لم يعد خافياً على أحد معنى التطبيع، والدعوة إلى ممارسة التطبيع مع العدو في شتى المجالات، ولكن يبدو من الأهمية بمكان، إعادة تعريفه باختصار. التطبيع "كما هو مفترض" هو فتح ساحات للتحاور والالتقاء ومشاركة العدو في مؤتمرات أو اجتماعات سرية كانت أو علنية، والمشاركة الفاعلة في جمعيات ما يُسمى السلام، وما يتبع ذلك من تنسيق أمني وسياسي وتبعية اقتصادية للمحتل، ناهيك عن التمثّل باتفاقيات "السلام" المبرمة بين العدو الصهيوني ومصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي أدت إلى تجريف وتعرية الثوابت الوطنية بغية تحقيق سلام مزعوم مع من هو ليس معني به. المفاوضات بين "الإسرائيليين" وفلسطينيين واتفاقيات التطبيع العلني، أثبتت بعد عشرين عاماً ماراثونية فشلها، بل سقوطها سقوطاً مدوياً، وعلى الرغم من ذلك، ما زال هناك من يأمل بما يسمى "حل الدولتين"، أما بعض الذين رفضوا ويرفضون حالياً المشروع الساقط، ليس بدافع وطني نزيه وشريف ، بل بعضهم من غلاة تغليب الهم القطري على الهم العام العربي، من منطلق الحفاظ على مصلحة (بلدي أولاً)، وليكن هذا الشعار غايتهم، أهم من تحرير كل فلسطين والأراضي المحتلة عام 1967، لكن أن يدفعوا بأي حل تسووي أكثر خطورة وسوءً من الأول، بتقديم مشروع التعايش السلمي مع المحتل، وحتى هذه اللحظة لا يوجد برنامج سياسي قائم على توازن القوى بين (الشعبين) على جميع الأصعدة، بل على العكس تماماً، فحتى التفوق السكاني للفلسطينيين، بطريقه إلى تفوق "إسرائيلي"، وما هجرة الآلاف من الهنود والروس والمهاجرين من اليهود العرب وغير العرب للكيان، يثبت أن الغلبة سكانياً للتجمع اليهودي في الكيان الغاصب. ولو استعرضنا على عجالة آخر إحصائيات عدد اليهود في "إسرائيل"، الذين يبلغ عددهم سبعة ملايين، وعدد الفلسطينيين في الضفة والقطاع وفلسطين الداخل المحتل، يبلغ عددهم أربعة ملايين ونصف المليون تقريباً، ومطالبة الصهاينة بتعويض (شتاتهم) وفقاً للقرار 194، أسوة بمن هُجروا من الفلسطينيين قسراً من أرضهم عام 1948، سنصل إلى نتيجة أن القرار يخدم "إسرائيل" ويضيع حقي وحقك وأرضي وأرضك، للعيش بسلام وأمن مع "الجار" المحتل. هذه من الناحية السكانية، أما من النواحي الاقتصادية والتفوق السياسي والعسكري، وتهويد القدس والضفة واقتراب هدم الأقصى، حدّث ولا حرج، إذن ما هو البرنامج السياسي الذي يمكن أن يحقق، ما ذكره أحد طارحي مشروع (الحل الأمثل في الدولة الواحدة)، فقد قفز على آليات ومعطيات على أرض الواقع، إلى نتائج تخيلية وغير مقنعة، لاستجداء "اسرائيل" واقناع الفلسطينيون بالبدء (بالاعتراف بمواطنة مساوية على أرض فلسطين لمن أتوا محتلين مستوطنين، وانتهاء بقبول التعايش مع هؤلاء رغم كل ما اقترفوه).. وفي الوقت ذاته يعتبر بعض هؤلاء الغلاة الوطنيون من مناهضي التطبيع مع العدو، وممن يرفضون "حل الدولتين" لخطورة سطوة (المتطرفين الإسلاميين) على (الدولة الفلسطينية ) الوهمية. إذن الرفض لم يكن على أساس حق الشعب الفلسطيني بأرضه وتخليصه من الاحتلال، إنما نابع من هواجس ومخاوف وجود دولتين متجاورتين متطرفتين دينياً!... كذلك الخوف من مشروع حل الوطن البديل "والكونفدرالية الثلاثية" الذي رفضناه ونرفضه، لأنه يعني باختصار توسع صهيوني، وتمكّن "إسرائيل" من الإمساك بزمام الأمور وقيادة الوطن العربي. إنها مفارقة فظيعة بعد كل هذا، أن يُقدم شعب وأرض فلسطين كبش فداء، من أجل أن لا يتم استكمال إلحاق أو تطويع بعض هذا الجوار لشفط ثرواته، وكأن ذلك لم يحدث بعد احتلال العراق، وتواجد قواعد عسكرية، ومشاريع اقتصادية وتجارية ربحية، وتبادل إعلامي في الخليج العربي، وكأن هذه الحالات لم يتم تطبيقها في مصر والأردن عبر مستثمرين ووسطاء عرب متصهينيين وأجانب، وكأن تلك المشاريع ليست إلا تزاوج تمويل غربي وبأيدي عاملة عربية بأبخس الأجور، وبتكنولوجا "إسرائيلية" عالية الكلفة. والأهم من ذلك كله، تجاهل مرامي المشروع الصهيوني الاستعماري العالمي، والتغاضي عن ماهية إستراتيجية هذا النوع من الاحتلال الإلغائي، ليس لشعب وأرض فلسطين فحسب، بل لكل ما يمت لهوية وتاريخ وجغرافية العرب بصلة من المحيط للخليج العربي. ويستمر التآمر على الشعب الفلسطيني، للتشبّه بما حدث للهنود الحمر في أمريكا، كي يتحولوا أقليّة على أرضهم مقابل أكثرية محتلين. والمطلوب الخروج من نفق مظلم إلى آخر أكثر بشاعة وجرماً من النفق الأول، وإلى حين اكتشاف عقمه وعدم جدواه، يغرق الفلسطينيون بوهم آخر، عنوانه مرة أخرى.. "حل الدولة الواحدة"، تكون "إسرائيل" ابتلعت المشرق العربي بأكمله، وهذا ما ينبغي أن ينذر دول الجوار العربي المجدولة على قائمة توسع "إسرائيل" لرقعة نفوذها دون تحمل كلفة الاحتلال أو مسؤولياته القانونية، فهل يمكن تقبّل الهروب من تحميل الكيان المسؤولية السياسية والأخلاقية والقانونية، إلى قبول محتلين مستعمرين، رغم كل ما اقترفوه، وإذا كان المفهوم الصحيح لطرد المحتل، هو في التحرير، إذن لماذا هذا الخلط العجيب؟!. إن ما ينهي الصراع يتمثّل في عودة الفلسطينيين إلى وطنهم المحرر، لا أن يعيشوا جنباً إلى جنب مع من فتكوا بالحجر والبشر، وعاثوا بالأرض فساداً وتخريباً. الحل لا يكمن بكل الأطروحات المشبوهة تارة، والملتبسة تارة أخرى، إنما بمساندة المحاصرين وإنقاذهم من الغرق على الجبهتين "الإسرائيلية" والمصرية، بفتح معبر رفح، ودعم المرابطين والشعب المنسي في فلسطينالمحتلة عام 1948 من خلال بناء مؤسسات وطنية تعينهم على الصمود والتصدي للمحتل، والتغاضي عن تهريب أسلحة للمقاومين، أسوة بما فعله الملك السنوسي إبان الثورة الجزائرية، وإسقاط سلطة وجودها أخطر بكثير من "التطرف والعنف" الفلسطيني على الجوار العربي، وإبقاء المعركة في الأرض المحتلة، وشطب اتفاقيات التطبيع وملحقاتها..فهل هذا كثير؟!. لا أحد يطالب الأنظمة العربية بواقعها المرير والبائس بتحرير فلسطين كاملة، والمعركة طويلة والحسم يحتاج لسنوات إن لم يكن لعقود، وقد يُحسم الأمر كله بعد نشوب حرب عالمية ثالثة عسكرياً، لكن على الأقل أن لا يحاربوهم، ويدربوا أجهزة دايتون، ويرجحوا كفة الفلسطيني المستسلم، للقضاء نهائياً على المقاومة الفلسطينية، وإن أي حل التفافي سيزيد الطين بلة، لأنه وبال علينا وعلى العرب أجمعين. بالمحصلة، هذه الأفكار الهجينة والغريبة العجيبة، وتآمر أنظمة عربية، جزء هام من إعاقة عملية تحرير فلسطين، فثمة خيارات كثيرة لابتداع وسائل وأساليب للتصدي ومقاومة المحتل، لو وجد الفلسطينيون سنداً وعوناً لهم، ولا ننسى دائماً وأبداً أن الجزائر وقعت تحت الاحتلال 134 سنة، وتم تحريرها على يد الشرفاء والوطنيين والجهاديين العظماء، وبمساعدة ومساهمة مصر عبد الناصر العربي الأصيل، لا باشتراك أدوات التصهين (العربي)، إذ لا يوجد مستعمر بقي إلى الأبد، ولا توجد شعوب قبلت بالتعايش مع السجان والقاتل ومغتصب الأرض والحقوق، ولن يصح بنهاية المطاف إلا الصحيح. أخيراً.. إن فلسطين وكل قطر عربي محتل، لن تحرره نفوس مستعبدة، منافقة أو متلونة حسب المناسبات، والمأجورة.. المأفونة العاشقة للمال والسلطة بهدف السلطة وليس من أجل المقاومة والتحرير الشامل، أو تلك التي تقدم بسخاء تنازلات موجعة ومؤلمة، ظناً منها أنها تحمي باقي البلاد العربية، ولا أحد محصن من المشروع الاستعماري الشامل. فكما قال زعيم الأمة العربية الراحل جمال عبد الناصر، (إن الخائفين لا يصنعون الحرية، والمترددين لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء)...