لقد وقف المدرس أمام القضاء، رغم ما يمثله هذا الوقوف من معاناة خاصة عندما يتخلى عنه دفاعه، ويجد دفاع المتهم ساحة الوغى فارغة، فينهال على المدرس بكل المفردات القبيحة في قاموس الشتم، والقذف والطعن، ولا يجد في نفسه حرجا من تذكر ذلك البيت الشعري الذي وجد فيه عزاءه: إذا بليت بشخص لا أخلاق له فكن كأنك لم تسمع ولم تقل وجد المدرس نفسه في المحكمة، واستمع إلى قرار المحكمة الذي نقله إليه أحد الناس والذي ينص على براءة المتهم من كل ما نسب إليه، وخرج وكأن الزمن يعود به إلى عهد اليونان، وبالضبط في مرحلة كان الفكر السفسطائي هو لون الفلسفة، كان السفسطائي يتلاعب بالكلام ويلاعب الكلمات، وينتقل بين المتناقضات، فيتكلم عن أشياء متناقضة ولا يتكلم شيئا " تكلم بدون أن تقول شيئا" وكان كل كلامه تهريج وعبث. ويستمع المدرس إلى ما يقال، وهو قول فيه قذف وتجريح وطعن وإساءة وبصفة عامة هو شر عظيم وأشكاله متعددة. فهل يعقل أن المدرس يلجأ إلى كسر يده ليستريح من عناء القسم والتلاميذ؟ وهل يدفع أكثر من عشرين ألف درهم من أجل الحصول على هذه العطالة؟ وهل يقوم بأكثر من عشرين حصة للترويض المتعب والمؤلم، كل يوم لتستعيد عضلات يده عملها بتدرج؟ وهل يتناول أدوية لمقاومة التعفنات المحتملة، وتحمل المسمار المعدني الذي أدخل من جهة كتفه ليعود العظم إلى حالته الأولى لأجل أن يستريح؟ فيا أيها الذين تنشرون السموم والإدعاءات والأكاذيب والإشاعات على أخيكم في المهنة، اتقوا الله في خلقه، إن الظلم ظلمات يوم القيامة. لو أراد المدرس أن يحل مشكلته بعيدا عن القضاء، لفعل ذلك وتلقى ما يرضيه أقل أو أكثر من عائلة التلميذ، ولكنه رأى أنه يدافع عن قضية ومبادئ رغم المعاناة الصحية، ورغم المشاكل التي خلقها له وضعه الصحي بالنسبة لأطفاله وزوجته وعائلته التي تحيط به. ولكن للأسف، إن النفوس المريضة لا تنظر إلا إلى ماهو أدنى من الأنف، ولا ترى إلا ما هو أسوأ، فلنحتفظ بقصر النظر وقلة العقل والتفكير. إن رسالة المدرس لا تقوم على سجن تلميذ متهور لم يحسن التصرف أو وضعه تحت الحراسة، لأن رسالته إنسانية، أخلاقية، تمنعه أن يكون هدفه هو إلحاق الشر بالآخرين. إن العلاقة بين المدرس والتلميذ، لا يمكن أن ينظر لها علاقة وساطة بين الكتاب والتلميذ، بل هي علاقة نفسية من نوع خاص. إن المدرس يتعامل مع تلاميذ في طور النمو، أي في طور التعلم، وهذا يقتضي اصطدامات بين جيلين مختلفين في التفكير والعادات والتصورات، وهو يحرص من خلال هذا الاصطدام أن يقدم للتلميذ درسا أو دروسا في التعامل مع الحياة والإنسان فيعلمه معنى أن يحترم الاخرين. وأن يقبلهم ويتقبلهم ويتعاون معهم، ويساعدهم، يضحي من أجلهم ويسامحهم، ويتسامح معهم، ويعتذر لهم، ويعفو عنهم عندما يكون قادرا لا عاجزا على ذلك. إن المدرس يعلم التلميذ أن الاعتراف بالذنب والخطأ فضيلة وليس انهزاما، وطلب العفو شجاعة وليس جبنا، وأن الحق حق فوق كل شخص أو شيء، فيقول الإنسان الحق ولو على نفسه، إن طريق الحق طريق واحد هو طريق مستقيم لا التواء فيه أو دوران، فالحق هو الصدق والعدل، الحق يعلمنا الانتصار على أنفسنا، وتخليصها من الغرور والتكبر والنفاق الخ...هكذا نعلم التلميذ معنى أن يقتسم الكون مع أخيه الانسان. ليس مبدأ المدرس هو الانتقام من المتعلمين، لأن هذا الأسلوب هو ضعف في الشخصية، فما نعلمه للتلميذ من قيم أخلاقية سامية هي جوهر الدين الإسلامي وروحه، هذه القيم هي ما يجب أن تتوفر في المدرس حتى يستيطع أن يقنع بها المتعلم. إن المدرس لا يريد الإساءة إلى التلميذ رغم أن التلميذ هو الذي يسيء إلى استاذه، بل يسعى أن يجعل هذا التلميذ يعترف بخطإه، وتكون له الشجاعة على ذلك، وأن يطلب الاعتذار في حق من أحسن إليه، والذي أخذ على عاتقه أن يعلمه ويخلصه من الأوهام والجهل. ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف إنه، يبذل مجهودات ذهنية وثقافية وجسمية، ويتغلب على صعوبات تذليل الصعوبات. إن رسالتنا التربوية هي رسالة أخلاقية بالدرجة الأولى، هدفها صنع العقول وصقل النفوس وتهذيب الأخلاق، وإعداد للحياة قد لا تكون النتيجة غدا، بل ستكون في يوم ما....