لعل من نافلة القول قبل الخوض في بعض أهم تفاصيل موضوع هذا المقالة إن إعادة توصيف هذه الظاهرة الخطيرة بكل أبعادها، ليست موضوعنا الأساسي الذي نحن بصدد تناوله، على الرغم من إنها مسئولية دينية وأخلاقية كبيرة وواجب وطني يتحمل مسئولية أعباءه والتوعية به ومواجهته أصحاب القرار ذوي الصلة- في هذا الشأن- وكذا كل من كان له اهتمامات حقه بقضايا هذا الأمة وهمومها من رجال الإعلام والصحافة والمراكز البحثية والأحزاب،....، لاسيما في حال أرتبط هذا الأمر بمنظومة متكاملة من الظواهر السلبية المتنامية تدور رحاها داخل أروقة أجهزة القانون والقضاء أو خارجهما، بصورة تهدد أحد أهم ركائز الأمن المجتمعي-هذا إن لم نقل أهمها- وضمن هذا السياق أتحمل مسئوليتي كأحد أولئك الأبناء الذين قدر لهم ولوج معترك الكلمة الصادقة والمسئولة التي مازال لها مكانا مرموقا في بلادنا من بوابة الصحافة الوطنية وصحيفة إيلاف منها-بوجه خاص- من خلال المساهمة المتواضعة في إعادة وضع اليد على بعض أهم هذه الظواهر كلما تسنى لنا الوقت ذلك، عسى أن يكون لها صدئ ايجابي في واقعنا اليومي. وانطلاقا من ذلك يتسنى لنا القول إن منبع الاهتمام بموضوع هذه المقالة تحديدا، هي أسباب ذاتية مازالت أعيش مع والدي وأسرتي بعض أهم تفاصيلها المقيتة والمحزنة ضمن أروقة القضاء اليمني في محافظة تعز بالرغم من مرور 19 عاما عليها، وموضوعية تتعلق بمحاولة شد انتباه الجهات المعنية لهذا المرض الاجتماعي بأبعاده الأمنية الخطيرة وأهمية الوقوف عليه في ضوء استمرار تنامي عملية الإصلاحات الجارية للأجهزة القانونية والقضائية في بلادنا-هذا أولا- وبخطورة استمرار غض الطرف عنها بعد قراءة مقالنا هذا تحت أية مبررات كانت، لأنها ستكون مجرد محاولات للتقليل من خطورة أبعادها أو للتنصل عن أحد مسئولياتها الملقاة على عاتقها، ولاسيما إنها تبدو للوهلة الأولى في ظاهرها صغيرة الحجم وقليلة التأثير، وسهلة الاحتواء بالمقارنة بالظواهر الأخرى-وفقا- للنظرة التقليدية التي درج الكثيرين عليها- إلا أنها على أرض الواقع عكس ذلك، حيث استطاعت- مع مرور الوقت- أن تحكم براثن مخالبها الطويلة وأنيابها في أهم مفصل من مفاصل الحياة العامة (أجهزة القانون والقضاء)، لدرجة أصبح معها القول بضرورة أن تقف الجهات المسئولة الرسمية كانت أم غير الرسمية صاحبة القرار والكلمة الفصل أمرا ملحا وضروريا لا مفر منه للحيلولة دون إمكانية استفحالها كورم سرطاني خبيث يصعب إزالته مع مرور الوقت، لاسيما إنها تنمو بسرعة وسط مجتمعاتنا دون أية كوابح قانونية وأخلاقية ودينية تذكر، وكأنها أصبحت تحصيل حاصل في ظل اكتمال تبلور أهم عناصر الشبكة الواسعة والمعقدة نسبيا من الظواهر السلبية الرئيسة ذات الارتباط الوثيق بها، بحكم وحدة المسرح الإداري ك(القضاة والإداريين، المحامين، المدعين، المدعى عليهم، شهود الزور،...)؛ من خلال ما تمارسه هذه العناصر من أدوار محورية متباينة مباشرة وغير مباشرة ضمن إطار منظومة واحدة متعددة الأبعاد و الأطراف لكنها موحدة النوايا والأهداف تتمحور في بعض أهم معالمها الرئيسة في التعطيل النسبي أو الكلي للقوانين واللوائح النافذة وقبلها للضمائر والوازع الأخلاقي والديني، بصورة تضعنا-في نهاية المطاف- أمام مفترق طرق خطير سيطال المجتمع بمنظومته الأخلاقية والدينية، لدرجة يصعب التغاضي عنها أو تجاهلها أو تجاوزها لأية سبب من الأسباب. ومما لا شك فيه إن هذا الأمر تتضح معه بعض أهم الملامح الرئيسة تدريجيا عند إعادة توصيف ماهية وطبيعة ومن ثم حجم هذه الظاهرة التي نحن بصدد ها، وذلك لأننا نقف أمام صورة مكتملة الأبعاد والأطراف ولو بشكل نسبي، تتوزع فيها الأدوار بين حلقات متعددة ومتداخلة؛ تضم كلا منها أطراف لها مصالحها الذاتية الضيقة، لعل أحد أضعف حلقاتها-وفقا- للنظرة الأولية هم شهود الزور الذين يقفون بالعشرات على أبواب المحاكم ينتظرون فرصهم اليومية للحصول على مبالغ زهيدة أو طائلة من المال، مقابل تقديم الشهادة المطلوبة أمام القضاة في أية مسألة من المسائل -وفقا- لتلقين محامي المدعى أو المدعى عليه، لدرجة بلغت ذروتها مع تطور هذه الظاهرة ضمن أطر مُنظمة تقف ورائها أيادي فاسدة يمكن إعادة بلورتها تحت مصطلح (سماسرة المحاكم)، وهو الأمر الذي يعني إننا نقف أمام ورم سرطاني خبيث وخطير في آن واحد تسري سمومه في مفاصل المجتمع دون أن نشعر به، كي نفاجأ بما لا تحمد عقباه. والثابت لنا إن هذا الأمر يتم تحت مرأى ومسمع معظم القضاة والإداريين، وكأن الأمر لا يعنيهم البتة، حتى وصل الأمر في كثير من الأحيان إنهم يستمعون لشهادة نفس الأشخاص في العديد من القضايا المختلفة مكانا وزماننا ونصا ومضمونا وأطرافا في نفس اليوم؛ ولاسيما عندما يتطور هذا الأمر باستمرار تنقلهم اليومي بين قاعات وأروقة المحكمة يؤدون دورهم أو يستعرضون خدماتهم، بصورة تثير الاستغراب والحزن والخوف، دون أن يكون لهم أية ردة فعل ايجابية يترتب عليها الخروج بمعالجات إجرائية للقضاء عليها، تحت مبرر إن المهم لديهم ليس التحقق من هوية الشهود وصولا إلى التعامل بروح القانون قبل نصوصه، بل في استكمال إجراءات قانونية بحتة حتى لو كانت تسير بالضد من أساسيات تحقيق الحد المعقول من العدالة التي أقسم على الأخذ بها عند توليه مهام منصبه، بما لا يخل بأبسط قواعد تطبيق العدالة في طبيعة الإجراءات المتبعة وطبيعة الأحكام الصادر عنها، وبالتالي ما تتحمله جميع الأطراف والقضاة والإداريين منهم-بوجه خاص- على المستوى الشخصي من أوزار في دنياهم وأخرتهم تنئ عن حملها الجبال، وعلى المستوى الوطني من تبعات قانونية وأخلاقية ودينية متعاظمة، نظرا لما لها من انعكاسات سلبية متنامية وخطيرة على أمن واستقرار المجتمع؛ جراء غياب بعض أهم أساسيات تحقيق العدالة في الإجراءات والأحكام. وعودا إلى بدء لا يسعني إلا القول بأهمية ما أوردته في هذه العجالة من مقالتي على الرغم من أنها لا تغطي سوى النذر اليسير لما يحيط بهذه الظاهرة ومثيلاتها من تعقيد وغموض حادين، وهو الأمر الذي يتوجب معه على أصحاب القرار في بلادنا والأجهزة القضائية والإعلامية والبحثية منهم- بوجه خاص- ضرورة متابعة و إيلاء هذه القضية بأبعادها المباشرة وغير المباشرة اهتمامهم الخاص، من خلال محاولة تسليط الضوء عليها من كل الجوانب، كي يتسنى لنا الكشف عما يحيط بها من تعقيدات منظورة وغير منظورة، وبالشكل الذي يفضي-في نهاية المطاف- إلى القضاء التدريجي عليها وتقويض أسبابها ودعائمها وأثارها السلبية، بدلا من أن تبقى مواقفنا مجرد ردود أفعال يغلب عليها الطابع السلبي. والله من وراء القصد