في ظل الجدل القائم بين الأمانة العامة لمجلس التعليم العالي والجامعات، وردود الفعل الانفعالية على صفحات الصحف المحلية، والسجال المتشنج الدائر بين الأطراف يثير قلقاً بالغاً في الشارع البحريني والخليجي وينعكس بشكل مباشر على مسيرة التعليم العالي، ويلقي بظلال من الشك على مدى جدواه، والعناصر المرتبطة بتخطيطه وكان الأجدى تقديم بعض المقترحات البناءة التي تمثل ضوابط لتحقيق فاعليته ونجاحه. فخشونة الألفاظ المستخدمة في التصاريح المتبادلة في كثير من الأحيان وقسوتها لا تثبت قوة الحجة لأحد، بل على النقيض فمردودها مزعج على الطالب ومفعولها مرعب للمستثمرين المحليين والأجانب ومسيئة إلى السمعة العلمية الرفيعة التي اكتسبتها البحرين بجدارة الرعيل الأول منذ العقود الأولى للقرن الماضي في التعليم النظامي، وقبل ذلك بقرون المكانة العلمية والأدبية التي احتلتها البحرين بجهود علمائها وشعرائها كواحة للعلوم الإنسانية ومنطلق للشعر والأدب ومقصد للتنوير سرى إشعاعه الحضاري في المنطقة بأسرها. وسمعة البحرين العلمية في التعليم العالي محصلة لجهود وتضحيات رجال بذلوا الغالي والنفيس في إرساء قواعد بنيانه، وهي خط أحمر لا يجوز لأحد مهما كان موقعه أن يتجاوزه بحجة النقد للتشهير المؤدي إلى التطوير، فعبر تاريخها الطويل أولت حكومات البحرين المتعاقبة اهتماماً كبيراً ومتزايداً بتنمية الموارد البشرية، فخصصت لهذا الغرض ميزانيات عالية من إجمالي حجم الإنفاق العام لخطط التنمية وأتاحت فرص التعليم في كافة المراحل التعليمية في القرى والمدن الأمر الذي أدى إلى تزايد مستمر في أعداد خريجي وخريجات الثانوية العامة وشجعتهم لاستكمال تعليمهم العالي فابتعثتهم إلى لبنان ومصر والكويت وبعض الدول العربية والأجنبية الصديقة. وفي إطار الجهود التي ترعاها وزارة التربية والتعليم آنذاك لتطوير وتحديث التعليم وتوسعته أفقياً ورأسياً؛ اتجهت حكومة البحرين إلى إنشاء معهد المعلمين وكلية Poly Technical، ومن ثم إنشاء جامعة البحرين إلا إن الحاجة للتوسع في إنشاء الصروح العلمية أصبحت ضرورة مجتمعية لاستيعاب خريجي المدارس الصناعية والفنية الاحترافية ولتلبية احتياجات السوق المحلي فتم إنشاء بعض المعاهد المتخصصة التقنية والفنية كمعهد البحرين للتدريب ومعهد الشيخ خليفة ومؤخراً إعادة افتتاح كلية التقنية بثوبها العصري الجديد. وفي ظل السياسة الرشيدة التي تتبعها حكومة مملكة البحرين وفق معطيات المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المفدى والتي تعمل على دعم وتشجيع القطاع الخاص وإتاحة مجالات الاستثمار له في كافة المجالات والتي يعد التعليم الجامعي أحد أهم هذه القنوات الجاذبة لرؤوس الأموال وإتاحة فرص التعليم العالي لجميع المواطنين ليصل عدد الجامعات الخاصة 12 جامعة رخصت لمزاولة أعمالها في السنوات الأربع الأولى من هذا العقد، إلا أن الطاقة الاستيعابية لهذه الجامعات والكليات لم تعد تكفي لقبول كل الراغبين للالتحاق بالتعليم العالي من أهل البحرين والمنطقة الخليجية ولا تتفق والسياسات العليا الهادفة لجعل البحرين مركزاً إقليمياً جاذباً للاستثمارات الأجنبية ومقراً لكبرى الجامعات العالمية العريقة، الأمر الذي يتطلب إيجاد قنوات جديدة لجامعات جديدة تفتح باب المنافسة لتجويد الموجود من خلال منافسة المعروض فالاحتكار مرفوض من القيادة العليا وممجوج من الشعب وتتيح فرص اختيار أوسع لأنماط التعليم العالي المعاصر المعمول به في الدول المتقدمة: كالتعليم المفتوح والمكثف وعن بعد، إضافة إلى التعليم التقليدي بنظام المقررات لكل من يرغب بحرية اختيار النمط الذي يناسبه والجهة التي يلتحق بها دون ضغط من أحد من أجل استكمال دراسته الأكاديمية لجميع فئات المجتمع دون تمييز من موظفين وعمال وخريجي وخريجات الثانوية العامة المحليين والوافدين من البلاد المجاورة الذين يتزايد عددهم يوماً بعد يوم. وفي ضوء المسؤولية الجسيمة الملاقاة على وزارة التربية والتعليم يأتي دور الأمانة العامة لمجلس التعليم العالي بتشجيع وتمكين القطاع الخاص من إقامة مؤسسات تعليمية على أسس سليمة لا تهدف إلى الربح (الفاحش) وذلك للمساهمة في تلبية احتياجات التنمية المستدامة لمملكة البحرين وفق ضوابط تنظيمية ومعايير معتمدة، فلا أجد هناك ضير بالأخذ من تجارب الآخرين في سبيل تحقيق الأهداف الوطنية النبيلة سواء كان النظام مقتبس من دولة عربية أو أجنبية. كما إن التعاون بين مجالس التعليم مطلوب وبناء ومحمود لتأثيره الإيجابي في تنقية التجارب من الشوائب، وهذا دليل على نضوج تجربة الأمانة العامة لمجلس التعليم العالي وليس قصوراً معيباً. كما أثمر الاهتمام بالتعليم العالي بمملكة البحرين زيادة الطلب الذي فرضته واقع الزيادة المطردة في أعداد طلاب العلم القادمين من المنطقة الخليجية إضافة إلى خريجي وخريجات الثانوية العامة البحرينيين والموظفين الراغبين في التحصيل العلمي العالي بما يفوق وبشكل كبير الطاقة المتاحة لقبول الطلاب بمنشآت التعليم العالي للجامعات القائمة برغم عددها الحالي 12 جامعة خاصة، إلا أن معدل نموها كان أكبر من طاقة منشأتها لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الطلاب الوافدين الذين يفضلون البحرين لموقعها القريب ولبيئتها الجاذبة للسياحة العائلية النظيفة خلافاً لمحدودية مساحتها الجغرافية وقلة سكانها ومجافياً صواب المزاعم الموزعة لنسبة جامعة واحدة لكل مليون نسمة..؟!! كذلك لا يمكن تحديد أفضلية الأنظمة التعليمية المتبعة للتحصل العلمي في الجامعات القائمة لكونها تتبع النظام الكندي أو الأمريكي أو العربي وغيرهم.. فالمعيار المحدد لنجاح أي نظام تعليمي متبع هو مدى مواءمته بين مخرجاته التعليمية وسوق العمل، خصوصاً والبحرين قد عانت في السنين ال8 الأخيرة ما يكفي من مشكلات كادت تمزق نسيجنا الاجتماعي وتنعكس سياسياً إلا ما رحم ربي بتدخل جلالة الملك المفدى ومبادرته السخية بتخصيص 30 مليون دينار لحل مشكلة البطالة التي استشرت في أوساط المتعلمين خريجي بعض الجامعات القائمة حالياً والتي تلقفها سعادة الدكتور مجيد بن محسن العلوي وصاغ لها حلولاً مبتكرة متطورة أعادت ركب البحرين التنموي إلى مساره الطبيعي، وماتزال الجهود مستمرة لحلحلة البطالة المقنعة بكل تصنيفاتها نتيجة ضعف مخرجات الجامعات وعدم مواكبة مخرجاتها التعليمية والتدريبية لمتطلبات التأهيل والمهارة والأداء المطلوبة للوظائف المعروضة الملبية لاحتياجات سوق العمل، وكان من أبرز سلبياتها: 1- وجود بطالة بين فئات خريجي الجامعات وما يرتبط بها من تأثيرات اجتماعية وأمنية. 2- اللجوء إلى العمالة الأجنبية لتوفير احتياجات المنشآت من المهن والتخصصات مما أدى إلى خروج جانب من الدخل الوطني خارج البلاد نتيجة لتحويلاتهم. 3- تضاؤل إنتاجية وفعالية بعض الإدارات نتيجة لتحميلها لأعداد متزايدة من الخريجين غير المؤهلين بشكل مناسب. 4- ضعف مسايرة متطلبات المجتمع الاقتصادي المتقدم الذي يرتكز بشكل أساسي على قوة عاملة تكون النسبة الغالبة منها معدة إعداداً جيداً في حقول مختلف العلوم المتقدمة والتكنولوجيا. ومن هنا فمن الضروري أن تستعيد وزارة التربية والتعليم دورها الريادي، ومبادراتها الطموحة وتعيد الحيوية إلى ساحة التعليم العالي بضخ المزيد من الجامعات الجديدة المؤهلة وفقاً لمعايير اللوائح المنظمة لمجلس التعليم العالي المقر من قبل رئاسة مجلس الوزراء، وأن تفتح الأبواب الموصدة للمنافسة العادلة الهادفة لتحفيز الجامعات القائمة والجامعات الجديدة لإثبات الكفاءة باستنباط آليات رقابية ذاتية تسهم بشكل فاعل في تصحيح أوضاعهم وتحسين أدائهم طواعية من أجل الحفاظ على بقائهم في ظل وجود كم جديد من الجامعات العالمية العريقة المنجذبة بقوة إلى البحرين لموقعها الاستراتيجي ولانفتاحها الديمقراطي ولإرثها الحضاري في المنطقة لتقديم خبراتها التعليمية عالية الجودة، وتسهم بدفع عجلة النمو والتطوير التي تشهدها البحرين وبتقديم نموذج مختلف يأخذ في اعتباره ارتباط مناهجها وتخصصاتها التي سيتم قبول الطلاب بها مواكبة ومواءمة بدرجة وثيقة لاحتياجات قطاع الأعمال من تخصصات ومهارات علمية تطبيقية وبتوليد مهن جديدة وفرص عمل لخريجيها وفقاً لرؤية البحرين الاقتصادية ,2030 وخطط التنمية المستدامة بمملكتنا العزيزة.