بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود جلالة الملك من أجل الاستقرار الإقليمي    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية    وزير الخارجية الأمريكي يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    الجيش الباكستاني يعلن مقتل 16 جنديا و8 مسلحين في اشتباكات شمال غرب البلاد    "سبيس إكس" الأمريكية تطلق 30 قمرا صناعيا جديدا إلى الفضاء    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء        تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة        اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوحدانية في الديانة الزرادشتية (صراع المقدس والمدنس)
نشر في السند يوم 19 - 10 - 2009

(اللهم امنح القوة لنبيك لكي يصير مسموع الكلمة) ترانيم زرادشت
الدين فی بنيته الفكرية يعتمد على العلاقة بين المادي والمحسوس،والتفسير لما بعد هذا المحسوس،أي محاولة إيجاد الصلة بين معلوم ومجهول مُفترَض الوجود،مما ينتج منهجاً منظماً له منطقه الخاص لحكم العلاقة الجدلية الحكامة لتلك المنظومة الثنائية التكوين،أي أن دلالة كلمة دين لابد وأن تفضي إلى مضمونين متلازمين،القانون والشريعة والأخر العمق النفسي أو التصورات الغيبية عن عالم موازي.
وبالتالي ينقسم الفكر الديني إلى طقوس وممارسات والتي تنتج عن الواقع الإجتماعي الذي أفرز الفكر الديني،أي تطور للعادات والتقاليد الاجتماعية ودخولها في إطار المقدس،والقسم الأخر عبارة عن نمط من الحكايات عن بطل أسطوري يخلق العالم ،ويفرض على الوجود شكل من أشكال المديونية بعد ملحمة الخلق ،تلك المديونية هي الإيمان في مسماها الاعتقادي.
وبالتالي فإن المعنى بأكمله يدور في خدمة بطل الحكايات الإله الأكبر الخالق،الذي خاض الصعوبات ليتمخص عنها الكون،حتى الشيطان أو البطل النقيض لا يتعدى دوره مرحلة مُكمّل للملحمة،فالدين قصة البطل الواحد.فالمُدَنِّس هو المحدد الأول للمقدس.
والزرادشتية لم تخرج عن هذا الإطار،فرغم كونها تبدوا ثنائية التكوين الإلهي،المقسمة بين إله النور (أهورامزدا) وإله الظلمة (أهريمن)،إلا أن السطوة النهائية للنور في أساطير الديانة،فمهما تمكن أهريمن من تدنيس عالم النور المقدس،إلا أنه أكد على سطوة أهورامزدا في الحفاظ على قداسة النور.فدور البطل النقيض هنا تأكيد على وجود البطل الأوحد،وهذا ما سنحاول عرضه فيما يلي.
ودعنا نسعرض الفكرة من بدايتها ، " ففي الثقافة الفارسية كلمة (دين) لها مصدران لغويان،الأول (دي)،والمستخرج منها (ديدن،ديد،بديد) بمعنى (أن يرى) ورغم المعنى الحسي الأول إلا أنها لها عمق روحي ونفسي،بحيث تصل الكلمة في أحد اشتقاقتها اللغوية إلى (بينش) بمعنى البصيرة التي تُميز الشخص السئ عن الجيد...والمصدر الثاني (دا) والآتي من (داد) بمعنى العدل أو القانون ،وأصل كلمة (دين) في الأفستا الكتاب الزرادشتي المقدس (دئنا : da – e – na)،وفي اللغة البهلوية (den)،وفي الفارسية الدرية الفارسية بالخط العربي (دين) " . فالأصل اللغوي لكلمة دين مأخوذ في الفارسية من أصولها القديمة،بالإضافة للأصل العبري أو السامي القديم للكلمة،كما أنها تحتوي في مضمونها على النفس والمادة،أو البصيرة المعنوية،والقانون المادي المحسوس.
وللديانة الزرادشتية تاريخ يصل إلى الألف الثالث قبل الميلاد في الحضارة الفارسية القديمة، والمسماة بإسم نبيها أو المبشر بفكرها وهو (زرادشت) ،وكانت الدين الرسمي للدولة الساسانية قبل الزحف العربي على فارس واعتماد الدين الإسلامي ديناً رسمياً للداخلين الجدد،وغم ذلك ظلت للزرادشتية وجودها الأصيل في المجتمع والفكر الإيراني حتى الأن،فما زالت هناك بقايا للمتعبدين بالزرادشتية،ولهم معابدهم،بل أن لهم ممثليهم في البرلمان الإيراني،لما تمثلة من قومية وجذور في العقل الإيماني في إيران.مما أثر في آلية التناول الديني والمذهبي بعد ذلك وهذا ما سنحاول طرحه في سياقات أخرى.
مُدَنِس النور مُقُدِّس الظلمة (ملحمة الموت والوجود):
حقيقة تعتمد الديانة الزرادشتية على فصل النور عن الظلمة،أو الخير عن الشر، ولكن هذا الفصل التعسفي منذ بداية الأسطورة بدون إبداء أسباب هو الذي أدى إلى الظن بإنفصال القدرة والإرادة بين أهريمن الشيطاني وأهورامزدا النوري،وأن لكلاهما عالمه الخاص،ولكن برأيي أن الإنفصال كان قبل خلق الخلق،أي لم يكن هناك سبب للإلتحام،فتوازي العالمين ،لا يعني وجود إلاهين.
" فأهورامزدا في عالمه المتعالي،مصدر للنور والصفاء،فهو قوة العقل الكامل،يعلم بعلمه المطلق الشر والظلمة،وبعقله الكامل يعلم وجود أهريمن الذي كان في الظلمة المطلقة،الذي لم يكن يعلم وجود أهورامزدا،ولم يكن قادراً على إختراق الفضاء الفاصل ما بين الظلمة والنور..فهو يحيا على حدود عالم النور" .
فلم يكن مسموح لأهريمن بتجاوز عالمه،فدوره لم يأتي بعد،فعالم الظلمة جزء من الوجود الذي يحكمه الإله الأكبر أهورامزدا،فرغم أن الأساطير الفارسية في كتاب الأفستا المقدس لم تؤكد على كون أن مزدا هو الإله الأوحد،ولكنها أكدت أنه الأكبر بلا منازع،وبقية الألهة عناصر مساعدة تم توكيلها للقيام بما حددة مزدا منذ البداية، " فمزدا هو موجد الوجود،فالوجود تجل من تجلياته غير منفصل عنه،فمزدا كلي مطلق والحياة أو الوجود جزئي ونسبي " . "كما أن الأصل اللغوي لكلمة " أهورامزدا" مكون من جزئين "أهورا" و " مزدا"،أهورا من أصل " آه" بمعنى الوجود في الفارسية القديمة، ومزدا من " من " بمعنى العدل فهو الوجود المطلق والعقل الكامل " .فأهورامزدا هو الإله الاول الكامل في ذاته،العالم بعلمه المطلق.وهي صفات البطل الأوحد بلا منازع،ولكن متى جاء دور أهريمن؟؟.
الأسطورة الزرادشتية تحكي لنا أن أهريمن قد سُمح له فجأة بعبور عالم الظلمة دون سبب واضح،وحينما صدمه هول ما رآه في عالم النور،فلم يكن على علم بوجوده،قرر أن يُدنس عالم النور،ويُميت الخلود،وكان مزدا يعلم بتجول أهريمن في عالمه النوراني المطلق،ورغم قدرته على فناءه لم يقم بذلك بل أنه اتفق معه على موعد لبداية المعركة بين العالمين،الخير والشر،الحياة والموت،وحددها أنها ستكون بعد ثلاثة آلاف عام.وفي تلك الأثناء خلق مزدا كل خلقه،بداية بالسماء والأرض،وصولاً للعشب والنار ونهاية بأخر مخلوقاته وهم البشر،وظل الجميع في حالة سكون،إلى أن أنقضت المهلة وأعلنت الحرب ضد أهريمن وأعوانه،فتحركت المخلوقات. .
أي أن فلسفة خلق العالم في الزرادشتية هي استعداد للصراع بين الخير والشر،حتى أن المخلوقات قد ظلت ساكنة،حتى اللحظة الموعودة،فالحرب مع الظلمة والشر هدف الحياة والوجود،ومن المهم الإشارة أن كافة المخلوقات كانت تتمتع بصفة الخلود الإلهي التي منحها إياهم مزدا،ولكن هذه المنحة لم تدم طويلاً في مرحلة الصراع،فقد تمكن أهريمن من خلق الموت والفناء،فقام بتدنيس مخلوقات أهورامزدا المقدسة الخالدة كخلوده،بسمة الموت والعدم،ولكن هذا لا يعني أن أهريمن يملك حق الموت في مقابل حق الحياة لدى مزدا،ففي نهاية الأسطورة أي في نهاية العالم والمعركة،سيُفني أهورامزدا عالم الظلمة،وأهريمن ليعود الوجود لطبيعته النورانية الأولى،أي الوعد الإلهي بالنور المنتظر،فحق الحياة والفناء بيد أهورامزدا فقط،وهذا ما سنتابعه فيما سيأتي.
فأهريمن يمثل زوال الحياة ،أي نفي صفة الخلود عن الحياة،لتبقى من حق الإله الأكبر وحده،وكأنه يعمل لصالح من يحاربه،ويُقر بألوهيته عليه،فدوره لا يتعدى رمز للموت والمسؤول عنه، " فجدلية النور والظلمة هي امتداد طبيعي لجدلية الوجود والعدم بما يتسق والتصورات الطبيعية في تلك الفكرة،..فللطبيعة وجود حاضر مفيد...وزوالها هي العدم أو الظلمة أو الموت " ، ولكن الوجود في حد ذاته لا يمثل الإله الأكبر فهناك علاقة نسبية بين الوجود والإله.
ورغم أن مبدأ الثانوية قائم في المعتقدات الآرية القديمة حتى ما قبل الزرادشتية،نتيجة لتأويل الطبيعة وتناقضتها لصالح العقل البشري،إلا أن الزرادشتية مثلت مرحلة نضج في الوعي الفارسي بمنطق التفكير في المجرد،والمطلق،وإعطاء الرموز الأولى مزيداً من العمق،فكانت فكرة الوحدانية والإله الأكبر،وإختزال الكل في واحد تأكيد على مرحلة الإيمان بالقدرية المطلقة،ويتحول الصراع بين المتناقضات إلى جدلية أبدية تصب في النهاية لصالح الخالد الأول والأوحد .
وبالتدريج سيحاول أهريمن أن يأخذ النور الكامن في المخلوقات أي يأسر الحياة،ويهبط بها إلى العالم السفلي،ولكن في يوم النهاية الموعود سيعود كل النور إلى أهورامزدا ثانية،فالنور دائما إلهي وإن إنتسب إلى الشيطان بعض الوقت ولكنه عائد لأبديته مرة أخرى،ونتيجة لخطف النور الإلهي سيصيب المخلوقات الأمراض فيخلق لها مزدا الدواء،ثم يُصيب الإنسان العجز والهرم فيعوضه الإله بأبناء حتى تستمر الحياة،وهكذا دواليك،فأهريمن بفعلته تلك قد تمم الخلق الإلهي ونفذ مشيئة الرب الأكبر في كائنات فانية ضعيفة تحتاج دائماً إليه.
النار تجسيد لطُهر الألوهية:
"النار في الزرادشتية هي فكرة مزدا المجسدة أعلى من كل مخلوقاته " ، فالنار ليست معبوداً في حد ذاتها ،وإنما تجسيد للضياء الإلهي، هي أخت للنور ومصدر الطهر والنقاء في الوجود،فكما ورد في الزرادشتية ، " أنها مخلوقة من ضياء العرش الأعلى، وتجسدت على الأرض ...هي سر الحياة وروح العالم،رمز القوة الإلهية في الوجود،وأصل جوهر البشر، فأصل فكل المخلوقات من ماء إلا الإنسان المخلوق من النار...ولكن للنار تدخلها في كل عناصر الوجود ،فقد إمتزجت بالماء والنبات فاكتملت ملامح الخلق،ونمت الأعشاب..وتكونت السحب وهطلت الأمطار،..فكان الكون " .
إذاً فالنار تتجاوز مجرد الرمزية الخاصة بالضياء، لتتخلخل في الوجود بأكلمه،فقد مُنحت ميزات إلهية لم تُمنح لغيرها من العناصر الكونية،كما أن النار كذلك تُجسد الصدق المطلق،ضد الكذب المظلم،فللكاذب عقابه في الزرادشتية،في العالم الأخر بحيث سيمكث في ظلمة الجحيم ثلاثمائة عام وللتصورات الحياة في العالم الأخر سياق أخر قد يحتويه سياق كتابي أخر وسيكون للنار فيه مكانة هامة ولكن من يُشكك في صدقه فالنار اختباره.
" فيحكى أن سياوش بن كيكاوس البطل الإله وهو أحد أبطال الفرس الملحمين وله مكانة خاصة في الأفستا بوصفه من عداد الصديقين قد أتهمه أبوه في زوجته،وحتى يتحقق من صدقه في عدم مساسه بها،أدخله النار،فإذا خرج سالماً صدُق قوله وإلا ستحرقه النار،فيدخل سياوش ويخرج منها بلا أدنى أذى " .
فالنار هي مقياس الصدق الوحيد،وقد يُذكّرنا هذا المشهد،بحكاية النبي إبراهيم،ودخوله النار حتى يُعاقب ولتثبت صحة فكرته عن الله في قومه،فيخرج منها سالماً،خاصة إذا تتبعنا كم التراكمات الأسطورية التي بُنيت على الحكاية الإبراهيمية،سنجد ذلك التشابه الواضح في عمق البنية الرمزية لعناصر الكون في كل أشكال الدين.
المهم أن النار في الزرادشتية تمثل حالة صراع أخرى بين المقدس والمدنس،فهي علامة الطهر والصدق ،وهي التي تفرق بين الشيطاني والإلهي،والصورة الأوضح لتلك الفكرة ميلاد زرادشت، فبداية خلقه كانت بنور إلاهي نزل من السماء السادسة للشمس للقمر،ثم لبيت النار،فأضاءت النار تلقائياً،ثم إلى رحم زوجة صاحب بيت النار،فحملت في فتاة هي والدة زرادشت،وحينما ولدت الفتاة كانت تُشع نوراً فظن أبوها أن هذا بفعل الشيطان،فطردها لتتزوج من أحد القبائل المجاورة لتنجب زرادشت،الذي كان يضحك ويتكلم لحظة ولادته،فخاف أهريمن على نفسه من هذا الطفل الإلهي،فوجه بعض أتباعه ليضعوه في قدر به نار مشتعله،فدخل ثم خرج منها سالماً،وحرق أولئك الشياطين ضاحكاً.
ومن ضمن الاحتفالات التي تُقام سنوياً في الزرادشتية ، وما زالت للأن في بعض مُدن إيران كتراث شعبي،احتفال (شب يلدا : ليلة يلدا )،وهي أطول ليلة في السنة،بحيث يتساوى بعدها الليل والنهار ثم يتفوق النهار والنور على الظلمة والليل، فمن أهم التقاليد في هذه الاحتفالية اشتعال النار حتى يخاف أهريمن من ضيائها ولا يمارس سطوته على الشمس أو النور ويُخفيهما،وتمتد الاحتفالية حتى تأتي الشمس في الصباح،بعد أن تتحول المدن إلى كتلة لهب من كثرة ما أُشغل فيها من نيران.
فالنار ترفع الدنس،وتُبعد مصدره الشيطاني،وتُطهر الكون بأكلمه،وتُجسد حالة الصراع الذي ينتهي غالباً لصالح أهورامزدا،فالنار البداية والأصل،رمز الصدق،مطهرة للحياة،وكذلك هي دلالة النهاية،فتبعاً للزرادشتية ، " قبل قيام الساعة بثلاثة أشهر ستكون حرب قوية ما بين مزدا وأهريمن،سينتج عنها أعاصير وأمطار ثقيلة،...ثم تتصاعد النيران وينتهي العالم بالنار،ويفنى كل المخلوقات...ويغرق العالم في ظلام كامل لسنوات طوال حتى تقوم الساعة والحساب ويعود النور ثانياً " .فنهاية العالم ستكون إلهية وليست شيطانية،فأهورامزدا يلعب في الأسطورة دور الإله الذي يرتكب الشرور أحياناً ويفني الوجود الذي خلقه،فرغم ظلمة الوجود بعد المعركة ،ولكنها هذه المرة ظلمة إلهية تؤكد لمفهوم البطل الأوحد.
بل تمتد فكرة التطهر بالنار المقدسة بعد الموت والميعاد، " ففي الكتابات البهلوية ورد أنه في يوم الميعاد...سيعبر البشر فوق صراط من نار..الصالحين لن يشعروا بعذابه..أما العصاة المذنبين اللذين تركوا إتباع اهورامزدا وساروا خلف أهريمن،سوف يتألمون حرقاً في النار حتى تُطهّرّهُم ثم يذهبون للجنة " .
فالنار بداية ونهاية،أصل الوجود وسبب العدم،وجواز المرور لنيل الرضا الإلهي،مقاومة للشر الأهريمني بقدرتها هي الأخرى على الفناء والعدم،فكلاهما مجسد للعدمية في جانب منه،النار أو أهورامزدا على الأرض،وأهريمن،مما يدل أن قدرات الموت والعدم لم تكن تخص أهريمن منفرداً وإنما هي ممنوحة له فقط من قبل أهورامزدا،كما منحها للنار.ويكفي أن نراجع كتابات (جيمس فريزر) خاصة كتابه أصل النار،وأيضاً كتابات (مرسيا إلياد) خاصة (العود الأبدي للأسطورة)،لنرى مدى تسرب أو تشابه قدسية النار في العديد من الأفكار الدينية المجتمعية،خاصة في مساحة نهايات العالم في كل دين أو مذهب،والتي أرجعتها إلياد إلى الزرادشتية،وإن كنت أرى أن التشابه لا يعني مطلقاً التأصيل حتى مع التتابع الزمني للحضارات.
الماء وتلويث المخلوقات:
الماء عنصر مقدس في كل الديانات تقريباً،فهي ترمز لمجموعة من الإمكانيات فهي ترمز للموت كما ترمز للحياة،قادرة على الخلق،وعلى محو وتغير العالم،ومن البديهي أن تتحول دلالتها للتقديس المباشر في معظم الحضارات الإنسانية،إما بسبب الندرة أو الوفرة.وفي الديانة الزرادشتية لم يختلف الامر كثيراً،وإن كان له دلالته الخاصة في صراع التقديس والتدنيس.
" فالماء هي أصل الخلق..فماء مزدا الصافي الذي يرمز إلى المني الذكوري في جانب منه نزل إلى الأرض بعد أن خلق السماء عن طريق الهواء،ثم إلى باطن الأرض،وهناك بدأ بالحركة،فخلق البحار،ثم كانت الأمطار،وخلقت الحياة بالتدريج..بعد طوفان عظيم قسم العالم إلى سبعة أقسام وأقاليم،...فالأرض مستندة على الماء في كل جهاتها " .
ويحكى أنه لدى موت سياوش بن كيكاوس على يد بطل الترك (أفرسياب) بعد هرب كيكاوس من أبيه،هطلت أمطار دموية من السماء،وأن الامطار التي قسمت العالم وتسببت في الطوفان ،كانت أمطار دموية،فالمطر هو البداية والدماء سر الحياة،وبالتالي لابد وأن وتكون الأمطار المقدسة دموية.
ودائماً ما كان أهريمن يحاول تلويث المياة،بوصف أن تلويث المياة أو تدنيسها هو تدنيس لكل المخلوقات،فإذا لامس الشيطان أو أحد أتباعه الماء يصبح هذا الماء ملعوناً لا يصح الإقتراب منه مطلقاً وإلا تحول مستخدمه إلى نجس شيطاني،لذا ترد في الأساطير الدينية،أن إله / ملاك المياه قادر على التشكل كما تشكل المياه،فأحياناً يظهر على شكل فتاة جميلة عذراء تكافئ الكهنة والموابذة وكل من يراعي قدسية المياه،وأحياناً على صورة فرس أبيض في حربه ضد حصان أسود هو شيطان الجفاف.
وهكذا نلاحظ ارتباط دلالة الماء بالخلق والوجود ،واستمرارية الحياة،بل تحمل في داخلها دلالة العذرية والحياة الطاهرة في صورة الفتاة العذراء،أو صورة القوة في مواجهة الشيطان،فمعركة لابد وأن تُحسم لصالح أهورامزدا، بوصف أن تنديس الماء تنديس لمزدا ذاته،لأن ماءه هو سر الوجود.
السماء مستقر الإله:
السماءهي مكان الآلهة في معظم الديانات،كذلك في الزرادشتية،فمزدا هو أعلى من السماء ، إلا أن السماء هي بداية عالم نوره . وهي أول حصونه للدفاع عن عالمه ضد أهريمن . " "فالسماء هي رداء أهورامزدا ، وهي أول خلق مجسد ، جوهرها من الماس ، فهي درع ضد أهريمن ، حتى لا يخترق خلق مزدا " .
فالسماء هي تجسيد للوجود الإلهي المتعال ، وربط أي عنصر بالسماء ، سواء من أقمار أو شموس أو نجوم ، إنما د ليل على تقديس تلك العناصر فهي مفتتح لتقديس عناصرها ، وتجل للنور الآلهي ، المجسد في الكواكب المتعدده ،فالأرض كذلك مرتبطة بالسماء بصفتها عنصراً تلقي هبات السماء ، من ماء ، وشهب وغير ذلك ، فهي مكان تجلي المقدس ، و إعلائها محاولة لتأكيد الرابطة على الإسقاط السماوي للأرض .
ولكن ما دور العناصر السماوية في معركة اهورامزدا وأهريمن،أو المقدس والمدنس،فالشمس مثلاً هي عين أهورامزدا،وضياؤها من ضيائه،وهي أكثر المخلوقات طهراً،فإله الشمس هو المنوط بحركة الفصول،وتنظيم الأيام وعقاب الأشرار،والنظر في أعمال البشر،ونزع النور المقدس من أي من العصاة. .
أي أن للشمس دورها في تطهير العالم والمخلوقات بوصفها عين مزدا،فكل من يدنسه الشيطان أهريمن يطهره إله الشمس،بل ان الأمر يتجاوز ذلك ،فهناك علاقة قوية بين الشمس والوجود البشري،فأصل البشر منها،وستعود أرواحهم إليها،فهي رمز البداية. " ففيها نطفة آدم أو الإنسان الأول ( گيومرث) وهو لا يماثل آدم في الكتب الدينية الأخرى،ولكنه مخلوق من البقرة المقدسة فحينما مات الإنسان الأول صعدت نطفته المقدسة إلى الشمس لتتطهر ،ثم عادت واستقرت في الأرض لأربعين عاماً،وبعد ذلك نتج أول ذكر وأنثى " .
ومن ضمن الطقوس المؤكدة على فكرة تقديس الشمس والنور،أن الموتى في الزرادشتية يدفنون في أعلى الجبال،ولذلك فكرتان،الأولى أن الميت نجس لأن الموت من فعل الشيطان أهريمن،فالجسد طالما به حياة فهو ملك لأهورامزدا،ولكن حال موته لم يعد يمت له،وإنما الروح النورية فقط هي المتبقية في حالة طُهر لأنها نور مزدا،لذا فيتم دفن الموتى في أعلى قمم الجبال بعيداً عن المقدس الأرضي،ولكن هناك تأويل أخر لنفس الطقس،فالغرض من الدفن الجبلي هذا هو الإقتراب من الشمس فهي تأتي من خلف الجبل وتعود إليه،وبالتالي فالميت سوف يتتطهر من دنس موته الشيطاني لدى اقترابه من مكان الشمس،حتى أن الملوك كانوا يدفنون هناك رغبة في البركة،و يُودّعون بجملة : (فلتذهبوا إلى جنة الشمس).
فهناك ارتباط جلي وواضح ما بين بداية الحياة البشرية والشمس،فمهمة التطهير والتقديس مهمة أزلية لكافة المخلوقات،والموجودات،كما أن للقمر دوره كذلك في نفس المنظومة،فهو " حادي الأرواح للعالم الأخر،مُجسداّ مرحلة البرزخ والإنتقال في الزرادشتية،..وهو مرجع ذنوب البشر،وميزان الثواب والعقاب... كما أنه قد حسم الصراع لصالح أهورامزدا...وسانده ضد أهريمن ،ومنع أن يصل دنسه إلى البشر التابعين لمزدا ..وذلك حينما تمكن من الهبوط للعالم السفلي وإنقاذ النور الإلهي الذي سرقه الشيطان من المخلوقات،وحينما صعد اكتمل نوره وصار بدراً " .
ومن المؤكد أن يكون زوال العالم مرتبط بزوال عناصر التطهير الدائمة العمل لصالح الإله الأكبر،وضد شيطانه أهريمن،أي رفع القدرة المقدسة لوسائل التطهير والتقديس،لتترك العالم في ظلمة شيطانية كيفيما كان في البداية، " فمن علامات يوم القيامة في الزرادشتية خفوت ضوء القمر،وتغير لونه إلى الحُمرة..والكسوف الكامل للشمس،وتملأ الظلمة العالم لفترات طويلة،يعقبه الفناء الكامل للوجود " . فالظلمة هي العدم مقارنة بضياء الوجود،أي أن الظلمة هي المدنس، فالإله يرفع مقدسه من العالم حتى تقوم القيامة وينفى الكون،فلا يتسق فناءه العناصر المقدسة ما زالت لها وجود،أي أن الظلمة المطلقة لا تعني إنتصار أهريمن،فهو سيصيبه الفناء كما غيره من الموجودات،إلى لحظة البعث التي سيجمع فيها الإله الأكبر هو مخلوقاته ليحاسبهم،ويحدد لهم المُقام.فالمحدد النهائي لبطولة أهورامزدا المطلقة هي لحظة البعث التي يثبت من خلالها أنه مالك الكون بأجمعه،ولا منافس.
رمزية الأفعى وجدلية الإله الشيطان:
الصراع لا يتوقف فقط في مرحلة السماء أو العناصر السماوية،فمكان الصراع ذاته هو الأرض بكل أشكال الموجودات فيها،وسنحاول رصد أهم الرموز التي تعاملت معها الديانة الزرادشتية،خاصة رموز الموجودات أو الحيوانات تحديداً،لما يشير لبقايا الأفكار الطوطمية التي سكنت العقل الإنساني منذ البدايات الحضارية،وكيفية تطورها بعض ذلك في إطار مقدس متكامل الفكر والطقوس.
من أهم الرموز التي تشغل الوعي الديني الزرادشتي،رمزية الأفعى كما شغلت العديد من الديانات القديمة الكبرى كالمصرية القديمة بتعدد مراحلها الفكرية، والبابلية بشقيها الأكادي والسومري فالأفعى ترمز إلى التناقضين ،فهي ذات أصل شيطاني،ولكنها مرتبطة بالنار المقدسة في جانب أخر،وخير نموذج دال على ذلك التحليل اللغوي الآتي : ( الأصل اللغوي للكمة أفعى بالفارسية (اژی Aji )، ف(أژی)، متشابهة من حيث البنية الصوتية مع Agni (إلة النار الهندي) لتوحد الأسرة اللغوية وكذلك السياق الحضاري..وAj منفصلاً تعني النار)،أي أن هانك ارتباط بين الأفعى والمقدس بشكل مباشر،وإن كان ارتباط لغوي لا أكثر،وتوضيح تلك الفكرة يحتاج إلى بحث منفصل حول العلاقة بين الأسطورة والتطور اللغوي ،ليس فقط في السياق الديني ولكن في الملاحم والتراث الشعبي بشكل عام.ولكن من المؤكد أن الأسطورة الزرادشتية قد قدمت أدلة كافية للإرتباط بين الأفعى والشيطان، "ففي نهاية العالم سيتجسد أهريمن على شكل أفعى،وسيتم تقييدها بواسطة ملاك وفي حكاية أخر بواسطة الإله الأكبر ذاته وستُلقى في الحجيم للنهاية " .
وفي قصة مشهورة في الزرادشتية تم تناقلها في الملاحم الإيرانية خاصة الشاهنامة وهي قصة (الضحاك وأفريدون)، " فالضحاك مخلوق شيطاني له حيتان على كتفه،في الأسطورة ابتلعا الشمس،فكانت ظاهرة الكسوف،ولدى انتصار البطل الملحمي / الأسطوري افرديون عليه وقتلة للحيات سطعت الشمس من جديد،وكان عيد (المهرگان المهرجان)،كما أن الأصل اللغوي للضحاك ( Aji Dhak اژی دهاك)،وهو من تجليات أهريمن،واسمه مركب من (اژی Aji) بمعنى الحية،و(دهاك) ويد اسمه (داسه) من أصل (Deas) اللاتينية ،و(ديو Div) الفارسية يعني الشيطان،أي أن أسمه (حية الشيطان)." .خاصة إذا وضعنا في الاعتبار قصة تحول الضحاك إلى حليف للشيطان،فقد وعده الشيطان أن يُملّكه العالم بشرط أن ينفذ كل أوامره،وبالفعل إلى أن طلب منه أن يُطعم حيتان سوف تنبتان له على كتفه رؤوس شباب البلد،واستمرت تلك الأزمة إلى ظهور أفريدون وانتصاره بعد ملحمة طويلة،ليس مجال تحليلها الأن،وفي الروايات الأفستية،الضحاك هو الشيطان بشكل مباشر.
فالحية ذات صلة واضحة باعالم المقدسات والمدنسات معاً،بمعنى أنها تجسد تلك العلاقة الجدلية بصورة واضحة،فهي ذات أصل شيطاني أهريمني واضح،أي أنها مشاركة في تدنيس العالم،فقد ابتعلت الحية الشمس،كما أن التراث الديني الزرادشتي يذكر الحية المقدسة بوصفها حية سماوية ضخمة تلتف حول العالم لتلتهمه في لحظة سطوة أهريمن.ولكن من جانب أخر إن صح تحليلي حول الأصول اللغوية والأسطورية،فإن للحية تجسيداً للنار كذلك،أي أنها تحتوي النقيضين في ذات الوقت، وتعتبر مجسدة لمة الصراع الجدلي بين المقدس والمدنس.
وهكذا نلاحظ أن العلاقة بين الإله الاكبر والشيطان،لم تكن علاقة تنافسية،أو ندية بشكل كامل،فدائماًً ما كان أهريمن متمماً لإرادة أهورامزدا،فهو من جعل الإنسان فانياً،ووهبة العجز والمرض،والموت،فتتجلى قدرة الإله بقوته على ضعف الإنسان ،حتى أن الشيطان ذاته سوف يصيبه الفناء أو النفي الأبدي في الجحيم،خاصة وأن دور البشر لا يتعدى سوى مرحلة التلقي عكس بقية المخلوقات،فالإنسان في الزرادشتية،إما يُقدسه ويطهره الإله الأكبر،وإما يدنسه الشيطان،فدوره في الأسطورة يكاد يكون منعدم،ولكن مساحتة الحقيقية تتحقق من خلال الطقوس الممارسة في الديانة ،والتي تُعد التجلي الحركي للفكرة الحكائية،وهذا ما سنحاول طرحه في دراسة قادمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.