تقديم: أعلن مجموعة من نشطاء حقوق الإنسان ببلادنا منذ أواسط شهر أبريل من السنة الجارية عن تكوين لجنة تحضيرية من أجل تأسيس إطار حقوقي ديمقراطي مستقل جديد(مقترح له مبدئيا إسم"الهيئة المغربية لحقوق الإنسان"IMDH) ، يهدف إلى إشاعة ثقافة حقوق الإنسان بين المواطنين والدفاع عن هذه الحقوق وتوفير الحماية اللازمة للمدافعين عنها والمواطنين المعرضين للانتهاك أو العسف.. * هذه السيرورة التي تتوج اليوم بالجمع العام/المؤتمر التأسيسي لهذا المولود الحقوقي الذي ينضاف ويعزز باقي أطياف ومكونات الحركة الحقوقية الديمقراطية المتجذرة في التربة المغربية، والذي ينعقد تحت شعار مفعم بالدلالات وعمق التوجهات هنا والآن وفي المآل المنظور" معا من أجل ترسيخ حقوق الإنسان، وبناء مجتمع المواطنة والكرامة".. أكيد أن التنظيمات الموجودة راكمت العديد من التجارب في مجال دعم حقوق الإنسان و ترسيخ مبادئ الديمقراطية و ممارسة الحريات العامة.. ولكن سنتساءل حتما عن ماهية القيمة المضافة التي سيعطيها تأسيس هيئة حقوقية جديدة؟.. وهل مجتمعنا محصن بما فيه الكفاية ضد الانتهاكات اليومية لحقوق الإنسان؟ إن الحركة الحقوقية الديمقراطية حققت تراكمات غنية وفاعلة في هذا المجال لا يمكن أن ينكرها سوى جاحد أو متحامل؛ ولكن مع ذلك و في إطار التكامل والتعزيز المطلوب في هذا الحقل المتعدد الفروع والمتشعب من حيث مجالات اشتغاله وتدخله، فإنه من المؤكد بأن هذا الحقل نفسه في حاجة ماسة إلى إطارات حقوقية ديمقراطية أخرى تغني المشهد الحقوقي العام تفعل داخله وتتفاعل مع محيطها القريب والبعيد، وذلك كله نظرا للواقع الهش للوضع الحقوقي وحال الحريات في بلادنا وما يعرفانه من تأرجح بين التردي والتراجع وبين عدم تجاوز سقف إعلان النوايا الرسمية من أجل الرقي والمضي قدما نحو مراتب متقدمة في هذا الباب.. إن التفكير في إطار حقوقي يستوعب هذه الخلاصات الأولية من منطلق تشخيص دقيق لمجمل التطورات الحقوقية الجارية على الميدان، ويوفر المناخ الملائم لمجموعة من الفعاليات التواقة إلى فعل حقوقي جاد ومسؤول يواصل المسيرة النضالية؛ هو رهان يستوجب بالتأكيد مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية على خلفية القناعة الراسخة التي تعتمد متون حقوق الإنسان في بعدها الشمولي..فما هوية ومبادئ هذا الإطار؟ * هوية ومبادئ الإطار: إن طبيعة المرحلة تقتضي بالضرورة إطارا حقوقيا متميزا في تطوراته وأشكال أدائه إيمانا بالمبادئ التالية: - الكونية: وتعني طبيعة حقوق الإنسان التي تشكل القاسم المشترك بين جميع أبناء المعمور بغض النظر عن أشكال التميز العرقية السياسية والمذهبية. ذلك أن جميع البشر سواسية في الحقوق بدون تمييز بحسب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الأصل القومي أو الثقافي... وينجلي هذا المبدأ في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية من جهة والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من جهة أخرى، بالإضافة إلى مجموعة من المواثيق والعهود الدولية. -الشمولية: يقصد بالشمولية جميع الحقوق بدون استثناء، الحقوق السياسية و المدنية و الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية، وأن انتهاك أي حق من هذه الحقوق هو بمثابة انتهاك لجميع الحقوق، فالحق في الحياة و العيش الكريم هو مساو تماما للحق في التنوع الثقافي و حرية المعتقد.. فمنظومة حقوق الإنسان كل مترابط وتشمل الإنسان في جميع أبعاده.- الاستقلالية: إطار مستقل عن الحكومة ، عن الأحزاب ، عن النقابات وعن كل ما يمكن أن يؤثر سلبا على حرية اختياراته وقراراته. وتكمن الاستقلالية في استقلال القرار الحقوقي عن جميع الجهات ، الدولة و الأحزاب والتنظيمات السياسية ، و أن معالجة قضايا حقوق الإنسان لا تتم بالنظر إلى هذه المستويات بل بالاستناد إلى المبادئ الكونية لحقوق الإنسان المتحدث عنها سلفا ، و الاستقلال لا يعني القطيعة ولكن التعامل بالشكل الذي يعري واقع الانتهاكات والخروقات و رصدها و الدفاع عنها. مبدأ الديمقراطية والشفافية: أصبح مبدأ الديمقراطية مرجعية أساسية للتعامل داخل الأجهزة التنظيمية مع اعتماد مبدأ التداول في تحمل المسؤوليات والتركيز على تشجيع جميع الطاقات لتحمل المسؤوليات بشكل يروم إلى تكريس دولة الحق و القانون باعتماد الأساليب الديمقراطية المتعارف عليها عالميا. مبدأ الحداثة: إن الإطار الجديد يستند في تعامله مع وضع حقوق الإنسان بشكل حداثي يعتمد المساواة و العدل بين جميع المواطنين، ويستند إلى قيم العقل والتنوير والعدالة الاجتماعية والانفتاح على ثقافات الشعوب والمجتمعات.. * التزامات الإطار: من بين العديد من الالتزامات التي تطوق كاهل أي إطار حقوقي- والمدونة في لائحة أهدافه وفي قوانينه-، فإنه ثمة التزامات عامة أساسية ومحورية نذكر منها أساسا ما يلي: - الإسهام إلى جانب مختلف الهيئات و المنظمات والجمعيات ذات الاهتمام المشترك أو ذات الصلة في ترسيخ المبادئ الكونية لثقافة حقوق الإنسان وترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية، - العمل من أجل ملاءمة جميع القوانين المرتبطة بحقوق الإنسان بالمرجعية الدولية لهذه الحقوق مع ضمان سمو هذه الأخيرة على التشريعات الوطنية، - القيام بجميع الوسائل من أجل التحسيس والتوعية بهذه الحقوق والترافع بشأنها، ورصد وفضح جميع الانتهاكات التي تطال الحريات والحقوق على حد سواء...إلخ * رهانات واستشرافات: إذا كانت الرهانات تتلخص في صيانة حقوق الإنسان ومناهضة كل أشكال الخرق والتجاوز، فإن اللحظة الراهنة تفرض على إطارنا ومنذ الآن الوعي العميق و الفعل الجاد الوحدوي لمواجهة التحديات التالية: تحديات مفاهيمية ونظرية. تحديات سياسية جراء ضعف السياسة الوطنية لتعزيز المنظومة الحقوقية. تحديات قانونية من خلال اللجوء إلى الجزاءات القانونية الدولية وكذا آليات الحماية الدولية. تحديات اقتصادية بعد أن أصبح اقتصاد السوق وسيلة للغزو والهيمنة. تحديات تكنولوجية لها علاقة بالثورة المعلوماتية والتواصلية. لرفع هذه التحديات وكسب الرهانات يتعين على الإطار تبني المسلك الديمقراطي الذي يستهدف إشراك الجميع في الرأي والقرار، مع الإقرار بالتداول على المسؤوليات وتوسيع هامش المبادرات، ومن منطلق رؤية حقوقية متقدمة تروم تقدم الإنسانية، والأخذ بعين الاعتبار المعرفة العلمية النقدية مع استحضار البعد الجماهيري لطبيعة النضال الحقوقي.. إذ من المفترض أن تمتلك عموم الجماهير ثقافة حقوق الإنسان لتدافع عن نفسها بنفسها دون الحاجة إلى وسائط أو وكلاء. إن الرهانات طموحة بقدر كبير والتحديات قائمة بشكل عميق..لذا يتعين علينا جميعا في أفق ترسيخ فهم عميق لهوية الإطار الحقوقي وطبيعة اشتغاله إعمال آليات عمل كما يلي: خلق إطار مهيكل يحترم المحددات التنظيمية ويفعل القرارات ويتجاوب مع المتغيرات، أخذ المسافة الزمنية الكافية، والتريث قبل أي تجاوب مع أي مستجد أو طارئ، عدم الحسم في أية مسالة أو معطى إلا بعد حصول الوضوح اللازم وتفعيل الآليات الديمقراطية، الاعتقاد بالحق في الاختلاف بالشكل الذي يسمح بتطور وجهات النظر وتنامي الأفكار، تقوية الفكر بالنقاش المتبوع بالعمل بما يقتضيه ذلك من تضحيات، القيام بجميع الأبحاث و الدراسات لأجل ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان بين جميع المواطنين، العمل ميدانيا بجميع الأشكال للوقوف على واقع حقوق الإنسان بصفة عامة، وواقع بعض الفئات داخل المجتمع بصفة خاصة(معاناة الأطفال، المرأة ، المساواة بين الرجل و المرأة..)عبر فتح أوراش ميدانية من أجل التحسيس و التوعية و الرصد والترافع، إصدار تقارير سنوية حول واقع حقوق الإنسان في شموليتها بغض النظر عن جنس الإنسان أو لونه أو عرقه أو دينه أو ثقافته، تبادل التجارب والتعاون بين المنظمات الدولية و الهيئات الوطنية الحقوقية من أجل تقوية و تمنيع حقوق الإنسان من الانتهاكات، * على سبيل الختم: إن الدعوة لتجديد النظر في مفهوم وممارسات حقوق الإنسان انسجاما مع التحول المتسارع الذي يشهده العالم - والذي يقتضي مزيدا من الحيطة والحذر- ليست مجرد ترف نظري، وإنما هي ضرورة وجودية موجهة إلى جميع الشعوب والأنظمة لتكون الخلاصة المشتركة تحظى برضى الجميع في أفق القضاء على الأسباب التي تزرع العدوانية وعدم قبول التعايش مع الآخر في عقول الأفراد والجماعات، وتعويضها بقيم التسامح والحوار كمناهج ناجعة وفعالة في احترام وقبول تنوع وغنى الثقافات وأنماط التعبير وصيغ تجليات كينونة الإنسان.