لقد كشفت الردود والتعليقات التي أبداها معارضي نظرية التطور من بعض علماء المسلمين على خبر اكتشاف علماء التطور لسلف جديد من أسلاف الإنسان في سلسلة تطوره مدى جهلهم بهذه النظرية رغم مرور مائة وخمسين عاما على ظهورها. فلقد أثارت هذه الردود للأسف استياء قطاع واسع من المثقفين كما يظهر ذلك في وسائل الإعلام ومواقع الإنترت وذلك لأن هذه الإكتشاف العلمي جاء ليؤكد نظرية التطور لا لينقضها كما أدعى معارضي النظرية في تصريحاتهم. وللأسف أن كل ما يعرفه أكثر معارضي نظرية التطور من المسلمين عن هذه النظرية أنها تنص على أن أصل الإتسان هو القرد وعندما سمعوا عن هذا الاكتشاف من وسائل الإعلام قرروا على الفور ودون تمحبص للخبر أنه قد تم نقض نظرية التطور وأصبحت النظرية في خبر كان كما جاء على لسان أحدهم. إن ملخص هذا الإكتشاف كما ورد في كثير من المصادر العلمية هو أن العلماء قد عثروا في عام 1994م على متحجرة جديدة في أثيوبيا يبلغ عمرها 4.4 مليون سنة أسموها "اردي" قد تكون أحد اسلاف الجنس البشري حيث أن تركيب هيكلها يوحي بأنها كانت تمشي منتصبة وهو ما يميز البشر على غيرهم من الحيوانات. وهذه المتحجرة ليست الوحيدة التي اكتشفها العلماء كسلف للإنسان فقد اكتشفوا قبل ذلك متحجرات كثيرة من هذا النوع ولكنها أقل عمرا من اردي. لقد عكف أكثر من خمسين باحثا في مجال تطور الجنس البشري على دراسة "اردي" منذ اكتشافها وقاموا بنشر نتائج أبحاثهم في عام 2009م في مجلة العلم (Science Magazine) الشهيرة. فقد نشرت المجلة أحد عشر بحثا علميا لعلماء مرموقين في مجال تطور الإنسان كلها تدور حول هذا السلف الجديد للإنسان حيث قام العلماء بدراسة مختلف القضايا المتعلقة به من حيث تركيب جسمه وأوجه التشابه والاختلاف بينه وبين الكائنات القريبة منه في سلسلة التطور كالإنسان والقرود وطرق عيشه وإلى غير ذلك من الأمور. إن الجديد في هذا الاكتشاف والمثير لعلماء التطور وليس بالطبع لعامة الناس هو أن عمر الجد الذي يلتقي عنده الإنسان والقرود في سلم التطور قد يكون أبعد مما كان يتوقعه علماء التطور. فلقد كان علماء التطور يتوقعون أن يكون الجد المشترك للإنسان والقرود له صفات أقرب ما تكون لصفات القرود وخاصة الشمبانزي ولكن اردي فيها صفات مشتركة موجودة في كل من البشر والقرود فهي تمشي منتصبة كالإنسان وفي نفس الوقت فهي بارعة كالقرود في تسلق الأشجار. وبسبب سطحية فهم معارضي نظرية التطور لهذه النظرية وظنهم الخاطئ أنها تنص على أن أصل الإنسان هو القرد فقد فهموا أن هذا الإكتشاف ينقض نظرية التطور وأن أصل الإنسان ليس بقرد وبهذا تم هدم نظرية التطور بجرة قلم كما يقال. والحقيقة أنه لم يسبق لأحد من علماء التطور وعلى رأسهم داروين أن قال أن الإنسان قد تطور من قرد بل قالوا أن الإنسان لا بد وأن يلتقي مع القرود في جد مشترك في شجرة التطور وهو كذلك يشترك مع بقية الكائنات الحية في جدود مشتركة إلى أن تلتقي جميع الكائنات في أصلها الأول وهي الخلية الحية. فعلماء التطور بل حتى عامة الناس ليس من الصعب عليهم أن يتكهنوا بالكائنات ذات القرابة القريبة في سلم التطور فالخيل والبغال والحمير لا بد وأن يكون لها جد مشترك وكذلك الحال مع الكلاب والذئاب والضباع وكذلك مع الطيور والأسماك والزواحف وغيرها من ملايين الأنواع. ولكن المهمة الصعبة التي يقوم بها علماء التطور هو البحث في طبقات الأرض للعثور على متحجرات تساعدهم في رسم صورة واضحة لعملية التطور وكشف أشكال الجدود التي تفرعت منها الكائنات الحية الحديثة وكذلك أزمان ظهورها. ومما يثير العجب أن يستشهد معارضى نظرية التطور بعلماء التطور للطعن في صحة النظرية وقد أوقعوا أنفسهم في فخ من حيث لا يشعرون فباستدلالهم بنتائج علماء التطور فإنهم يقرون بتطور الإنسان من جدود موغلة في القدم ولها أشكال بدائية أقرب ما تكون للحيوانات وخاصة القرود. ويؤكد هذا الاكتشاف أيضا على نزاهة علماء التطور وأنهم في الغالب لا يوظفون نتائج أبحاثهم لخدمة الأيدلوجيات المختلفة فهم كغيرهم من علماء الطبيعة يستخدمون الطرق العلمية للكشف عن حقائق هذا الكون دون التحيز لمعتقداتهم. فلو أن هذا الاكتشاف قد نقض نظرية التطور كما تخيل معارضيها لكان الأولى بعلماء التطور أن يخفوا نتائجهم أو يحرفوها حيث أنه يترتب على انهيار نظرية التطور إغلاق الآلاف من مراكز الأبحاث المتعلقة بهذه النظرية. وكذلك فإنه لم يسبق لأي من علماء تطور الكون أو الحياة أن ادعى أن نتائج الأبحاث التي يقومون بها صحيحة مائة بالمائة بل هي معرضة للخطأ وكلما قام أحدهم بنشر بحث في مجال تخصصه يأتي باحث آخر فيضيف عليه أو يقوم بتصحيح بعض أخطائه وهكذا دواليك إلى أن تكتمل الصورة عن الأشياء التي قيد الدرس. إن علماء الأحياء الذين يدرسون مسألة تطور الحياة على الأرض مثلهم مثل بقية علماء الفيزياء والفلك الذين يدرسون مسائل نشوء وتطور الكون ككل وعلماء الجيولوجيا الذين يدرسون تطور الأرض ليس لديهم في الغالب دوافع فكرية أو دينية تحثهم لإجراء أبحاثهم لكي تدعم أفكارهم. فعلماء تطور الحياة كغيرهم من العلماء يستخدمون الطرق العلمية المختلفة لمعرفة الطريقة التي نشأت بها الحياة على الأرض والآليات التي تم من خلالها ظهور هذا العدد الهائل من أنواع الكائنات الحية وكذلك تواريخ ظهورها. وكما أن نظريات تطور الكون وتطور الأرض معرضة للإضافة والتصحيح مع تقدم العلم والوسائل العلمية فإن نظريات تطور الحياة أحوج للمراجعة والتصحيح بسبب صعوبة العثور على الأدلة التي تدعمها وهي المتحجرات المخبأة تحت تراب الأرض والمبعثرة في جميع أرجائها ولهذا السبب أمر الله سبحانه وتعالى البشر للسير في الأرض لكي يكتتشفوا كيف بدأت الحياة الأرض في قوله سبحانه "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق" العنكبوت 20. ولسوء حظ علماء تطور الحياة وذلك على عكس غيرهم من علماء التطور أنهم وقعوا ضحية طائفتين من البشر وهم الملحدون وعلماء الدين. فالملحدون استغلوا نظرية التطور منذ ظهورها للطعن في الدين وذلك من خلال الاعتماد على التأويل الخاطئ لنصوص الكتب المقدسة التي تتحدث عن الطريقة التي خلق الله سبحانه وتعالى الكائنات الحية وخاصة الإنسان. ولهذا السبب فقد تم وصم نظرية التطور بالإلحاد منذ ظهورها من قبل علماء الدين المسيحيين واليهود أولا ومن ثم تبعهم علماء الدين المسلمين وذلك اعتمادا على تصورات خاطئة عن الطريقة التي خلق الله بها الكائنات الحية. وبسبب أن نظرية التطور قد ارتبط اسمها بالإلحاد فإن كل من يعمل في مجال تطور الحياة وحتى من يؤمن بصدق نتائجها فإنه يتهم من قبل علماء الدين بالإلحاد, ولقد أدى مثل هذا الموقف إلى ابتعاد طائفة من الناس عن الدين واتجهوا إلى الإلحاد لما يرون من تناقض بين الحفائق العلمية والتفاسير الخاطئة للنصوص الدينية من قبل علماء الدين. ومن الجدير بالذكر أن داروين لم يكن في يوم من الأيام ملحدا فقد قال في آخر كتابه ما نصه "وأن هناك شيئا من الفخامة في هذا المنظور للحياة، بالاشتراك مع قدراتها العديدة المختلفة، في أنه قد تم نفخها بواسطة الخالق بداخل العدد القليل من الأشكال أو في شكل واحد". وللأسف أن علماء الدين لم يتعلموا من دروس سابقة بخصوص موقفهم من المكتشفات العلمية الحديثة المتعلقة بالقوانين التي تحكم هذا الكون فقد سبق لهم رفض حقائق كثيرة ككروية الأرض وأنها ليست مركز الكون وأنها تدور حول نفسها واتهموا العلماء الذين اكتشفوا هذه الحقائق بالكفر ولم يتراجعوا عن موقفهم إلا بعد مرور مئات السنين وفي الغالب على مضض ودون اقتناع. وهاهي الكنيسة الكاثوليكية تتراجع عن موقفها المعادي لنظرية التطور والاعتذار لداروين بعد مرور ما يقرب من مائة وخمسين عاما أما علماء الدين المسلمين فللأسف أنهم لا زالوا على موقفهم الرافض لها بل إنهم لا زالوا على جهل تام بمفاهيم نظرية التطور كما هو واضح من موقفهم الأخير. ولو أن علماء الدين المسلمين فهموا نظرية التطور فهما صحيحا لوجدوا فيها من الحقائق ما يؤكد أن تطور الكائنات لا يمكن أن يتم إلا من قبل خالق لا حدود لعلمه وقدرته. فالصدفة التي يزعم الملحدون أنها تقف وراء عملية ظهور الحياة على الأرض أعجز من أن تصنع أبسط الأشياء تركيبا فأنى لها أن تصنع خلية حية لا زال علماء الأحياء يجهلون كثيرا من أسرار تركيبها أو أن تصنع ملايين الأنواع من الكائنات الحية في أجسامها من تعقيد التركيب ما لا يوجد في أعقد ما صنعه الإنسان. وإذا كان الإنسان العاقل لا يمكنه أن يصدق أن تراب الأرض يمكن أن يتحول من تلقاء نفسه إلى أبسط أنواع الأجهزة التي صنعها الإنسان فمن باب أولى ان لا يصدق تحول تراب الأرض بالصدفة إلى هذه الملايين من أنواع الكائنات الحية. ومما يدعو للإستغراب أن علماء الدين لا يرفضون النظريات التي وضعها علماء الفيزياء لتطور الكون وعلماء الجيولوجيا لتطور الأرض رغم أن هؤلاء العلماء يعزون هذا التطور للصدفة ولكنهم في المقابل قاموا برفض النظريات التي وضعها علماء الأحياء لتطور الحياة على الأرض. إن هذه الجهود الجبارة التي يبذلها علماء تطور الحياة لرسم صورة واضحة عن الطريقة التي ظهرت بها الكائنات الحية على الأرض حري بأن تشكر بدلا من أن يقوم البعض بالتشكيك فيها اعتمادا على تأويلات خاطئة لنصوص الكتب المقدسة. فإن من يشكك في نتائج الأبحاث العلمية التي يقوم بها علماء التطور إنما يريد أن يبقى البشر في جهل تام وذلك على عكس ما حثنا عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة إلى النظر والتفكر في مكونات هذه الكون وكشف أسراره لكي نوقن بوجود إله عظيم يقف وراء خلق هذا الكون. لقد حذر حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله قبل ألف عام علماء الدين من مغبة إنكار الحقائق العلمية اعتمادا على التأويلات الخاطئة لنصوص الكتب المقدسة لما في ذلك من ضرر على الدين. وعلى الرغم من أن الغزالي قام بتأليف كتابه تهافت الفلاسفة لدحض كثير من أراء الفلاسفة إلا أنه لم ينكر علومهم التي تعتمد على أسس علمية واضحة ومما قاله بهذا الشأن "القسم الثاني: ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه، كقولهم: إن كسوف القمر، عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، والأرض كرة والسماء محيطة بها من الجوانب، وإن كسوف الشمس، وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقيدتين على دقيقة واحدة. وهذا الفن أيضاً لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض ومن ظن أن المناظرة في ابطال هذا من الدين فقد جنى على الدين، وضَعَّف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابيَّة لا يبقى معها ريبة. فمن تطلَّع عليها، ويتحقَّق أدلّتها، حتى يُخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممَّن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممّن يطعن فيه بطريقة. وهو كما قيل: عدوّ عاقل خير من صديق جاهل. فان قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: (( ان الشمس والقمر لآيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فاذا رأيتم ذلك فافزعوا الى ذكر الله والصلاة)) ، فكيف يلائم هذا ماقالوه؟ قلنا: وليس فى هذا ما يناقض ما قالوه ، اذ ليس فيه الا نفى وقوع الكسوف لموت احد او لحياته والامر بالصلاة عنده. والشرع الذى يأمر بالصلاة عند الزوال والغروب والطلوع من أين يبعد منه ان يأمر عند الكسوف بها استحباباً؟ فان قيل: فقد روُى انه قال فى آخر الحديث: (( ولكن الله اذا تجلىّ لشىء خضع له)) فيدلّ على ان الكسوف خضوع بسبب التجلى، قلنا: هذه الزيادة لم يصحّ نقلها فيجب تكذيب ناقلها، وانما المروى ما ذكرناه كيف، ولو كان صحيحاً، لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية. فكم من ظواهر أُوّلت بالأدلة العقليَّة التي لا تنتهي في الوضوح إلى هذا الحد. وأعظم ما يفرح به المُلحدة، أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا، وأمثاله على خلاف الشرع، فيسهل عليه طريق إبطال الشرع، ان كان الشرع امثال ذلك. وهذا: لأنّ البحث في العالم عن كونه حادثاً أو قديماً، ثم إذا ثبت حدوثه فسواء كان كرة، أو بسيطاً، أو مثمناً، أو مسدّساً، وسواء كانت السماوات، وما تحتها ثلاثة عشرة طبقة، كما قالوه، أو أقلّ، أو أكثر، فنسبة النظر فيه الى البحث الالهىّ كنسبة النظر الى طبقات البصل وعددها وعدد حبّ الرمان. فالمقصود: كونه من فعل الله سبحانه وتعالى فقط، كيف ما كانت". إن الذي يتدبر كلام الإمام الغزالي يتأكد له مدى عبقريته وتفتح عقله وسعة فهمه للدين وكذلك فهمه لعلوم عصره فهو يفهم فهما صحيحا ظاهرتي الخسوف والكسوف ويصف آلية حدوثهما بشكل بالغ الدقة وهو موقن كذلك بكروية الأرض بينما نجد علماء دين في هذا العصر الذهبي للعلوم لا زالوا في شك من كروية الأرض وبالكاد يمكنهم فهم كيفة حدوث الخسوف والكسوف. وبناء على هذا الفهم الصحيح للحقائق الكونية فإن الغزالي لا يتردد في تكذيب بعض النصوص الدينية غير القطعية أو تأويل النصوص القطعية لكي لاتتعارض مع الحقائق العلمية القطعية . وعلى علماء الدين المسلمين أن يتخذوا من نصيحة هذا العلامة الفذ منارة يهتدون بها وهم يعيشون في عصر فتح الله به جميع أبواب المعرفة على البشر وأن لا يقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه علماء الدين من أهل الكتاب من إنكار نظرية التطور جملة وتفصيلا. إن أكثر الرافضين لنظرية التطور هم من علماء الدين على مختلف شرائعهم وذلك بسبب ظنهم أن الطريقة التي خلق الله بها الكائنات الحية كما وردت في الكتب المقدسة تتعارض مع الطريقة التي تقترحها نظرية التطور. وإذا كان هنالك من مبرر لعلماء الأديان السماوية الأخرى في رفض نظرية التطور فلا يوجد ما يبرر رفض هذه النظرية جملة وتفصيلا من قبل علماء الدين المسلمين. فالكتب السماوية السابقة تكاد تخلو من النصوص التي تدعم مثل هذه التطور بينما نجد في القرآن الكريم عشرات الأيات التي تصرح بوجود مثل هذا التطور. وسنشرح في ما يلي موقف القرآن الكريم من بعض المسائل المتعلقة بنظريات التطور بشكل عام وسيتضح للقاريء أن الآيات القرآنية تشير بشكل واضح إلى وجود مثل هذا التطور في كل ما خلق الله من مخلوقات. ومن الضروري أن نبين للقاريء قبل أن نبدأ الشرح معنى قوله تعالى "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" النحل 40 حيث أن الفهم الخاطيء لهذه الآية يحول دون استيعاب فكرة التطور في هذا الكون. فكثير من المسلمين يستشهدون بهذه الآية للتدليل على أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الأشياء في هذا الكون بطريقة مباشرة وبدون حاجة لأن تتطور من أشكالها البدائية إلى أشكالها النهائية. ويمكن فهم مدلول "كن فيكون" من خلال آية أخرى وهي قوله تعالى "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" آل عمران 59 فعندما خلق الله سبحانه وتعالى آدم قال للتراب كن إنسانا فكان ولكن ليس على الفور بل امتد خلق آدم عليه السلام على مدى فترة زمنية لا يعلم طولها إلا الله عز وجل حيث مر خلقه بمراحل الطين والطين اللازب والحمأ المسنون والصلصال ومن ثم سلالة الطين كما أكد على ذلك القرآن الكريم. وكذلك هو الحال مع خلق عيسى عليه السلام حيث قال الله سبحانه وتعالى له كن طفلا في بطن مريم عليها السلام من غير آب فكان ولكن بعد أن مر في جميع مراحل الخلق التي يمر بها أي طفل في بطن أمه. ونستنتج من هذا أن معنى "كن فيكون" على غير ما يتوهمه البعض من أن الله سبحانه وتعالى يخلق الأشياء على الفور عندما يريد أن يخلقها بل المعنى أنه يخلقها على الصورة التي يريدها سبحانه ولكن على مدى فترات زمنية هو الذي يحددها سبحانه وتعالى. وبناءا على ما سبق فإن جميع مكونات هذا الكون قد خلقت من خلال قول الله عز وجل لللأشياء التي يريدها كوني فكانت ولكن على مدى فترات زمنية لا يعلم طولها إلا الله سبحانه وتعالى. وإذا ما اقتنع القارئ بهذه الحقيقة فإن الأشياء المخلوقة لا بد وأن تمر بأطوار مختلفة تبتدئ بالمادة الخام وتنتهي بالشكل النهائي للشئ المخلوق فالدخان كان المادة الخام اللازمة لخلق السموات والأرض والتراب هو المادة الخام لخلق الكائنات الحية بما فيها الإنسان. ولقد أشار القرآن الكريم إلى أربعة مراحل من التطور التي مر بها خلق الأشياء الحية وغير الحية في هذا الكون. فالتطور الأول هو خلق السموات والأرض من الدخان والذي استغرق يومين من أيام الله سبحانه وتعالى والتطور الثاني هو تحويل الأرض الأولية إلى أرض صالحة لظهور الحياة عليها وقد استغرق أربعة أيام من مثل أيام خلق السموات والأرض. أما التطور الثالث فهو تحول تراب الأرض إلى أول شكل من أشكال الحياة وأما التطور الرابع فهو تحول الكائنات الحية البدائية إلى ملايين الأنواع من الكائنات الحية التي نشاهدها على الأرض اليوم. لقد ورد ذكر المرحلة الأولى والثانية من التطور في قوله تعالى " قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك ربّ العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كلّ سماء أمرها وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم" فصلت 11-12. فهذه الآيات تورد حقائق بالغة الأهمية عن نشأة الكون وقد جاءت أبحاث علماء الفيزياء والفلك لتؤكد صدق هذه الحقائق. فالحقيقة الأولى هي تأكيد القرآن الكريم على أن هذا الكون حادث وله عمر زمني محدد وقد كان هذا الأمر مدار جدل بين فلاسفة البشر حيث أن بعضهم كان يقول بأزلية الكون وقد جاء العلم الحديث ليحسم الأمر ويؤكد على صدق ما قرره القرآن الكريم. أما الحقيقة الثانية فهي تحديد المادة الخام التي خلقت منها أجرام هذا الكون وهي الدخان وقد أكد العلم الحديث هذه الحقيقة وقال أن الفضاء الكوني كان مملوء بالجسيمات الأولية التي نتجت عن انفجار كوني عظيم انبثقت منه مادة هذا الكون. أما الحقيقة الثالثة التي أكدتها الآيات القرآنية وهي مدار حديثنا فهي أن عملية خلق السموات والأرض قد امتدت على مدى فترة من الزمن حددها القرأن الكريم بمقدار يومين من أيام الله سبحانه وتعالى. وبغض النظر عن طول هاذين اليومين فإن هذه الآية تؤكد على تطور الكون من الحالة الدخانية التي كان عليها في بداية اليومين إلى أن اكتمل بناء السماوات السبع والأرض على الصورة التي أرادها الله لها. ومن الواضح أن الحال الذي كان عليه الكون في كل لحظة من لحظات هاذين اليومين غير الحال الذي كان عليه في اللحظات الأخرى وإن ما يقوم به علماء تطور الكون هو معرفة الأحداث التي مر به الكون منذ الإنفجار العظيم. ولقد تمكن هؤلاء العلماء من كشف كثير من أسرار الكون من حيث نوع الجسيمات التي بنيت منها أجرامه والقوى التي تحكم مكوناته وكذلك أبعاده وعدد وأنواع أجرامه والطرق التي تكونت بها هذه الأجرام والطرق التي تكونت بها العناصر الطبيعية وكيفة وصول معظمها إلى الأرض. إن إعتقاد بعض علماء فيزياء الكون بأن أحداث تطور الكون تحكمها الصدفة لا يمنعنا كمسلمين من تصديق نظرياتهم ولولا جهود هؤلاء العلماء لما عرفنا حالة الكون الدخانية عند بداية خلقه والذي جاء مصدقا لما جاء في القرآن الكريم. وهناك إشارة لطيفة في الآيات السابقة وهي أن السموات والأرض قد قبلتا لأن يتكونا من الدخان طوعا وليس قسرا وفي هذا إشارة إلى أن هذا التحول قد تم وفق القوانين التي أودعها الله مادة هذا الكون ولو شاء الله سبحانه وتعالى أن يتكونا قسرا وفي لحظة واحدة لما أعجزه ذلك. وكما أن عملية تكون الأرض الأولية قد تمت في يومين من أيام الله فإن عملية تجهيزها لتكون مهيأة لظهور الحياة عليها قد تمت على مدى أربعة أيام وهي مرحلة التطور الثانية. وقد تم خلال هذه الأيام الأربعة تكون القشرة الأرضية وظهور الجبال والغلاف الجوي وتكون القارات والمحيطات والبحيرات والأنهار وانتظام دورة الليل والنهار. وقد تمكن علماء الجيولوجيا من خلال دراستهم لتراكيب الأرض معرفة كثير من الأحداث التي مرت بها خلال تطورها من شكلها البدائي إلى أن أصبحت على الصورة التي هي عليها الآن. وكما هو الحال مع علماء تطور الكون فإن بعض علماء تطور الأرض يعزون هذه الأحداث للصدفة ولكن هذا الاعتقاد لا يدعونا كمؤمنين إلى تكذيب نظرياتهم بل بالعكس فقد ساعدتنا هذه الحقائق على فهم قول الله تعالى "والجبال أوتدا" النبأ 7 وقوله تعالى "وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم" الأنبياء 31 وإلى غير ذلك من الحقائق الكونية التي ذكره القرآن الكريم. أما المرحلة الثالثة من مراحل التطور فهي مرحلة تحول تراب الأرض إلى أول شكل من أشكال الحياة ويطلق علماء التطور على هذه المرحلة اسم التطور الكيميائي للحياة. ومما يثير الاستغراب أن علماء الدين المسلمين يرفضون هذه المرحلة رغم أن القرآن الكريم يزخر بالآيات التي تتحدث عن هذه المرحلة بينما تخلو منها بقية الكتب المقدسة. ومن الضروري أن نذكر أن معظم الآيات التي تتعلق بمراحل الخلق تتحدث عن خلق الإنسان ولكن المنطق يفرض أن تكون مراحل خلق بقية الكائنات الحية هي نفس مراحل خلق الإنسان. فإذا كان الإنسان وهو أكرم مخلوقات الله سبحانه وتعالى قد خلق من التراب وبهذه الطريقة التدريجية فمن باب أولى أن تكون بقية الكائنات قد خلقت بنفس الطريقة. لقد أشار القرآن الكريم أولا إلى أن جميع الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان قد خلقت من التراب وذلك مصداقا لقوله تعالى "ومن ءاياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشر تنتشرون" الروم 20. وأشار كذلك إلى مرحلتين من الخلق مر بهما البشر وكذلك جميع أنواع الكائنات الحية وهما مرحلة الخلق من التراب ومرحلة الخلق من خلال التناسل كما جاء ذلك في قوله تعالى "أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا" الكهف 37 وفي قوله تعالى "والله خلقكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ جعلكم أزواجا " فاطر 11. وأشار القرآن الكريم كذلك إلى أن الأرض هي المكان الذي تمت فيه عملية خلق جميع الكائنات الحية بما فيها الإنسان وأنها لم تهبط إليها من مكان آخر في هذا الكون وذلك مصداقا لقوله تعالى "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى" طه 55 وقوله تعالى "هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم" النجم 32. ولقد أكد القرآن الكريم على أن أول مراحل خلق الإنسان وبالطبع بقية الكائنات الحية هي مرحلة تحول تراب الأرض إلى طين مصداقا لقوله تعالى "وبدأ خلق الإنسان من طين" السجدة 7. وتحمل كلمة بدأ في هذه الآية دلالة عظيمة لا يمكن استيعابها إلا على ضوء نظرية التطور فلو أن عملية خلق الإنسان قد تمت وفق الطريقة الساذجة التي يتصورها علماء الدين لما استدعى الأمر من الله سبحانه وتعالى أن يقول بأنه بدأ عملية خلق الإنسان من الطين حيث أن كلمة بدأ توحي بعملية خلق امتدت على فترة من الزمن لا يعلم طولها إلا الله عز وجل. وهذا ما أكده القرآن الكريم فقد ذكر المراحل الأخرى التي مر بها الطين أثناء تحوله إلى أول أشكال الحياة. ومن هذه المراحل مرحلة الطين اللازب مصداقا لقوله تعالى "فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم من خلقنا إنّا خلقناهم من طين لازب بل عجبت ويسخرون" الصافات 11-12. ومنها مرحلة الحمأ المسنون وهي مرحلة امتلأ بها هذا الطين بالمواد العضوية التي تكونت في جو الأرض الأولي فأصبح كالماء الآسن الذي تفوح منه الروائح الكريهة مصداقا لقوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون" الحجر 26. ومنها مرحلة الصلصال الذي كالفخار وهي مرحلة حدثت بعد مرحلة الحمأ المسنون حيث تحول الحمأ المسنون بما يحمل من مواد عضوية إلى صلصال كالفخار مصداقا لقوله تعالى "خلق الإنسان من صلصال كالفخار" الرحمن 14. وأما المرحلة الأخيرة من مراحل الخلق فهي مرحلة سلالة الطين والتي كانت البداية التي انطلقت منها الحياة في أول أشكالها مصداقا لقوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" المؤمنون 12. أما طول الفترة الزمنية التي احتاجها هذا التطور الكيميائي لا بد وأن تكون طويلة تقاس ببلايين السنين ولولا أنها طويلة لما استدعى الأمر أن يذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم بقوله سبحانه "هو الذي خلقكم من طين ثمّ قضى أجلا وأجل مسمّى عنده ثمّ أنتم تمترون" الأنعام 2 وقوله سبحانه "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا" الإنسان 1. لقد حددت الأيات القرآنية الخطوط العريضة لعملية تحول التراب إلى أول شكل من أشكال الحياة ولقد شرحت في كتابي "بداية الخلق في القرآن الكريم" ما هو المقصود بهذه المراحل على ضوء الحقائق العلمية التي اكتشفها علماء التطور ووجدت أن الأسماء التي أطلقها هؤلاء العلماء على مراحل الخلق هي نفسها التي وردت في القرآن الكريم. أما المرحلة الرابعة من مراحل التطور فهي مرحلة تحول هذا الكائن الحي البدائي المكون من خلية واحدة إلى جميع أشكال الحياة التي نشاهدها على الأرض اليوم. وقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية ما يؤكد حدوث مثل هذا التطور في خلق الكائنات الحية كقوله عز وجل "سبحان الذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون" يس 36. فهذه الآية تشير بكل وضوح إلى أهم مبدأ في نظرية التطور وهو أن الكائنات الحية بجميع أنواعها قد تطورت من بعضها البعض وليس كما يعتقد معارضيها بأن كل نوع منها قد خلق مباشرة من التراب. فالله سبحانه وتعالى يقرر في هذه الآية أنه خلق جميع أنواع الكائنات الحية مما أنبتته الأرض وليس من الأرض مباشرة وهذا يعني أن الذي أنبتته الأرض من كائنات إنما هي أشكال بدائية من الكائنات الحية. إن المقصود بعملية إنبات الكائنات الحية من الأرض يمكن أن نفهمه من قول الله عز وجل "والله أنبتكم من الأرض نباتا ثمّ يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا" نوح 17-18. ومن المعروف أن البشر وكذلك بقية الحيوانات لا تخلق في الوقت الحالي مباشرة من تراب الأرض كما هو الحال مع النباتات وعليه فإن هذه الآية تتحدث عن فترة زمنية سابقة تم فيها خلق أصول هذه الحيوانات بما فيها الإنسان مباشرة من التراب. وتتحدث هذه الآية عن طريقتين استخدمهما الله عز وجل لخلق الإنسان فأولهما من خلال عملية الإنبات أو التطور وهي النشأة الأولى أما الثانية فهي من خلال الإخراج المباشر من تراب الأرض وذلك عند قيام الساعة مصداقا لقوله تعالى "يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون" المعارج 43. ولقد أشار القرآن الكريم بصريح العبارة إلى عملية التطور التي مر بها خلق الإنسان وكذلك بقية الكائنات الحية كما في قوله تعالى "مالكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا" نوح 13-14. وقد جاء الحديث النبوي الشريف ليؤكد على عملية تطور الكائنات الحية من بعضها البعض وليؤكد على أنها لم تظهر دفعة واحدة على هذه الأرض كما يعتقد البعض فقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبثّ فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد عصر يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" رواه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده. فلقد صنف هذا الحديث الكائنات الحية إلى ثلاثة أصناف وهي النباتات (الشجر) والميكروبات (المكروه) والحيوانات (الدواب والإنسان) وهذا التصنيف يتطابق مع التصنيف الذي وضعه علماء الأحياء للكائنات الحية حبث صنفوها إلى كائنات منتجة (النباتات) وكائنات محللة (الميكروبات) وكائنات مستهلكة (الحيوانات). ومن الواضح أن الكائنات المستهلكة والمحللة لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تعيش على الأرض بدون وجود الكائنات المنتجة وذلك لعدم قدرتها على توفير الغذاء اللازم لها مباشرة من تراب الأرض ولذا يجب أن تكون الطحالب والنباتات أول الكائنات الحية ظهورا على الأرض. وبما أن عملية ظهور مختلف أنواع الكائنات الحية عملية بطيئة جدا كان لا بد من ظهور الكائنات المحللة (المكروه) بعد ظهور النباتات وقبل ظهور الكائنات المستهلكة (الحيوانات) وإلا لقامت النباتات مع مرور الزمن بتحويل جميع المواد غير العضوية المتوفرة في الطبيعة إلى مواد عضوية ولتوقفت الحياة على الأرض بسبب عدم وجود مواد خام جديدة. أما الحيوانات البرية والبحرية فمن الطبيعي أن يتم خلقها بعد خلق النباتات والميكروبات حيث لا يمكنها العيش بدون النباتات التي توفر لها طعامها وكذلك بدون الميكروبات التي تعمل على تحليل المواد العضوية الموجودة في أجسام الحيوانات الميتة فتعيد بذلك المواد الخام إلى الطبيعة ليتم استهلاكها من جديد من قبل النباتات والطحالب. وعندما يقرر الحديث الشريف أن النباتات قد خلقت يوم الاثنين وأن الحيوانات قد خلقت يوم الخميس فهذا لا يعني أن جميع أنواع النباتات والحيوانات قد خلقت دفعة واحدة في تلك الأيام بل لا بد أن خلقها قد تم على مدى بقية أيام الخلق. ومن المنطقي أن يتم خلق الكائنات الحية بشكل تدريجي حيث لا يمكن لبعض الكائنات أن تظهر قبل غيرها وذلك لاعتماد هذه الكائنات على بعضها البعض في غذائها. فالحيوانات المفترسة آكلة اللحوم لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تظهر قبل الحيوانات آكلة النباتات كما أن الحيوانات آكلة النباتات لا يعقل أن تظهر قبل أن تظهر النباتات وهكذا لبقية الكائنات. وعند مقارنة تاريخ ظهور الكائنات الحية كما ورد في الآيات القرآنية وهذا الحديث النبوي الشريف مع التواريخ التي حددها علماء التطور نجد أن هناك توافقا كبيرا بينهما. والحقيقة أن المرء ليتساءل عن السبب الذي يدعو علماء الدين وخاصة المسلمين منهم للنقمة على داروين ومن تبعه من علماء التطور ولا ذنب لهم إلا أنهم قاموا بمحاولات للإجابة على تساؤلات تدور في ذهن كل عاقل حول الطريقة التي ظهرت بها هذه الملايين من أنواع الكائنات الحية على سطح هذه الأرض. فداروين لم يكن فيلسوفا ولم يضع نظرية التطور وهو قابع في بيته لتحقيق هدف فكري معين وهو هدم فكرة الأديان كما يتهمه علماء الدين. فقد ركب داروين في عام 1831م إحدى سفن الاستكشاف الإنكليزية فجابت به على مدى خمس سنوات متواصلة مناطق كثيرة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية والتي تعج بأنواع لا حصر لها من الكائنات الحية. ولقد كان داروين خلال هذه الرحلة الطويلة دائم البحث والنظر لا يترك نوعا من أنواع الكائنات الحية تقع عليه عينيه إلا وسجل صفاته وخصائصه ومواقع عيشه وأوجه الشبه بينه وبين بقية أنواع الكائنات بل تجاوز ذلك ودرس أشكال الحياة المنقرضة التي عثر عليها محفوظة على شكل متحجرات في طبقات الصخور. وبعد أن عاد داروين من رحلته المثيرة هذه مكث أكثر من عشرين سنة يدرس ويقارن أشكال الحياة التي شاهدها أثناء رحلته واضعا نصب عينيه هدف الوصول إلى تفسير مقنع للطريقة التي ظهر من خلالها هذا الكم الهائل من أشكال الحياة على الأرض. وقد توج داروين جهوده هذه بوضعه لأول نظرية بنيت على أسس علمية تجريبية وقد سميت هذه النظرية بنظرية التطور والتي قام بنشرها في كتابه الشهير "أصل الأنواع" وذلك في عام 1859م. إن ما قام به داروين من السير في الأرض لكشف أسرار الحياة عليها كان من المفترض أن يقوم به علماء المسلمين امتثالا لأمر الله سبحانه وتعالى وذلك في قوله عز وجل "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثمّ الله ينشئ النشأة الأخرة إنّ الله على كلّ شيء قدير" العنكبوت 20. إن من يفهم دلالات هذه الآية من علماء المسلمين لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يعيب على المشتغلين في مجال تطور الحياة عملهم هذا أو أن يطلب منهم التوقف عن هذا العمل. وتقرر هذه الآية حقيقتين مهمتين أولهما أن هنالك بداية زمنية محددة ظهرت بها الحياة على الأرض وثانيهما أنه يوجد في الأرض من الأدلة ما يكفي لإرشاد البشر لمعرفة كيف نشأت الحياة عليها. وفي صيغة الماضي لكلمة بدأ إشارة صريحة إلى أن مرحلة تحول تراب الأرض إلى أول شكل من أشكال الحياة قد حدثت لمرة واحدة حيث لا يوجد ما يدل على استمرار حدوثها في الوقت الراهن. إن الهدف من وراء أمر الله البشر للسير في الأرض لمعرفة كيف بدأ الخلق هو لعلم الله أن في بداية الخلق من الأسرار ما سيقنع كفار البشر بوجود قوة حكيمة عليمة تقف وراء عملية تحول تراب الأرض إلى أول شكل من أشكال الحياة. إن تحقيق هذا الهدف لا يمكن أن يتم بجهد فرد واحد بل يتطلب تضافر جهود عدد كبير من العلماء يجوبون أنحاء هذه الأرض يبحثون وينقبون عن مختلف أشكال الحياة فيها ثم يدرسون ويقارنون خصائصها لعل ذلك يقودهم إلى كشف سر نشأة الحياة. إن مثل هذا الدعوة للسير في الأرض لكشف سر بداية الحياة لا يمكن أن تصدر عن إنسان أمي عاش قبل ألف وأربعمائة عام في وسط أمة أمية وفي بيئة صحراوية تخلو من كثير من أشكال الحياة. بل لا بد أنها صدرت عن عليم خبير يعلم تمام العلم أن في الأرض أعداداﹰ لا حصر لها من أشكال الحياة ويعلم أنه لا يمكن كشف الكيفية التي ظهرت بها الحياة على الأرض إلا من خلال السير فيها "قل سيروا في الأرض" ومن ثم رسم صورة متكاملة لهذه الكيفية "فانظروا كيف بدأ الخلق". وممّا يؤكد على أن السير في الأرض هي الوسيلة الأمثل لكشف أسرار بداية الخلق هو أن فلاسفة البشر على كثرتهم لم يتمكنوا من الوصول إلى إجابة مقنعة حول هذا الموضوع بينما تمكن داروين في رحلة واحدة من كشف بعض هذه الأسرار. وبغض النظر عن مدى دقة النتائج التي توصل إليها داروين وأتباعه من بعده حول كيفية ظهور الحياة على الأرض فإن المنهج الذي انتهجوه للوصول لمعرفة كيف بدأ الخلق من خلال السير في الأرض هو المنهج الصحيح الذي كان على البشر أن ينتهجوه من قبل أربعة عشر قرنا. إن في تتبع عملية تطور ملايين الكائنات الحية من بعضها البعض ومعرفة الأصول التي تلتقي عندها إلى أن تجتمع في أصل واحد ومن ثم دراسة الكيفية التي نشأ بها هذا الأصل من التراب من الأسرار العجيبة ما يقنع البشر بأن هنالك قوة لا حدود لعلمها وقدرتها تقف وراء عملية خلق المخلوقات بهذه الطريقة. وإذا ما استمر علماء التطور في السير على هذه المنهج فإنهم سيجمعون من الأدلة والبراهين ما يقودهم لمعرفة الكيفية التي بدأت بها الحياة على الأرض وسيعلمون حينئذ أن الله هو الذي بدأ الخلق وهو الذي أشرف على كل جزئية من جزئيات هذا الخلق وصدق الله العظيم القائل "سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ أولم يكف بربّك أنّه على كلّ شيء شهيد" فصلت 53. وأخيرا فإن التصورات التي وضعها علماء التطور للطريقة التي خلقت بها الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان من التراب أقرب لأن تصدق من قبل الناس من التصورات التي يتوهمها علماء الدين لهذع الطريقة. بل إن الآيات القرآنية المتعلقة بمراحل الخلق لا يمكن أن تفهم فهما صحيحا إلا على ضوء التصورات التي وضعها علماء التطور بينما تعجز تصورات علماء الدين عن تفسير مدلولات هذه الآيات كما هو الحال مع مرحلة الحمأ المسنون ومرحلة سلالة الطين. وكذلك فإن تصورات علماء الدين لا تصمد أبدا أمام الأدلة العلمية الدامغة التي اكتشفها علماء التطور لطريقة ظهور الحياة على الأرض وطريقة ظهور ملايين الأنواع من الكائنات الحية. فعلماء الأحياء يقدرون عدد أنواع الكائنات الحية التي تعيش على الأرض اليوم بين مليونين وخمسة ملايين نوع أما عدد الأنواع المنقرضة فيقدرونها ما بين خمسة ملايين وخمسة عشر مليون نوع وإن كثيرا من هذه الأنواع لا يرى بالعين المجردة كالبكتيريا والفيروسات. ولو أن عملية خلق الكائنات الحية قد تمت على حسب ما يتصور أنصار الخلق المباشر وهي أن الله قد شكل الطين على هيئة إنسان أو أي كائن آخر ثم تركه ليجف ثم نفخ فيه الحياة ليصبح كائن حي من لحم ودم لتطلب الأمر أن يقوم سبحانه وتعالى يبناء ملايين المجسمات لمختلف أنواع الكائنات الحية ثم قام بنفخ الحياة فيها. إن التصور الخاطيء الذي رسمه أنصار الخلق المباشر لطريقة خلقهم من التراب قد يثير السخرية عند جهلة الناس كما حدث مع كفار العرب عند سماعهم لقوله تعالى "فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم من خلقنا إنّا خلقناهم من طين لازب بل عجبت ويسخرون" الصافات 11-12. إن سخرية كفار العرب ليس لإنكارهم بأنهم قد خلقوا من التراب وأنهم سيعودون إليه بعد موتهم بل لاستهجانهم للطريقة التي خلقوا بها من الطين حسب ما تصورته عقولهم. فربما قال بعضهم أن الإله الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم قادر على خلق الأشياء من خلال قوله لها كوني فتكون فلماذا إذا خلقهم بهذه الطريقة الطويلة والتي يتبعها البشر عند تصنيع ما يصنعون من أشياء؟ وفي مقابل هذه السخرية نجد أن علماء التطور في هذا العصر تكاد رؤوسهم تتصدع وهم يحاولون إيجاد تفسيرات