شكلت الأرض الهاجس الأول الذي شغل مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتسل لإقامة وطن لليهود، وشهدت المفاوضات الأولى بين هرتسل وتشمبرلين وزير المستعمرات البريطاني، بشأن استيطان اليهود الاستعماري، نقاش مشروع هرتسل لاستعمار قبرص وشبه جزيرة سيناء حتى العريش. استبعد تشمبرلين قبرص لأن اليونانيين والمسلمين الأتراك سيرفضون ذلك، بعدها اقترح تشمبرلين منح أوغندا للاستعمار الصهيوني واقتنع هرتسل بالعرض. نجح المؤتمر الصهيوني السادس في مدينة بال السويسرية بتمرير موافقة أكثرية المندوبين على قبول العرض وإقامة دولة إسرائيل الجديدة في تلك المنطقة، ولكن المشروع فشل لعدة أسباب أبرزها: مقاومة المستوطنين الإنجليز أي استيطان يهودي واسع يهدد مواقعهم على اعتبار أن المنطقة ستتحول إلى إقليم حكم ذاتي يهودي لو تم المشروع. ومعارضة قسم من الصهيونيين اختيار أوغندا اعتقاداً منهم أنها لن تحرك عواطف اليهود كما تحركها فلسطين التي ترتبط عاطفياً بتقاليدهم وطقوسهم الدينية. وفي كلمته أمام مؤتمر بال في سويسرا عام 1897 قال هرتسل (إننا هنا لنضع حجر الأساس في بناء البيت الذي سوف يؤوي الأمة اليهودية)، وهكذا فسيجلب بالسكان الجدد من كل بقاع العالم وسيحتاجون عمراً جديدا لتصديق انتمائهم الوطني للمكان وإقامة كيانهم الجديد، ولابد من إعادة رسم هذا الوطن بما يتناسب والهوية الافتراضية بالأصل للشعب القادم من بعيد عبر كتابة ذاكرة جديدة، وخلق مساحات سكانية وعمرانية وبيئية تطفي لو نا متميزا للدولة العتيدة، دمج الأعراق والأصول والثقافة بفعل عامل الزمن. وهكذا استقر الأمر أخيراً على اختيار فلسطين وبدأت العمليات المنظمة لتهجير اليهود إلى فلسطين عندما كا نت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، وحتى دون انتظار وعد دولي بإقامة الدولة اليهودية. أمام هذا المشروع الكبير في خلق الكيان الجديد بقيت مشكلة الهوية الثقافية وإمكانية ربطها بما هو موجود على الأرض من تراث إنساني، خصوصا أن التركيبة الاجتماعية للدولة الجديدة تحتوي مزيجا من ثقافات متعددة الأصول، وهنا لابد من الحديث عن الهوية الثقافية للشعوب والتي تتشكل من عناصر عدة أهمها التراث الشفوي والمادي، الآثار العمرانية، الأماكن الطبيعية، العادات والتقاليد والطقوس الدينية ..الخ. في فتره الستينات من القرن المنصرم، بدأت منظمة اليونسكو بالتفكير في إيجاد آلية من شأنها إبراز المعالم الثقافية والطبيعية الهامة بالعالم، باعتبارها تراثاً مادياً ملكا للإنسانية، وضرورة حصرها وتسجيلها والعمل على الحفاظ عليها خاصة وان الحروب التي شهدها القرن العشرين دمرت العديد من الأماكن الأثرية بالعالم، كذلك أتت على جزءاً هاماً من الذاكرة الإنسانية المتمثلة بالأرشيف المدون للشعوب. ما يُميّز مفهوم التراث العالمي هو مدلوله الذي يشمل العالم بأسره فمواقع التراث العالمي هي ملك لجميع شعوب العالم بغض النظر عن المكان الذي تقع فيه، ومهمة اليونسكو العمل على تحديد وحماية وصون التراث الثقافي والطبيعي في كل أنحاء العالم، وخاصة عندما يتسم هذا التراث بقيمة استثنائية بالنسبة للبشرية، وقد تجسدت تلك الرؤية في معاهدة دولية عنوانها الاتفاقية الخاصة بحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي التي اعتمدتها اليونسكو في عام 1972 وعلى إثرها تم تشكيل لجنة التراث العالمي باعتبارها الجهة الرسمية المخولة باستلام ودراسة طلبات الدول لتسجيل المواقع الثقافية الهامة لديها على لائحة التراث العالمي. تجتمع اللجنة مرة كل عام لمناقشة بنود اتفاقية التراث وتطويرها كذلك متابعة المواقع المسجلة التي بلغت إلى يومنا هذا 878 موقعا، منها 679 ممتلكا ثقافيا، 174 طبيعيا، 25 مختلطا، والمجموع موزَّع في 145 دولة طرفا، كذلك دراسة وإضافة طلبات تسجيل مواقع جديدة. في العقد الأخير من القرن العشرين تنبهت إسرائيل إلى أهمية تواجدها ليس على الخارطة السياسية فحسب بل على الخارطة الثقافية للعالم وذلك من خلال تسجيل مواقع تراثية باسمها على لائحة التراث العالمي، وعليه فقد استلزم الأمر أولاً التوقيع على اتفاقية 1972 لصون التراث الثقافي والطبيعي وذلك كشرط أساسي لقبول طلب تسجيلها لأي موقع وهذا ما جرى بالفعل عام 1999، وعليه تقدمت إسرائيل بطلب تسجيل مجموعة من المواقع، و قد وافقت لجنة التراث في العام2001 على تسجيل مدينة عكا القديمة وقلعة مسعدة الرومانية التي تشرف على البحر الميت وسط الصحراء، وتوالى بعد ذلك تسجيل المواقع الأخرى: 2003 تل أبيب (المدينة العصرية)، 2005 طريق البخور (مدن صحراء النقب الأربع أفدت وحلوزا وممشيت وشيفتا التي بناها الأنباط)، موقع التلال التوراتية (مجيدو وبئر السبع) وهي تلال تعود إلى حقبة ما قبل التاريخ، وآخرها في العام 2008 الأماكن البهائية المقدسة في حيفا والجليل الغربي، وبالمجمل هناك ستة مواقع مسجلة على لائحة إسرائيل. يوجد اليوم لإسرائيل تسعة عشر موقعاً آخراً بانتظار التسجيل على قائمة التراث العالمي: القدس (جبل صهيون امتداد للمدينة القديمة)، مدينة قيساريا الرومانية، المسجد الأبيض في مدينة الرملة، تل القاضي في الشمال، مدينة بيسان، سهل الحولة، بيت شعاريم ( تقع على أراضي قرية الشيخ إبريق)، دجانيا ونهلال (أقدم كيبوتسين أسسهم اليهود نهاية القرن 19 وبداية ال 20)، بحيرة طبريا، رحلات السيد المسيح وتلاميذه في الجلي� �، أقدم كنيس في الجليل، جبل كركوم، تمنع (تقع شمال ايلات كانت تسمى وادي الطلح وكان يستخرج منها النحاس أيام الكنعانيين والفراعنة)، منطقة الكهوف التاريخية غرب بيت جبريل (منطقة المغر والخنادق القديمة التي تشهد للمماليك ببناء الكولومباريوم لتربية الحمام الزاجل لإرسال الرسائل)، النبي شعيب، العبيدية (موقع ما قبل التاريخ في جبل الكرمل)، الأجران الثلاثة في صحراء النقب (رنان، الكبير والصفير)، قصر المنية الأموي، اربيل (أخذت التسمية من اربيل العراقية). الإشكالية التي ستواجه إسرائيل في تسجيل المواقع الجديدة ستكون ضمن ملفي تل القاضي وجبل صهيون، فموقع تل القاضي (تل دان بالعبرية) يعود إلى العصر البرونزي، حيث قامت فيه مدينة دان الكنعانية الامورية، وقد خضع إلى بريطانيا إبان فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، وأثناء ترسيم حدود معاهدة سايكس بيكو تم اقتطاع الجزء الجنوبي من التل ليبقى تحت سيطرة قوات الانتداب البريطاني، فيما أصرت فرنسا على التمسك � �باقي الأجزاء من التل ومن ضمنها نبع نهر الدان . بعد التعديلات التي جرت على المعاهدة في العام 1923 والعام 1929 وبعد حرب عام 1948 وتوقيع اتفاقيات الهدنة بقيت المنطقة بأكملها منزوعة السلاح، إلا أن إسرائيل احتفظت بكيبوتس دان الذي أسسته الحركة الصهيونية في العام 1939، أما ما تبقى من مرتفعات تل القاضي فقد ظلت تحت السيادة السورية، وهنا نشير أن المسألة ستحتاج إلى عملية ترسيم للحدود في تلك المنطقة لحسم الأمر. تقدمت الحكومة الإسرائيلية في 28 يونيو (حزيران) 2000 بطلب إلى منظمة اليونسكو لاعتبار «جبل صهيون» جزءاً من التراث العالمي وامتدادا لموقع القدس القديمة، وقد وضعت إسرائيل هذا الطلب على جدول أعمال اجتماع لجنة التراث العالمي الذي عقد في استراليا في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2000. تلقت سكرتارية اليونسكو خطاباً من جامعة الدول العربية، على اثر الاجتماع الذي عقده وزراء الثقافة العرب في الرياض العام 2000، يطا� �بها برفض الطلب الإسرائيلي. ووصلها رسائل عديدة تطالب بتأجيل بحث اعتبار جبل صهيون امتداداً لموقع القدس القديمة. وبناء على ذلك قررت لجنة التراث العالمي تأجيل النظر في طلب إسرائيل خصوصا وأنه كما هو معروف كانت المملكة الأردنية الهاشمية السباقة في العام 1981 إلى تسجيل مدينة القدس القديمة على اللائحة، بالتالي كيف لدولة أن تعاود تسجيل موقع مسجل أصلا باسم دولة أخرى. نشير هنا إلى مجموعة عوامل ساهمت وشجعت إقدام إسرائيل على طلب تسجيل موقع جبل صهيون بالقدس، أولها أن الأردن كان قد أعلن في العام 1988 قرار فك الارتباط بالضفة الغربية واحتفاظه فقط بالإشراف على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية بالقدس من خلال أوقاف القدس، أيضا استحقاقات اتفاقية أوسلو التي أظهرت مدينة القدس على أجندة التفاوض، وربما الحدث الأبرز على مستوى اليونسكو كان استبدال تسمية القدس المحتلة (الصيغة المستخدمة في كافة مشاريع القرارات المتعلقة بالقدس والمدرجة على جداول أعمال المجالس التنفيذية لليونسكو) بتسمية القدس القديمة وذلك في دورة المؤتمر العام لليونسكو العام 1993، مما ساعد إسرائيل على ترويج فكرة مدينة متنازع عليها، أيضاً عودة الولايات المتحدةالأمريكية (الحليف الأول لإسرائيل) إلى منظمة اليونسكو العام 2003 بعد انسحاب دام 18. أثارت الولايات المتحدةالأمريكية عقب عودتها لليونسكو مسألة القدس داعية إلى شطب قرار القدس بذريعة أنه وفق اختصاصات اليونسكو موضوع تقني بحت وليس سياسيا. اغضب الموقف العديد من الدول الأعضاء باليونسكو مما � �ذا بالولايات المتحدة على سحب اقتراحها واضطرارها للدخول كطرف في مفاوضات على مشروع قرار القدس مع وفد فلسطين والوفود العربية حيث عرض بعدها على المؤتمر العام الذي تبناه بالإجماع في دورة المؤتمر العام لليونسكو 2003. بالعودة إلى جبل صهيون، لم تحدد إسرائيل في طلبها ما هو المقصود بموقع «جبل صهيون» ولا يوجد هناك مصدر تاريخي أو جغرافي يمكن عن طريقه الاستدلال على موقع جبل صهيون. فقد ظهر اسم «صهيون» للمرة الأولى في الكتب التوراتية بعد الرواية التي تقول بأن الملك داود استولى على مدينة القدس: «واخذ داود حصن صهيون». (صموئيل الثاني 7:5). وقد استخدمت التوراة اسم «صهيون» للدلالة على مدينة القدس بأكملها، بينما في مواضع أخ رى يطلق اسم صهيون على المنطقة المقدسة فقط من المدينة والتي تعرف باسم «جبل الهيكل» أي منطقة الحرم الشريف: «تعرفون أني الرب إلهكم ساكنا في صهيون جبل قدسي». (يوئيل 17:3). بقي المفهوم الحديث لجبل صهيون مستقرا على المنطقة المعروفة باسم «جبل الهيكل» أو «الحرم الشريف» الذي يضم قبة الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى إلى جانب العديد من الأبنية والقبور التي تدخل في ملكية الوقف الإسلامي. على أية حال فالمسألة ليست مرتبطة بتاريخ الموقع بقدر الوضع القانوني للقدس، باعتبارها ضمن الأراضي المحتلة عام 1967، لهذا فقد أضافت اليونسكو في أسفل الطلب المقدم من إسرائيل لتسجيل جبل صهيون ملاحظة تقول (عدم البت بالطلب حتى إشعار آخر يحدد وضعية القدس ضمن القانون الدولي أو إلى اتفاق كافة الأطراف المعنية على اقتراح موحد لتسجيل المدينة)، إلا أن إسرائيل مستمرة في محاولاتها وتعمل على إثارة الموضوع في ك ل مرة ووضعه على جدول أعمال اجتماعات لجنة التراث العالمي. تتكون اللجنة الحالية وبعد انتخاب أعضائها الجدد في المؤتمر العام الأخير لليونسكو العام 2009 من 21 دولة عضو: البرازيل (رئيسا)، جنوب أفريقيا، استراليا، البحرين، باربادوس، كمبوديا، الصين، مصر، الإمارات العربية المتحدة، استونيا، إثيوبيا، روسيا، فرنسا، العراق، الأردن، مالي، المكسيك، نيجيريا، السويد، سويسرا وتايلاند، وتقرر أن يكون الاجتماع القادم للجنة في نهاية شهر تموز 2010 في البرازيل، ومن ضمن البنود المدرجة على جدول أعمال الاجتماع القادم لائحة إسرائيل كذلك مسألة قبول تسجيل المواقع الف� �سطينية، إلا انه سيكون من الصعب على لجنة التراث قبول مواقع فلسطينية كون فلسطين مازالت بصفة عضو مراقب ولا يوجد لها دولة وهو الشرط الأساس للانضمام إلى قائمة الدول الموقعة على اتفاقية 1972 لحماية التراث الثقافي والطبيعي. الحلول المتاحة إما بإجراء تعديل في بنود الاتفاقية يسمح للكيانات السياسية من غير الدول حق الانضمام والتوقيع على الاتفاقية، وهذا غير وارد على الإطلاق لأنه يفتح الباب أمام العديد من هذه الكيانات للدخول في مشاكل وحساسيات مع الدول الأعضاء، أو أن يتم طرح الموضوع مباشرة على المؤتمر العام لليونسكو والتصويت علية كمشروع قرار يتم تبن يه بأغلبية الأصوات، أو أن يتم إعلان الدولة الفلسطينية وقبول عضويتها في الأممالمتحدة. لقد أثبتت التجارب السابقة بعدم احترام إسرائيل لكافة القرارات التي اتخذها المجلس التنفيذي لليونسكو وقد حاولت دائما عرقلة أي مساعي لتنفيذ إدارة اليونسكو لهذه القرارات التي كانت بغالبيتها ذات طابع تقني، أيضا عدم تعاونها مع كافة مبعوثي المدير العام لليونسكو إلى القدس لتقديم تقارير حول الخروقات الإسرائيلية في المدينة، وقد سبق وان نشرت إدارة اليونسكو هذه التقارير مما أزعج الحكومة الإسرائيلية، أمام كل هذه الإشكالات تبرز أهمية ضرورة وضع إستراتيجية عمل فلسطينية مدعومة عربياً وإسلامياً ومن كافة الدول الصديقة، مستندة إلى كافة القرارات الدولية المتعلقة بفلسطين عموماً والقدس خصوصاً والتي تؤكد بأن القدس تقع ضمن الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل في العام 1967، بالتالي العودة إلى استخدام تسمية القدس المحتلة وبوضوح في كافة القرارات القادمة، خصوصا وأن إسرائيل تؤكد في كل يوم اعتبارها للقدس عاصمة موحدة لإسرائيل واستمرارها ببناء الوحدات الاستيطانية، ولعلها فرصة للتمسك بمشروع قرار قادم حول القدس في اليونسكو يعيد تأكيد إسرائيل كقوة وسلطة احتلال للمدينة، هذا القرار يتطلب جهداً دبلوماسياً استثنائياً خاصة وان أطرافاً دولية لن توافق على هكذا طرح مما سيضطر المجموعة العربية للذهاب بالموضوع إلى التصويت أمام المجلس التنفيذي لليونسكو الذي يبلغ أعضاءه 58 دولة، إلا أن التجربة السابقة بالتصويت على تقرير غولدستون أثبت لنا أن الدبلوماسية الفلسطينية والعربية قادرة على تمرير قراراتها في المحافل الدولية ع� �د توفر الإرادة السياسية لذلك، خصوصا وكما هو معروف أن الهيئتين الرئيسيتين باليونسكو (المجلس التنفيذي والمؤتمر العام) لايوجد لهما صلاحية استخدام حق الفيتو كما هو الحال في مجلس الأمن. باريس في10 شباط 2010