لا ينكر أحد الدور المحوري الذي شغلته مساجد فلسطين، وعلى مدى العقود الماضية في مقاومة الاحتلال الصهيوني وإشعال روح الجهاد والمقاومة في نفوس المواطنين، فمن ثورة البراق مرورًا بمقاومة الشيخ عز الدين القسام، وانتهاءً بالانتفاضتين الأولى والثانية؛ شكَّلت بيوت الله بؤرةً ساخنةً في استقطاب الشبان وانطلاق المظاهرات والفعاليات المقاومة للاحتلال. وربما كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987م والتي سمِّيت بانتفاضة المساجد لفتت نظر العدو الصهيوني إلى أهمية وخطورة المساجد؛ وهو الأمر الذي استوعبته السلطة الفلسطينية بعد فوز حركة المقاومة الإسلامية حماس في الانتخابات التشريعية عام 2005م، الأمر الذي أرجعه العديد من مراكز الأبحاث والدراسات الأجنبية والفلسطينية إلى نجاح الحركة في التواصل مع الشعب بجميع الوسائل وعبر كل المنابر، وفي مقدمتها المساجد. ومنذ ذلك الحين بدأ الطرفان الاحتلال والسلطة الفلسطينية في وضع الخطط للحد من تأثير المساجد واتخاذ جميع الخطوات التي من شأنها إنهاء سيطرة حركة حماس عليها. محاولات سابقة وقبل عدة سنوات، سرَّبت وسائل الإعلام خطةً عرفت باسم (خطة احتواء المساجد)، كان قد أعدَّها المدعو غازي الجبالي قائد عام قوات الشرطة في الضفة الغربية وقطاع غزة، التي تقوم على إحكام السيطرة الأمنية والسياسية والدينية على المساجد، وإعادة تأهيلها كرافد مؤثر ومساند لخدمة المشروع الوطني حسب وصف معدي الخطة ولكن لم يكتب لهذه الخطة النجاح، وبقيت حبرًا على ورق لأسباب وعوامل مختلفة. واليوم وجدت الأجهزة الأمنية الفلسطينية التابعة لمحمود عباس المناخ المناسب لإعادة الروح في خطتها السابقة؛ خاصةً بعد الغياب القصري للتيار الإسلامي عن دائرة الفعل في الضفة الغربيةالمحتلة، نتيجة الملاحقة الأمنية من قبل الصهاينة وسلطة عباس. ومن ثم بدأت حربها التدريجية على المساجد وأهلها، وكانت ما يسمى وزارة الأوقاف في حكومة فياض، ممثلة بوزيرها محمود الهباش رأس الحربة في هذه الخطة الخبيثة التي تهدف إلى ضرب التيار الإسلامي وتصفية وجوده في المساجد. مساجد أمنيَّة! وقد رصدت حركة المقاومة الإسلامية حماس العشرات من مظاهر تلك الحرب المتواصلة على المساجد والعلماء، وقالت في أحد بياناتها: رفضت وزارة أوقاف الضفة تعيين أئمة وخطباء ومؤذنين وخدَّام لنحو ألف مسجد في الضفة، في الوقت الذي يعيَّن فيه عشرات الآلاف في الأجهزة الأمنية المختلفة من أجل ملاحقة المقاومة والتعاون مع الاحتلال. وفي هذا السياق، يشير الشيخ أبو حمزة أحد الأئمة غير المفرغين على الإمامة إلى أنه يصلي بالناس إمامًا في أحد مساجد مدينة نابلس منذ أكثر من 5 سنوات دون أن يكون له اعتماد مالي لدى وزارة الأوقاف. ويضيف أبو حمزة لموقع (إخوان أون لاين): منذ أن تخرَّجت في كلية الشريعة في جامعة النجاح الوطنية ما زلت محافظًا على الإمامة والخطابة، ولم أتقاض أي قرش مقابل ذلك، وبين الحين والآخر أتقدَّم بطلب خطي لوزارة الأوقاف لكي أحصل على مستحقاتي المالية، ولكن دون جدوى. كما عبَّر العديد من المصلين عن امتعاضهم؛ لعدم وجود من يقوم على خدمة مساجدهم، فيؤكد أبو علي الصادق يضيف المصدر السابق أن المصلين هم الذين يقومون بتنظيف المسجد ورعايته، وأنهم تقدَّموا بطلب إلى وزارة الأوقاف؛ لتعين مؤذنًا للمسجد ولكن دون فائدة. ويضيف أبو علي: حُجة الأوقاف الجاهزة هي عدم وجود ميزانية كافية لدى الوزارة لاعتماد مؤذنين وأئمة، وفي المقابل يوجد في كل مسجد أكثر من 3 مخبرين ومناديب يتبعون السلطة، يقومون بمراقبة المصلين ورفع التقارير لأجهزتهم الأمنية. اقرأ ولا تخرج عن النص كما أجبرت وزارة أوقاف هباش خطباء المساجد على إلقاء خطبة موحَّدة تعدُّها وتوزعها عليهم، وتُعاقب من يرفض ذلك من الخطباء؛ مما يؤكد سياسة تسييس المساجد وتوجيهها بما يوافق هوى سلطة فتح، خاصةً وقد تضمنت بعض هذه الخطب الموحدة دعوة صريحة لمهاجمة العلماء الأجلاَّء، كما كان في الحملة الخبيثة ضد العلامة الدكتور يوسف القرضاوي؛ وهو الأمر الذي رفضه الكثير من خطباء المساجد. كما قامت أوقاف الضفة بفصل العشرات من الأئمة والخطباء لأسباب سياسية، ولرفضهم نهج حكومة فياض، كما قامت باستدعاء كل خطيب وواعظ يرفض هذه السياسة، وفي المقابل قامت الأوقاف بتعيين خطباء ووعاظ غير مؤهلين لا يحملون إلا الثانوية العامة على أحسن تقدير. وهنا يتحدث النائب في المجلس التشريعي د. ناصر عبد الجواد ل(إخوان أون لاين) عن واقع المساجد في الضفة الغربية فيقول: في ظل هذه الهجمة على بيوت الله شُتِم كبار علماء الأمة على منابر المساجد يوم الجمعة، من أمثال الدكتور يوسف القرضاوي بأمر من السلطة، ولُوحق العديد من الأئمة واعتُقلوا في سجون السلطة، كالشيخ نور ملحس، وجعفر هاشم، ومصطفى الكوني وغيرهم الكثير الكثير من المشايخ الأجلاَّء، كما عُذب بعضهم وضُربوا وأُهينوا أثناء الاعتقال، كما فُصل الخطباء الأكفاء ومنعوا من إلقاء الخطب والمواعظ، واستبدلوا بخطباء متخصصين في إنامة المستمعين. ويتابع د. عبد الجواد قائلاً: وصل الحد بوزارة أوقاف الضفة إلى منع علماء لم يجرؤ الاحتلال على منعهم من الخطابة قبل قدوم السلطة، كالشيخ حامد البيتاوي خطيب المسجد الأقصى ورئيس رابطة علماء فلسطين، والشيخ نايف الرجوب وزير الأوقاف السابق وغيرهم المئات من العلماء ذوي الكفاءة والتأثير في الناس، كما تمَّ منعي أنا شخصيًّا من إلقاء الخطب والمواعظ في مساجد الضفة. إمام وخادم! ويشير المواطن عبد الله خالد إلى أن إمام مسجدهم كان بالأساس خادمًا يقوم على تنظيف المسجد وهو لا يجيد القراءة والكتابة، ونظرًا لعدم وجود إمام للمسجد قامت الوزارة بتعيينيه إمامًا وخادمًا في آن واحد. ويضيف: للأسف الشديد فإن هذا الإمام هو صاحب سيرة سيئة بين الناس، وهو شخصية منفرة وصاحب مشاكل، وقد كان بالأساس بائع خضار، ثم عيَّنته الأوقاف إمامًا للمسجد؛ لرفضها تعيين أئمة جدد متعاطفين مع حركة حماس. بناء المساجد ممنوع! كما وضعت أوقاف هباش العديد من العقبات والعراقيل أمام بناء المساجد الجديدة؛ وذلك بتأخير الموافقة على تشكيل لجان البناء واشتراط موافقة الأجهزة الأمنية على أعضائها، كما تفرض الوزارة قيودًا شديدةً على الذين يرغبون في التبرع بقطعة أرض لبناء مسجد عليها، وأصبح المواطنون يخشون التبرع بمبالغ كبيرة لبناء المساجد خوفًا من مراقبة الأجهزة الأمنية ومساءلتهم. هذا وقد استدعت الأجهزة الأمنية التابعة لمحمود عباس العديد من رجال الخير في مدن الضفة الغربية، وسألتهم عن أسباب تبرعهم للمساجد، واتَّهمتهم بالانتماء لحركة حماس؛ وهو ما يؤكده الحاج عزام عبد الملك وهو تاجر ورجل أعمال، فيوضح أنه تعرَّض للاعتقال على أيدي جهازي الأمن الوقائي والمخابرات، وتم سؤاله عن مصدر أمواله وعن أسباب تبرعه بمبالغ مالية كبيرة لصالح بناء مساجد ومدارس في مدينة نابلس. كما وزعت الأوقاف تعميمًا على أئمة المساجد يقضي بضرورة إغلاق المساجد بعد كل صلاة، ومنع الأنشطة المسجدية كالإفطارات الجماعية في شهر رمضان، وقيام الليل، ومنع توزيع أية نشرة دينية، أو تعليق لوحات حائط أو مجلات الأشرطة الإسلامية، وكذلك منع تنظيم أي احتفالات دينية. إغلاق المساجد ويلفت أبو العز الشامي أحد مصلي مساجد نابلس يضيف المصدر إلى تبدل الحال اليوم، ففي السابق كانت العبادة في المساجد وخاصة خلال شهر رمضان لها طعم خاص ومميز؛ حيث كانت صلاة التراويح بأجمل أصوات المقرئين، وكانت تتخللها المواعظ القصيرة وتوزيع التمر والنشرات الدينية، كما كان يُقام في المسجد العديد من المهرجانات الدينية، كاحتفال الهجرة النبوية، وذكرى المولد النبوي، أما اليوم فقد غابت جميع هذه المظاهر، وأصبحت العبادة مفرغة من مضمونها. ويضيف الشامي: في السابق كانت ليلة القدر مشحونة بالأجواء الروحانية والعديد من الفقرات الدينية، أما اليوم فقد قررت وزارة الأوقاف إغلاق المساجد الفرعية، واقتصار إحياء ليلة القدر على المساجد الرئيسية في مدينة جنين. كما أغلقت الأوقاف مئات مراكز ودور تحفيظ وتجويد القرآن الكريم، والتي خرَّجت سابقًا آلاف الحفظة لكتاب الله عزَّ وجلَّ من الذكور والإناث، وحظرت العديد من لجان الزكاة أو قامت بتغيير أعضائها، واستبدلتهم بآخرين محسوبين على حركة فتح، وهو ما حرم آلاف الأسر الفقيرة من المعونة والمساعدة بعد عزوف المواطنين عن التبرع بأموالهم لأعضاء معروفين بفسادهم المالي والأخلاقي. راحة الصهاينة أولاً وقامت أجهزة السلطة الأمنية باقتحام عشرات المساجد والعبث بمحتوياتها دون أية مراعاة لحرمتها، ودون أي اعتراض من قِبل وزارة الأوقاف، ووصل الأمر بتلك الأجهزة إلى مصادرة مئات الكتب من المساجد التي تتناول تاريخ فلسطين والحركة الإسلامية. ووصل المطاف بأوقاف هباش أن منعت سماعات المساجد من تلاوة القرآن والتسابيح قبل كل أذان؛ حرصًا منها على مشاعر المغتصبين الذين عبروا عن (انزعاجهم) من الأصوات المنبعثة من المساجد؛ لذلك كان لازمًا على وزارة أوقاف دايتون أن توفِّر الهدوء والسكينة لقطعان المغتصبين الصهاينة. الخطوات التي تقوم بها السلطة الفلسطينية ووزارة أوقافها ضد المساجد تندرج في إطار خطة مدروسة، تقوم على تجفيف منابع التدين في الضفة الغربية باعتبارها مصادر صمود الشعب الفلسطيني أمام محاولات طمس هويته وتذويبه في طاحونة الاحتلال الصهيوني البغيض. ويتوقع أن تفشل جميع هذه الإجراءات؛ لأن الوعي الديني في المجتمع الفلسطيني ليس بالسطحي، ولا يمكن شطبه بسهولة، لأن حيوية ذلك المجتمع سترفض مقايضة الوطن والكرامة والتحرير بمساعدات المانحين، بحسب المحلل السياسي ياسر الزعاترة.