تحت حراسة أمنية مشددة، أعاد، ظهر يوم أمس الثلاثاء، مرتكب جناية الدم التي اهتزت على وقعها أخيرا سيدي بنور، تمثيل وقائع جريمته البشعة، بحضور الأستاذ محمد الدك، نائب الوكيل العام للملك لدى استئنافية الجديدة، وكذا، حشود غفيرة، ناهز تعدادها ألف متتبع وفضولي. وإثر انقضاء فترة الحراسة النظرية، واستكمال إجراءات البحث والتحريات، أحالت الضابطة القضائية لدى فرقة الشرطة القضائية بالمنطقة الأمنية الإقليمية لسيدي بنور، صباح اليوم (الأربعاء)، الجاني، على الوكيل العام بمحكمة الدرجة الثانية، حيث مثل بعد ذلك أمام قاضي التحقيق الاستئنافي، والذي تابعه وفق مقتضيات الفصل 403 من القانون الجنائي، على خلفية "الضرب والجرح بواسطة السلاح الأبيض، المفضي للموت دون نية إحداثه، مع سبق الإصرار والترصد". وأودعه قاضي التحقيق رهن الاعتقال الاحتياطي بالسجن المحلي سيدي موسى، في انتظار مثوله لجلسة لاحقة، حدد تاريخها، لمباشرة الاستماع التفصيلي.
وحسب وقائع النازلة، كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة والنصف من صباح الأحد 23 دجنبر 2012، عندما تلقت مصالح المنطقة الأمنية بسيدي بنور، خبر نازلة الضرب والجرح بواسطة السلاح الأبيض، كان شارع الحسن الثاني مسرحا لها. عممت قاعة المواصلات المحلية برقية عبر الجهاز اللاسلكي، تفيد بضرورة التدخل والانتقال إلى مسرح الجريمة (...). تفاجأ المتدخلون الأمنيون بشخص مضرج في بركة من الدماء، وحوله تجمهر العشرات من الفضوليين. باشرت فرقة الشرطة القضائية، وعناصر مسرح الجريمة، المعاينات، والتحريات الميدانية، في غياب الفاعل الذي كان تبخر في الطبيعة. استجمع المحققون إفادات شهود عيان على النازلة الإجرامية. سيارة الإسعاف لم تتأخر في الوصول إلى مسرح الجريمة، حيث عملت على نقل الضحية، في حالة صحية حرجة، إذ فارق الحياة على متنها (سيارة الإسعاف).
إثر وفاة الضحية، انتقلت الضابطة القضائية إلى المستشفى، وعاينت جثة الهالك، وعملت على استكمال إجراءات البحث، وإيداع الجثة في مستودع الأموات، ورفع تقرير إخباري مفصل إلى الوكيل العام للملك لدى استئنافية الجديدة.
وبالموازاة، شنت الدوريات الراكبة والراجلة، وفرقة الأبحاث التابعة لفرقة الشرطة القضائية والأمن العمومي، بالمنطقة الأمنية الإقليمية، منذ الدقائق الأولى، حملات تمشيطية مكثفة وواسعة النطاق، استهدفت مختلف الأحياء السكنية، ومداخل ومخارج المدينة، والدواوير والتجمعات السكنية المتاخمة لها، وضربت طوقا أمنيا، بحثا عن مرتكب جريمة القتل. فيما تكلفت فرق أخرى بمراقبة الطرق الوطنية والجهوية والثانوية، في جميع الاتجاهات، في دائرة ترابية خارج المدار الحضري، زاد قطرها عن 50 كيلومترا.
التحريات الميدانية التي أجراها المحققون، أفضت إلى تحديد هوية الجاني الفار، والذي استعصى الاهتداء إلى الوجهة التي قصدها، سيما أنه متشرد، ودون سكن قار، و"مقطوع من شجرة"، لا والدين ولا إخوة، أو أقارب، قد يلجأ عندهم للاختباء، أو يتردد عليهم في مناسبات أسرية أو دينية.
استرسالا في البحث الذي تواصل ليل-نهار، وعلى قدم وساق طيلة أسبوع كامل، توصلت فرقة الشرطة القضائية، السبت الماضي، إلى معلومة، وصفت ب "الثمينة"، استغلها المحققون بالنجاعة والسرعة المطلوبتين. المعلومة "الثمينة" مفادها أن الجاني يتردد على المحطتين الطرقيتين بأكادير وإنزكان. تحت الإشراف الفعلي لرئيس المنطقة الأمنية، العميد الممتاز عبد الغني عقيدة، تشكل فريقان أمنيان من خيرة الضباط والمفتشين، ومن فرقة الأبحاث، على رأسهم الضابط الممتاز الحسن المرابط، رئيس فرقة الشرطة القضائية، حيث انتقلوا مساءا، على متن سيارات غير مميزة، إلى أكادير وإنزكان، وضربوا حراسات أمنية ثابتة ولصيقة، شملت المحطتين الطرقيتين المستهدفتين بالتدخل الأمني، والذي كان المراقب العام نورالدين السنوني، رئيس الأمن الإقليمي للجديدة، يتابع أدق تفاصيله وإجراءاته، ويمد عناصر الفريقين بتوجيهاته العملية والميدانية، وطريقة التحرك في دائرة العمليات، وتحديد ساعة الصفر، لاعتقال الهدف المتحرك.
في حدود الثانية من صبيحة الأحد الماضي، وجد الجاني نفسه محاصرا من جميع المنافذ، إذ انقض عليه متعقبوه، وشلوا حركته، واستقدموه مصفد اليدين إلى سيدي بنور، حيث وضعته الضابطة القضائية تحت تدبير الحراسة النظرية من أجل البحث والتقديم.
حسب وقائع النازلة، فإن الجاني عمد إلى ارتكاب جريمته البشعة بدم بارد، وذلك بدافع الانتقام من المجني عليه، الذي كان يشرف قيد حياته، بمعية زوجته وأبنائه الثلاثة، على مقهى شعبية، كائن عند ملتقى شارع الحسن الثاني، وشارع محمد الخامس بسيدي بنور. وحسب الشهادات التي استقتها "المغربية"، فإن القاتل، ويدعى عمر (32 سنة)، يتحدر من منطقة 44 بالمنابهة، الخاضعة للنفوذ الترابي لإقليم مراكش. كانت أهم المحطات في حياته، منطقة الشمال، وتحديدا مدينتي الناضور وتطوان، حيث كان يتاجر في المخدرات، ما كان سببا في قضائه عقوبات سالبة للحرية. وكان يتردد على مليلية السليبة، ويهرب إليها المخدرات، ويهرب منها مواد استهلاكية وسلع "الكونتربوندوس". وحدث ذات يوم أن صادف سيركا متنقلا للحيوانات المفترسة، يقدم عروضا بتراب مدينة مليلية، حيث وظفه المشرفون عليه (السيرك) في أشغال متنوعة، ولما عزموا على الرحيل إلى غرناطة، اندس وسط ركام الحديد والأمتعة، التي نقلتها سفينة على متن ظهرها، في رحلة استغرقت 7 سنوات. ولما رست الباخرة في ميناء الجارة إسبانيا، غادرها خلسة إلى غرناطة، حيث صادف ليلا جزائريين ومصريين وفرنسيين، وقدم لهم نفسه على اعتباره مواطنا جزائريا، ويحمل اسما ثلاثيا "عبد الله محمد سعيد". وما زاد ثقتهم فيه، كون لهجته وطريقة نطقه، تميلان إلى "الجزائرية"، كما كان يثقن الإسبانية. حكى لهم عن مغامرته ومعاناته، والتي كان خير شاهد عليها، حالته ولباسه المتسخ، الممزوج برائحة وبقع "لاكريس". رق الأصدقاء الجدد لحاله، وزودوه بالأكل والشراب، ووفروا له المبيت والإقامة. انتقل بعد ذلك إلى داخل التراب الإسباني، حيث تعرف على عصابة مافيا المخدرات الصلبة، وانخرط في أنشطتها المافياوية، والتي ألقت به عدة مرات، في السجن.
لقد دوخ "عبد الله محمد سعيد" السلطات الأمنية والسجنية الإسبانية، التي لم تشكك البتة في كونه جزائري الأصل. وكانت تعامله على هذا الأساس، سيما أن "الجزائريين يحظون بمنزلة خاصة ومعاملة مميزة في دول أوربا، وحتى في عصاباتها المافياوية. غير أن أمر "الجزائري" المزور سرعان ما افتضح، عندما أحضرت السلطات الإسبانية ترجمانا، تحدث إليه، ووقف على حقيقة كونه مغربيا، وليس "تزايريا"، ما جعلها تقرر إبعاده سنة 1999، بعد أن كان قضى 7 سنوات في سجنها، حيث صقل مهاراته الإجرامية، ووشم جسمه وأطرافه في مناسبات عديدة، إذ لكل وشم دلالة خاصة في حياته.
ما إن جرى ترحيله إلى موطنه الأصلي المغرب، وتسليمه إلى السلطات الأمنية المغربية، حتى وجد عمر، اسمه الحقيقي، (32 سنة)، نفسه يعاني العطالة. وظل يتنقل عبر جهات المملكة من جنوبه إلى شماله، حيث استقر منذ سنتين، بسيدي بنور. ولكسب قوته ومستلزمات الحياة، مارس أشغالا وحرفا، تتوقف على القوة الجسمانية. ومنذ حوالي شهر، استقر في مقهى شعبي، يشرف على تسييره، المجني عليه المدعو قيد حياته عبد السلام (29 سنة)، وزوجته، وكان يقضي المبيت مقابل 5 دراهم لليلة الواحدة. أقام بعد ذلك عند أحد معارفه، لكنه ظل يتردد على المقهى الشعبي، وكان يسيء التعامل مع صاحبه، سيما أنه كان يكشف، بعد استهلاك المخدرات، على عضلات جسده وذراعيه، ويظهر بتباه فتوته، والوشم الذي يحمله على جسده، أمام زوجته (صاحب المقهى). ما حدا بصاحب المقهى إلى طرده أكثر من مرة، ليقرر في الأخير، تلقينه بمعية أحد أقاربه، درسا، لن ينساه. حيث عمدا إلى تعنيفه، ومرة أخرى، حضرت سيارة النجدة، واستقدمته إلى المصلحة الأمنية.
مضت 3 أسابيع على نازلة تعنيفه، غير أنه لم ينس تلك الواقعة التي ظلت موشومة في ذاكرته. حيث قرر الانتقام، ورد الاعتبار لنفسه. كان ينتظر الفرصة السانحة. وذات يوم، بينما كان يتجول داخل سوق المتلاشيات بسيدي بنور، عثر ضمن الأشياء المعروضة للبيع، سكينا من الحجم الكبير، وكان الصدأ يكتسحه طولا وعرضا. اقتناه بدراهم معدودة، وظل يحتفظ به، إلى أن حانت ساعة الصفر لتنفيذ مخططه الجهنمي. كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة والنصف من صباح الأحد 23 دجنبر 2012. كان يمر عبر شارع الحسن الثاني، عندما شاهد عبد السلام بالقرب من دار الشباب، وكان منهمكا حول عربة مدفوعة، في تلذذ "سيكوك". في غفلة من الأخير وزبناء "مول سيكوك"، استل السلاح الأبيض، أداة الجريمة، وهرول صوب هدفه مخفيا ملامح وجهه، وسدد له طعنة غائرة وغادرة، أصابته خلف فخده الأيمن، قبل أن يلوذ بالفرار، خارج المدار الحضري لسيدي بنور، وظل يترقب عن بعد، في أرض خلاء، إلى أن حل الليل، وغادر المدينة جنوبا على متن سيارة للأجرة، تحت جنح الظلام، بعد أن عمد إلى تمزيق بطاقة تعريفه الوطنية، لما علم من صديق هاتفه، بوفاة الضحية عبد السلام، والذي كان ينوي الانتقام منه، ليس بقتله، وإنما بإصابته بجرح غائر، ظن أنه سيشفى، وأن أثاره ستظل تذكره دائما بعمر، الذي كان اعتدى عليه، والذي ثأر لنفسه.
وبطي ملف جريمة الدم التي اهتزت على وقعها مدينة سيدي بنور، تكون فرقة الشرطة القضائية بمفوضية سيدي بنور، والتي تمت ترقيتها، السنة الماضية، إلى منطقة أمنية إقليمية، تمكنت من فك ألغاز 4 جرائم قتل، كانت المدينة مسرحا لها، خلال السنوات الأخيرة، عقب تحديد هويات الجناة، والاهتداء إليهم، واعتقالهم، في ظرف وقت قياسي، تحت الإشراف الفعلي لرئيس المنطقة الأمنية، العميد الممتاز عبد الغني عقيدة.