..نشرت صحيفة الوطن الآن في عددها 369 لهذا الأسبوع في ملحقها ضيف الوطن ،اعترافات السيد بن يونس المرزوقي الأستاذ الباحث في القانون العام بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة محمد الأول وعضو المكتب المحلي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حول شخصية ومكانة الدكتور مصطفى بنحمزة . ولما حملته اعترافات الأستاذ المرزوقي من أهمية و صدق وتبيان لحقيقة شخصية الدكتور مصطفى بنحمزة ارتأينا أن نعيد نشرها . ... في بداية الثمانينات ،تعرفت على السي مصطفى بنحمزة رئيس المجلس العلمي بوجدة .جمعتنا ظروف عديدة .كان أولها هو الصدفة .سلمت على صديق لي وجدته يتحدث معه ،فطلب مني الانتظار الى غاية انهاء حديثهما . كان صديقي يسأل : هل يمكن أن تدخل ياء المنادى على فعل ؟مثل قولك ألا يا أدخل الى منزلك .ابتسم السي مصطفى ،وأجابه بهدوء جوابا مطولا عن ياء المنادى ،في النحو ،في الاجرومية ،في المرجع الفلاني ،عند كاتب الفلاني .شرح له تاريخ المنادى في اللغة العربية وأصنافه ... وما أثار انتباهي آنذاك هو حفاظه على وحدة الموضوع رغم أنه في كل مرة كان يستشهد بآيات قرآنية ثم أحاديث نبوية ،ويعود الى اتمام حديثه دون خروج عن سياق تحليله السابق .لقد كان يدرك أنه قد فتح قوسا ويجب عليه إغلاقه حتى لا يتشتت ذهن المتلقي للجواب . لم أحس آنذاك بحرارة الشمس التي كنا نقف فيها ،ولا بمرور الوقت الذي تجاوز الساعة .وما بقي عالقا بذهني هو أن السي مصطفى بعد أن سألني عن تخصصي ،توجه إلي قائلا : ان صديقك يقع في أخطاء شائعة يرتكبه البعض تمحيص ولا تمعن .واستدل على ذلك بأمثلة عديدة . ما زال جوابه راسخا بذهني إلى الآن .كنت أتمنى أن تكون لي قدرته على الإجابة هكذا بدون تحضير .ولعل هذا ما جعلني أكثر من المطالعة إلى الآن . الشخصية القوية كان لهذه الصدفة أثر ايجابي في ربط علاقات تعارف .كنت أسلم عليه كلما ذهبت إلى كلية الآداب بوجدة في مهمة نقابية .ومنذ ذلك الوقت إلى الآن ،مر ما يفوق العقدين ونصف ،والرجل راسخ في أرائه .فالطريق أمامه كان دائما واضحا .أتذكر أنه بمجرد بداية الحديث عن تجزئة القدسبوجدة ،كونا لجنة من ثلاثة أساتذة : أستاذ من كل كلية ( الآداب ،الحقوق ،العلوم ).وهنا توطدت معرفتي به بشكل أوسع . كان عامل الإقليم آنذاك هو محمد بوفوس ،يا من لا يعرفه .لم يكن أحد يتجرأ على أن يدق باب مكتبه أو يقاطع حديثه .كان عاملا بالمفهوم القديم للسلطة .في بداية مشواره بوجدة كان يزرع ((الرعب ))يساعده في ذالك قصر قامته وعبوسه الدائم .لذلك عندما اقترح علينا السي مصطفى أن نذهب للعمالة ،لم نستطع الاعتراض ،ولكن التمسنا منه أن نطلب موعدا قبل الذهاب تفاديا لعجرفة العامل أو رفضه استقبالنا .رفض السي مصطفى الفكرة .وذهبنا مباشرة .وكانت المفاجأة هي خروج العامل من اجتماع مع رؤساء المصالح والأقسام ليرحب بنا . كانت جلسة ممتعة .كنت لا أصدق ما أراه .العامل لا يرفع رأسه أمام السي مصطفى ،ويحدثه باحترام كبير .كان من الواضح أنه أول لقاء بينهما .فالعامل كان يبحث عن جواب لسؤال يقلقه ،وأينما توجه إلا وتتم إحالته على السي مصطفى .فوجدها فرصة سانحة ليلتمس منه التفضل بالجواب عن كيفية نقل مقبرة من مكان لاخر .ومن خلال الجواب الوافي ،نيقنت أن السي مصطفى موسوعة متنقلة .كان يحدث كعادته بهدوء ،وكان العامل يوسع من أسئلته .بل إنني اعتبرت أن العامل يعمل على إطالة الجلسة . ترددنا بعد ذلك عدة مرات على مكتب العامل .حققنا للأساتذة آنذاك مكاسب مهمة ،يشهد على ذلك أن العامل كان يأمر رؤساء والمصالح بدعوتنا الى أي اجتماع يهم الجامعة والجامعيين .فعلا،السي مصطفى شخصية قوية . مسار ...في الطريق المستقيم السي مصطفى استطاع تدريجيا أن يفرض نفسه دون أن يكون رجل سلطة يمتلك القهر والإجبار ،ودون أن يكون رجل سياسة يمتلك الة حزبية ،ودون أن يكون نقابيا يختبئ وراء منظمة نقابية ،ولا حتى رجل عنف يفرض ذاته بقوته الجسمانية . فرض نفسه بعلمه الواسع أولا .لقد أبدع في طريقة التبليغ .ابتعد من البداية عن الاساليب العقيمة التي تجعل الناس ينفرون من مجالس العلم ،وسن لنفسه طريقته الخاصة التي تحبب للمستمعين ما يقوله .يتحدث الكثيرون عن دور السي مصطفى في بناء المساجد ،لكنهم يتناسون الأهم وهو دوره في ملءهذه المساجد .متى كان الناس ،وخاصة الشباب ،يتدافعون الى بيوت الله بهذه الكثافة ؟ومتى كان الناس ينتظروا درسا أو محاضرة أو تدخلا بهذه اللهفة ؟ السي مصطفى فرض نفسه ثانيا بعمله .العلم اذا لم يصاحبه العمل يصبح غير ذي جدوى.وهكذا قام بمجموعة أعمال خيرية لا يمكن حصرها في هذه العجالة .وليس من المستساغ تعدادها هنا لان الجميع متأكد بأنه يقوم بذلك لوجه الله .ولا ينتظر من أي أحد جزاءا ولا شكورا. خلال هذا الربع قرن الذي عرفته فيه ،لا أتذكر أنني رأيته متجهما .فالرجل يؤمن بالقدر خيره وشره .ويستقبل قدر الله بالفرح ،لا كما يفعل اخرون .وحتى في أحلك ظروف المرض ،كان ايمانه القوي يجعله في وضعية أفضل من زائريه ،اذ تجعلهم المفاجئة في حيرة من أمرهم : هل يحزنون لما ألم بالعالم الفاضل ،أم يبتسمون ردا على ابتسامته الدائمة ؟ القدرة على إدارة الاختلاف كل من يسمع عن السي مصطفى دون أن يتحدث اليه ،أو على الاقل يستمع اليه ،يعتقد أن السي مصطفى ليس برجل حوار.فالناس أحيانا يشكلون أراء وفق أهوائهم .السي مصطفى ،على العكس من ذلك.له قدرة كبيرة على الاستماع لمن يخالفه الرأي ،ويترك له الفرصة ليغبر عن رأيه بكل حرية ،حتى اذا تبين له أن المعني قد وصل مبتغاه ،يجيبه بتحليل عميق ،دون تجريح أو تهجم ،يبين له مكامن القوة في تحليله ولكن أيضا مكامن الخلل،يصحح له دون أن يفضحه ،يوجهه دون أن يدفعه ،ينصحه دون أن يأمره .كان في قلب النقاش حول قضية مدونة الأسرة .ولم نسمع أبدا أنه تخاصم مع أحد ما .كان همه هو مناقشة أفكار الاخرين دون الحديث عن شخصيتهم فالرجل الفاضل لا ينزل من مستواه . خاتمة لم أكن أقصد من هذا السرد ،أن أعدد محاسن السي مصطفى ،فهو في غنى عن أس شهادة من هذا النوع .ولكن القصد كان هو تقريب القارئ من بعض الجزئيات التي قد تضيع مع الأيام. فالرجل عالم بحق ،وعامل بصدق .لكن هذا لا يمنع من الإشارة الى أن أحد مؤسسي اليسار الراديكالي بالمغرب كان في زيارة لمدينة وجدة .ودار بيننا حديث طويل .لكن ما أصار انتباهي هو إصراره على السلام على السي مصطفى قبل مغادرة وجدة .كنا جماعة .سألناه عن السبب .فأجاب بلغة عربية فصيحة : هنيئا لوجدة وللجهة الشرقية بعالم جليل من هذا العيار ،ويكفي هذه التخوم فخرا أن السي مصطفى يعيش فيها .ألححنا عليه في السؤال عما يمكن أن يجعل يساريا يقول هذا .فأجاب : ان السي مصطفى بمثابة سد ضد التطرف ،سواء كان من اليسار أو من اليمين ،انه يؤسس للأمة الوسط لم يتمكن من إتمام حديثه لان موعد القطار قد حل .لكن الرسالة وصلت ...انتهى كلام الأستاذ المرزوقي .