعذيب المسلمين وحدهم دون سواهم، وهذا يعطي انطباعا بأن الدين- والدين براء هنا- قائم على التخويف والترهيب وليس على القناعة والايمان، وبما أن بعض المشايخ الخطباء يعتبر نفسه المالك الوحيد للحقيقة الدينية والدنيوية وللآخرة وما سيكون فيها من جنة للمؤمنين ونار للكافرين، ومنغلق تماما على الثقافات الأخرى، حتى أنه ليس من باب المبالغة أنه منغلق على ثقافة شعبه، فانه يهاجم العالم جميعه، يهاجم أتباع الديانات الأخرى، ويهددهم ويتوعدهم، ثم يعرج على المسلمين شعوبا وحكاما ومفكرين، ويقول فيهم أكثر مما قال مالك رضي الله عنه في الخمر، فمن لا يوافقه الرأي فانه ربما يصل الى درجة تكفيره، وسياسة التكفير هذه على عقمها جلبت الويلات على المسلمين وبلدانهم قبل غيرهم، فهل ينتبه خطباء المساجد أنهم يخاطبون أهلهم وأبناء دينهم وشعبهم، وبالتالي فان خطاب الحكمة والموعظة الحسنة هو الذي يلقى أذنا صاغية، وهل يتخذون من خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، ويتقيدون بخلقه الحسن، الذي امتدحه به رب الكون وخالقه سبحانه وتعالى بقوله:"وانك لعلى خلق عظيم"؟ ولا يفهمن أحد هنا أن هذا دعوة لتكميم أفواه الخطباء، وتقييد حريتهم فيما يريدون أن يخطبوا فيه، بل هو العكس تماما، لكنها دعوة لتصحيح الأخطاء التي يقع بها بعض الخطباء، وهي منفرة ومستهترة بالمصلين ورواد المساجد قبل غيرهم، وهي دعوة الى فهم الدين بشكل صحيح، وايصال المعلومة الدينية للمتلقي بشكل صحيح أيضا. نسأل الله الهداية لي ولكم انه سميع مجيب الدعاء.