في الثلاثين من تشرين الثاني 2009,تقدم حزب الله بوثيقة سياسية ,أجمل فيها ما تبلور لديه من مواقف تجاه القضايا المطروحة على ساحته الوطنية اللبنانية في ترابط مع الساحتين العربية والإقليمية ومن ثم الدولية.وما بدا واضحاً في روحية هذه الوثيقة,هو انطلاق الحزب من ضرورة إخضاع جميع التعارضات الجانبية في الساحات المذكورة,للتعارض الرئيس مع الإمبريالية الأمريكية وامتدادها العضوي الكيان الصهيوني,الأمر الذي اعتبره أحد مثقفي اليسار المهزوم, نزعة إصلاحية باتت تسود هذا الحزب"تحت تأثير المخاض المعقد الذي عاشه هذا الحزب على امتداد ربع قرن,والذي انتهى به إلى حسم انتسابه لنظام الطوائفية السياسية القائم في لبنان,وإلى مهادنة النظام الرسمي العربي والقوى الاستعمارية الأوروبية"(؟). حيث تشي الوثيقة – كما يستهلُّ مثقفنا القول – بتعدد مقاربات الحزب للقضايا المطروحة وبتفارق هوياته,عامداً إلى خلطةٍ فكرية يموِّه من خلالها تحوله من حزب للمقاومة الإسلامية وكممثل لفقراء الأرياف ولأحياء المدن الهامشية أقله في الطائفة الشيعية,إلى حزب يعبر عن تطلُّع الشرائح البرجوازية في تلك الطائفة والتي نمت خلال ربع القرن الماضي,نحو تعظيم حصتها في كعكة السلطة(؟). ويتبدى النزوع الإصلاحي والخلط الفكري في الوثيقة - وفق قراءَة صاحبنا – في التالي:- 1 – أنه في سعيه للتحوٌّل إلى حركة تحرر وطني (متخلياً عن هويته كحركة مقاومة),يستعيد الحزب مفاهيم التراث اليساري العالمي بما في ذلك اكتشافه لشمولية الهيمنة الإمبريالية بزعامة أمريكا,والتي تستدعي شمولية في المواجهة على مستوى المنطقة والعالم. لكنه حين يربط بين شمولية الهيمنة الإمبريالية وبين الرأسمالية المتوحشة,فهو إنما يوحي بقبوله للرأسمالية الناعمة وليس رفضه للنظام الرأسمالي. وحين يتسرع الحزب في إعلان انهيار نظام القطب الواحد, والأفول التاريخي للمشروع الصهيوني, فإنه لا يستند في ذلك إلى فكر علي شريعتي كمعبِّر عن إسلامٍ ثوري, بل إلى بعض مصطلحات الثورة الإيرانية التي بهتت مع حلول الضبط الأمني محل الحماسة الثورية,ثم يتحدث الحزب عن دور الإيمان الديني في التزام قواعده وجماهيره بنظم الدولة الإدارية وذلك تعبيراً عن تفارق هوياته كما يرى الكاتب. 2 – كما تغادر الوثيقة المبدئية الثورية حين تقارب الواقع العربي,مكتفية بالحديث عن أطماع الإمبريالية في نفط المنطقة والهيمنة على موقعها الاستراتيجي,مع اكتفائها بإيراد عبارات خفرة عن نظم الاستبداد والتبعية. فيما تكتفي الوثيقة على ذات الصعيد, بالوقوف عند جدل المقاومة / التفاوض بالنسبة لدائرة الصراع العربي – الإسرائيلي, مقدمة تجربة حزب الله في المقاومة والعمل العسكري, على أنها النموذج الذي يجب أن تحتذي به جميع الأطراف العربية.. والعالمية في تصديها الإمبريالية. لكن الوثيقة ,تقفز فوق مسألة الدولة الفلسطينية وموضوع القدس,لكي تدعو إلى تحرير كامل فلسطين في تعارض مع نزوعها الإصلاحي فيما يتعلق بالداخل اللبناني والأوضاع العربية. 3 – وإذ تعلن الوثيقة اندراج الحزب في النظام الطوائفي اللبناني,فإنها رفعاً للعتب,تطرح الدعوة إلى تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية دون إعلان التمسك بهدف الهيئة,بحيث تغدو مثل هذه الدعوة ,غطاء لانحياز الحزب إلى التوافقية الطائفية التي تجسد حسب نص الوثيقة,روح الدستور والميثاق اللبناني. وتعمد الوثيقة في ذات السياق ,إلى إيراد تلك الوصفة المستهلكة التي يحفل بها خطاب زعماء الطوائف في لبنان,بشأن دولة القانون ,وبناء المؤسسات الحديثة,واعتماد الكفاءَة في الوظائف,ومكافحة الفساد,واستقلال القضاء,ثم بشأن الإنماء المتوازن في المناطق اللبنانية,واقتصاد قائم على القطاعات الإنتاجية,وخدمات مناسبة في الصحة والتعليم والسكن,وذلك دون التطرق إلى الدين العام وإلى باريس 3. ومثل هذا الخطاب"المعتدل",يبرز في دعوته للدول الأوروبية,لأن تغلِّب شراكتها المتوسطية على علاقاتها الأطلسية الاستعمارية. وفي الختام, يبرز صاحبنا ما يعتبره تعارضاً بين موقف الحزب وموقف حليفه السوري, حين يعلن الحزب رفضه الاعتراف بالدولة الصهيونية ولو اعترف بها الجميع, كما يُبرز تعارضه مع حليفه الجنرال عون, حين يطالب بالحقوق المدنية لأبناء المخيمات الفلسطينية في لبنان والتي يعارضها حسب زعمه الجنرال عون وتياره. وفي تصدينا لهذه القراءَة المغرضة لوثيقة حزب الله, فإننا نقول التالي:- أولاً – إن ما يصدر عنه هذا المثقف باسم اليسار,هو موقف التشكيك بقوى الصمود والمقاومة في المنطقة,معتبراً – شأن أترابه في الأوساط المحبطة داخل هذا اليسار - ,أن ما يعني هذه القوى هو الحفاظ على السلطة أو الوصول إليها,وأن سلوك هذه القوى يتعارض مع ما تطرحه من شعارات بشأن مجابهة المشروع الأمريكي – الصهيوني,فحزب الله كما هو حال حركة حماس على الساحة الفلسطينية,يرى أن تضحياته ,باتت تؤهله لأن يكون شريكاً كاملاً في النظام الطوائفي(ومثل ذلك نظرة حماس إلى موقعها في السلطة)وبالنسبة لسورية,فهي مستعدة للانضواء في إطار المشروع الأمريكي – الصهيوني,شريطة أن يوفِّر لها أصحاب هذا المشروع الغطاء المطلوب ممثلاً في استعادة الجولان المحتل,وهكذا الحال بالنسبة لقادة الثورة الإيرانية ,الذين استبدلوا حماسة الثورة بالضبط الأمني حفاظاً على امتيازاتهم,ومثل ذلك غمزه من قناة الجنرال عون ,الذي قلب بخياره المقاوم ,الموازين التي راهن عليها الأعداء على الساحة اللبنانية. والسؤال الذي يمكن أن يطرح على أصحاب هذا الخطاب من مدعي اليسار,هو لماذا يستعجلون خروج هذه القوى من ساحة المواجهة مع المشروع الإمبريالي الصهيوني,على فرض أنها مهيأة لذلك بحكم تركيبتها الطبقية ؟,وجوابنا على هذا السؤال ,هو أن أصحاب هذا الخطاب,يشعرون بالحرج من وجود قوى عربية وإسلامية ما زالت ترفع لواء المواجهة إزاء الهجمة الاستعمارية محققة انتصارات أدت إلى تراجع تلك الهجمة,ذلك أن ثبات تلك القوى على المبادئ التي تنكَّر لها هذا الوسط من أدعياء اليسار,من شأنه أن يعري موقفهم الانهزامي. وهكذا فإنه بدل أن يدعم هذا الوسط صمود تلك القوى ,وبدل أن يسعى إلى تعزيز روحها النضالية بحيث يدعو الجماهير العربية لأن تشكل قاعدة لخيارها المقاوم,فإنه يسارع إلى القول,بأن هذه القوى قد تخلت عن روحها الثورية التي لم تستند من الأساس إلى دعائم مبدئية,وأن الرهان عليها هو رهان خاسر,ليكون الرهان السليم والعقلاني,هو في التحرر من الأوهام التي تصور لنا بأن انهيار الإمبريالية الأمريكية ,والأفول التاريخي للمشروع الصهيوني هو في حكم الممكن,بما يجره ذلك من كوارث على الشعوب العربية وشعوب المنطقة. ثانياً – يسخر الكاتب مما يطرحه حزب الله بشأن ما أسماه جدل:المقاومة/ التفاوض,معتبراً أن الحزب إنما يهرب من تسمية الأشياء بأسمائها في الواقع العربي,إلى نوع من الجدل النظري أو الفقهي,لكنه حين يدلِّل الحزب استناداً إلى التجربة العملية ,على صوابية خيار المقاومة,فإن الكاتب يعمد إلى اتهامه بالنرجسية ,وذلك حين يضع تجربته القتالية خاصة في حرب تموز عام 2006,بتصرف كل من يجابهون الغطرسة الإمبريالية,وكأن الحزب لم يقرن القول بالفعل على هذا الصعيد ,ولا سيما حين بدت ملامح تجربته في ملحمة صمود غزة,ولا يذكر الكاتب,بأن الوثيقة لا تقصر الحديث على تجربة حزب الله في مجال المقاومة,بل إنها تتطرق لما حققته قوى المقاومة في العراق وفلسطينوأفغانستان في تصديها للهجمة الإمبريالية,وذلك في مقارنة مع الحصاد البائس لخيار التفاوض. وعليه يمكن القول,بأن ما يدافع عنه مثقفنا باسم العقلانية التي بات يحمل لواءَها بعض أوساط اليسار التي تخلت عن المبادئ والقيم الثورية,هو نهج التسوية الذي اختطه نظام السادات ملتحقاً بنظم التبعية,ومن هنا يجيء مأخذه على وثيقة حزب الله,التي تقفز على مسألة الدولة الفلسطينية,داعية شعب فلسطين إلى الانتحار من خلال رفع شعار تحرير فلسطين كلها والتمسك بعدم الاعتراف بالدولة الصهيونية. وهكذا فإنه كما يعمد هذا المثقف ,إلى التقليل من شأن الانتصارات التي حققها حزب الله عن طريق المقاومة,فإن أقرانه لا يتأخرون عن تشويه الإنجاز الذي حققته المقاومة على الساحة الفلسطينية,معتبرين أن اندحار الصهاينة عن قطاع غزة,هو بمثابة مكيدة من جانب العدو الصهيوني,استهدفت تفجير الصراع الفلسطيني الداخلي حول من سيحكم القطاع,مثلما استهدفت إلقاء عبء غزة على الجانب المصري,وكأن شعبنا في قطاع غزة الذي شكل كابوساً لقادة الصهاينة أخذ يؤرق أحلامهم,بات في نظر الملتحقين بالمشروع الإمبريالي الصهيوني والخاضعين له باسم الواقعية ,بمثابة نفايات نووية لا يعرف الجميع كيف يتم التخلُّص منها. ثالثاً – وليس غريباً في هذا السياق ,أن يسخر مثقفنا مما تطرحه الوثيقة بشأن علائم انهيار النظام الدولي الأحادي القطبية, والأفول التاريخي للمشروع الصهيوني,وذلك مع تأكيدها على عدم الاستهانة بقدرات أمريكا والكيان الغاصب العدوانية. وعلى هذا الصعيد نود الوقوف عند الملاحظة المفصلية التي تطرَّق لها أحد مثقفينا المنحازين لخيار المقاومة,حين رأى بأن هزيمة القوى الإمبريالية باتت أمراً حتمياً ,كون المجتمعات الغربية التي استطاعت في مرحلة تاريخية سابقة,أن تدعم حركة الاستعمار الكولنيالي,وأن تقدم التضحيات الواسعة بالأفراد دفاعاً عن المشاريع الاستعمارية ,لم تعد هذه المجتمعات مستعدة لمثل ذلك,الأمر الذي يفسِّر وصول الغزوة الأمريكية (والغربية) على العراق وعلى أفغانستان إلى المأزق رغم محدودية خسائرها في الأفراد قياساً بالخسائر التي تكبدتها في فيتنام قبل تسليمها بالهزيمة,كما يفسِّر إحجام الصهاينة عن اقتحام غزة,متحسبين لما يمكن أن يلحق بجيشهم من الخسائر البشرية,والأمر ذاته فيما يتعلق بحربهم الخاسرة على لبنان,وان صورة هزيمة الكيان أمام بسالة الشعب الفلسطيني وقدرته على تحمل التضحيات ,كانت قد ارتسمت أما م ناظريْ جنرال صهيوني,وهو يرى كيف يشيِّع التجمع الاستيطاني الصهيوني قتلاه بالبكاء والعويل,فيما تشيع حشود الشعب الفلسطيني شهداءَها بالهتافات وبالزغاريد. رابعاً – إن ما يزعج مثقفنا في واقع الأمر ,هو ليس ما يعتبره نزعة إصلاحية لدى حزب الله,أو سياسة تتسم بالحكمة والجدية في إدارة الصراع لدى القيادة السورية تبدو في نظره بعيدة عن الثورية الشعاراتية,لأن ما يزعجه في الحقيقة ,هو نجاح حزب الله في الخروج معافىً وأكثر قوَّة من الأزمة التي فجرتها أمريكا على الساحة اللبنانية واستهدفت دفعها إلى الفوضى المدمِّرة التي تأخذ في طريقها قدرات المقاومة,ونجاحه من ثم في إلحاق الهزيمة بآلة الحرب الصهيونية,فهو يريد أن يزج بالحزب والقوى المتحالفة معه,في حركة انقلابية مغامرة,تذكِّر بما انساقت له القوى الوطنية اللبنانية عما 1976,حين اعتقدت بأنها قادرة على تغيير النظام القائم في لبنان عبر الحسم العسكري,وهو يريد كذلك ,أن تصدر سورية عن مواقف ما فوق ثورية,بما يقود إلى عزلتها وضعفها بدل ما فرضته من حضور فاعل على الساحتين الإقليمية والدولية. ونريد القول هنا, بأن سورية التي صمدت على مدى أكثر من عقدين أمام ضراوة الهجمة الإمبريالية التي استهدفت تطويب المنطقة كمجال حيوي للقاعدة الصهيونية,والتي واجهت بثبات وبهدوء أعصاب التهديدات والمكائد الإمبريالية,قد غدت منيعة بعد هذا المسار الشاق,على التسليم بالمشروع الإمبريالي – الصهيوني والاستجابة لشروطه,وما يدركه الأعداء جيداً ,هوأن القيادة السورية حين تطرح السلام العادل والشامل,فهي إنما تطرح تمسكها بالمسار الذي يدفع بالمشروع الصهيوني المدعوم إمبريالياً خطوة تاريخية إلى الوراء ,سوف تعقبها خطوات تقود إلى انهيار هذا المشروع,وذلك هو الفارق في رأينا بين "إستراتيجية السلام"التي تصدر عنها سورية مدعومة بالمقاومة,وبين تلك الإستراتيجية التي تعبر عنها النظم والقوى في المحيط العربي,التي تفضي إلى الارتهان للمشروع النقيض لمشروع الأمة التحرري,وإن مثل هذا الفارق بين موقفين وإستراتيجيتين,هو ما يحاول طمسه المشككون بصدقية قوى الصمود والمقاومة في المنطقة. وفي الختام نقول,بأننا نقيِّم تقييماً عالياً,ما عبرت عنه وثيقة حزب الله من نضجٍ ومن عقلانية ومن دقة في قراءَتها لمعطيات الصراع في المنطقة والعالم,فما بدا واضحاً مما طرحته الوثيقة,هو أن الحزب قد تمكَّن من التوصُّل إلى الصيغة التي تقيم ترابطاً موضوعياً ومتسقاً,بين هويته الطائفية المقاومة ,وهويته الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية,وهي الصيغة التي لا يستطيع استيعابها,إلا من يقف في خندق المواجهة الأمامي متصدياً للهجمة الإمبريالية,مدركاً من خلال الممارسة الثورية ,بأن شمولية هذه الهجمة على شعوب المنطقة والعالم,تفرض مواجهة شمولية لا مكان فيها لأية نزعة انغلاقية مهما كان عنوانها أو مبرراتها,وقد نذكِّر هنا بأن هذا الحزب,لم يتأخَّر عن اتخاذ موقف الحزم,حين تجرأ أعوان أمريكا في الداخل اللبناني على سلاح المقاومة,وحين دعاه الواجب القومي والإنساني,لأن يقدم الدعم لقاعدة المقاومة الفلسطينية في غزة,بما ينفي عنه تهمة نزعة المهادنة لقوى ونظم التبعية أو للإمبريالية.