المسافة الزمنية منذ أيار / مايو العام 1948 – وهو عام الصفحة الاولى على اجندة القضية الفلسطينية – حتى أيار / مايو من العام 2010 هي اثنان وستون عاما من عمر منظومة التيه والشتات والمأساة التي ما زالت تفرزها هذه القضية . وبرغم هذا الزمن الطويل جدا ، الا ان تاريخها ما زال يضيء ذاكرة الشعب الفلسطيني ، وان الذين راهنوا على انطفاء جذوتها لا شك انهم قد خسروا الرهان . القضية الفلسطينية " وكان من المفترض ان لا يكون لها أي مسمى آخر " ، كان هو العنوان الرئيس الذي حمل في سطوره قضية شعب معذب ، صودرت أرضه وطرد منها قسرا واكراها واجبارا . انها والحال هذه قضية لها بعدها الانساني ، الى جانب بعداها التاريخي والجغرافي ، كون هذه الارض وطنا تاريخيا للشعب الفلسطيني ، اقام عليها منذ عشرات القرون . إضافة إلى هذا البعد الإنساني ، كما اسلفنا فإن لها بعدين آخرين ، جغرافيا يتقاطع مع بعد آخر هو البعد التاريخي ، كون القضية تنصب على هذه الارض السليبة المسماة فلسطين والتي نزلت عليها النكبة بتغيير مسماها وكل ما يمت الى تاريخها وجغرافيتها بصلة ، كما أن هذه النكبة حلت بشعبها وذلك عن طريق طرده منها الى منافي التيه التي زج الى جحيمها الشعب الفلسطيني وما زال يتردى في مهاويها حتى هذه الايام ، والى زمن لا يعلم مداه الا الله . وعلى ما يبدو فان مسمى " القضية الفلسطينية " لم يرق للجهات التي خططت لزج شعبها في أخدود جحيم النكبة ، فقزمتها لتصبح " قضية اللاجئين الذين هاجروا" من ديارهم بما يحمله الفعل هاجر من طواعية وعدم اكراه . والمقصود انهم تركوا ديارهم واراضيهم من تلقاء انفسهم ، في محاولة لطمس معالم الجريمة التي اقترفت بحقهم ، والتعتيم على عناصرها الرئيسة ، والمقصود هنا القسر والاكراه والاجبار . الا أن أمرا خطيرا آخر طرأ على مسمى القضية الفلسطينية ، اذ أصبحت تحمل عنوانا اخترع لها يتمثل " بالصراع العربي الاسرائيلي " والذي لا يمكن تفسيره الا انه صراع اقليمي يخص دولا عربية ، فقدت اراضيها في العام 1967 ليس أكثر ، وان هذا الصراع يمكن أن ينتهي بانتهاء المسبب . وقد استثني منه مفهوم اغتصاب الأرض ، وما أعقبه من احتلال لبقية الوطن . لكن الأخطر من ذلك أن القضية الفلسطينية، أصبحت تحت تحمل عنوان " أزمة الشرق الأوسط " ، وهو المسمى الذي قصد به واضعوه أن هناك أزمة علاقات دبلوماسية ما بين دول الشرق الأوسط واسرائيل التي أصبحت " حقيقة لا ريب فيها " . والأغرب من ذلك أن الأنظمة السياسية العربية ، وكذلك وسائل اعلامها تردد هذا المصطلح الذي لا يمت الى القضية الفلسطينية بصلة . لقد كان الهدف تشتيت عناصر القضية الاساسية وتمييع العنصر الفلسطيني الى درجة اذابته وفقدانه مشروعيته والالتفاف على حقه التاريخي في الارض والوطن . لقد ردد الإسرائيليون مقولة من نسج أفكارهم ، مفادها أن الأجيال الفلسطينية التي عاصرت النكبة ، سوف تموت مع الأيام ، وان الأجيال اللاحقة سوف تنسى الأرض والجغرافيا والتاريخ والتراث ، في غمرة انشغالها في واقعها الجديد . إنها مقولة نسجها خيالهم الذي لا يريد ان يعترف بالجريمة التي اقترفت بحق الفلسطينيين ، وان هذه الجريمة لا يمكن ان تنسى ، وان الشعب الفلسطيني ما زال يعيش افرازاتها وتداعياتها الكارثية ، وانه يتذكر كل يوم من ايامها ، وكل قرية وبلدة من قراه وبلداته التي دمرت ، واقيم عليها مستوطنة أيا كان شكلها ومسماها . واستمرارا وفي العام 1967 حينما احتلت القوات الاسرائيلية ما تبقى من الاراضي الفلسطينية فيما يعرف بالضفة الغربية وقطاع غزة ، كانت تسمية فلسطين او النسبة اليها تزعج السياسة الاسرائيلية وتتنافى مع أسسها . فهي في العام 1948 أطلقت على الفلسطينيين الذين لم يتم تهجيرهم من بلادهم تسمية " عرب أرض اسرائيل " أو العرب الاسرائيليين . وتفننت السياسة الاسرائيلية في اطلاق تسميات على سكان الاراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967 . فالضفة الفلسطينية أصبحت " يهودا والسامرة " وسكانها اما "سكان المناطق المدارة ، أو السكان المحليون ، او عرب المناطق المدارة . وفي كل التسميات هذه نفي للتسمية الاصلية للارض الفلسطينية وللشعب الفلسطيني . ومصطلح سكان أو مقيمين له دلالته في السياسة الاسرائيلية التي لم تكن تعتبر الفلسطينيين مواطنين لهم حق في وطن ، وانما هم مقيمون أشبه ما يكونون بالمستأجرين ليس الا . لقد ظلت اسرائيل وبتشجيع من الولاياتالمتحدة الاميركية وتخاذل في المواقف العربية التي تنازلت أنظمتها عن الثوابت الخاصة بالقضية متمسكة بثوابتها التي تعتبر الارض الفلسطينية من النهر الى البحر هي أرض اسرائيل الكبرى التي ترفض حق قيام دولة اخرى للفلسطينيين عليها . ان إسرائيل تصول وتجول في الأراضي الفلسطينية ، تصادر ما تشاء منها ، تهجر سكانها الشرعيين ، تفجر منازلهم ، تجرف أشجارهم ، تبني مئات المستوطنات ، وعشرات الآلاف من الوحدات السكنية ، والطرق الإلتفافية ، تغتصب المياه الفلسطينية ، والهواء الفلسطيني ، وكل المقدرات الفلسطينية الأخرى ، وتقيم هذا الجدار اللعين ، دون حسيب أو رقيب . كل هذا يتم تحت ظلال اتفاقيات أوسلو التي ما كانت الا مرحلة " تهدئة " في التشدد الاسرائيلي لمآرب اتضحت معالمها لاحقا ، تجسدت في المماطلات والتفسيرات الاحادية الجانب والالغاءات والتبريرات الواهية في افتراس الارض الفلسطينية ما عليها ، وما فوقها ، وما تحتها . تكريسا لاحتلالها فلسطين من النهر إلى البحر ، تفنن مخططو السياسة الإسرائيلية في خلق " ملهيات " للشعب الفلسطيني ، وهروبا من استحقاقات أية عملية سلمية حقيقية ، تعيد حقوق الفلسطينيين إلى نصابها ، تارة يعزفون على أوتار ما يسمونه الوطن البديل ، وتارة الدولة المؤقتة ، وثالثة المفاوضات غير المباشرة ، ورابعة ، وخامسة .. وهكذا فإن جعبتهم لا تخلو من هذه الترهات التي يرفضها الشعب الفلسطيني . وكرد على مبادرة السلام العربية ، اجتاحت اسرائيل في العام 2002 بآلتها العسكرية اتفاقيات اوسلو الهزيلة والتي لم تشكل اصلا الحد الادنى للطموحات الفلسطينية ، ودمرت على أرض الواقع كل ما ترتب عليها من حقوق للشعب الفلسطيني ، لتؤكد المرة تلو الاخرى أنها ترفض أن يكون هناك قضية وحق سيادي للفلسطينيين . وها هي اسرائيل تسرح ومرح في سياستها هذه ، فالمباركة الاميركية لها زاد وزنها واتسعت مساحتها في اعقاب أحداث الحادي عشر من ايلول 2001 . وكانت الهدية الكبرى من اميركا لها اعتبار مجمل نضالات الفلسطينيين ارهابا . وثمة هدية اخرى لها جاءتها من العالم العربي الذي أنهى علاقته فيما يخص القضية بانسحابه التدريجي من ساحتها ، والتطبيع مع الكيان الصهيوني .
في ظل هذا التآكل والاضمحلال في مقومات القضية وكل عناصر صمودها وثباتها ، وهذا المنخفض القومي العميق الذي أثر عليها مصحوبا بتخلي " الاشقاء العرب " ، وسقوط بغداد ، سقطت أهم الاوراق وربما آخرها التي كانت في أيدي العرب . فليس هناك جبهات ، وليس هناك مقاطعة ولا لاءآت ، وليس هناك " وطن عربي " ، وانما أنظمة سياسية متفككة متباعدة ضعيفة ترتجف خوفا وخشية من غضبة اميركية تنزل عليها . برغم هذا كله ، وبرغم ما عانته القضية الفلسطينية من تآمر عليها في المسمى والمضمون ، تظل الذاكرة الفلسطينية اقوى من كل ما لحق بها من صدأ وتآكل على مذابح التآمر العالمي والصهيوني والعربي . إنها تاريخ ، والتاريخ لا ينسى ، يظل يضيء هذه الذاكرة ، وتظل الذاكرة مضيئة وضاءة به . ان الذين راهنوا على نسيان القضية ، قد باءوا بالفشل . صحيح ان الأجيال الفلسطينية الأولى التي شهدت مأساة الشعب الفلسطيني ، قد طوى الموت معظمها ، إلا ان الأجيال اللاحقة لم تزل وفية لها ، لم تنسها ، لم تخنها ، لم تتخل عنها ، لم ولن ترضى بديلا عن ثوابتها أيا كانت .
تحت ظلال هذه الظروف ، يقف الفلسطينيون وحدهم في الميدان ليخوضوا مع اسرائيل لعبة المماطلة والتسويف والمفاوضات العبثية . ان إسرائيل تؤمن بالمفاوضات ، لكنها في الحقيقة لا تؤمن بالسلام العادل الذي يفترض ان ينهي احتلالها ، لتقوم على انقاضه الدولة الفلسطينية العتيدة كاملة السيادة والحقوق ، وفي مقدمتها حق العودة ، تكون عاصمتها القدس .