الدكتور محمد بنطلحة في حوار خاص مع الصحفي عزيز العطاتري بجريدة المساء اليومية.. *الدكتور محمد بنطلحة: أستاذ علم السياسة والسياسات العمومية، منسق التعاون العلمي بين جامعة جوبز هوبكنز الأمريكية والجامعات المغاربية، خبير مستشار لدى البنك الدولي، عضو مختبر تدبير الأزمات الدولية بكلية الحقوق بمراكش. السؤال الأول: الأحداث العالمية التي نعرفها اليوم وبالخصوص أزمة كورنا ترتب عنها أن أصوات العديد من الباحثين والمفكرين باتت تنادي بضرورة إعادة النظر في العديد من القطاعات، هل نحن نحتاج أيضا إلى ذلك وأخص بالذكر إعادة النظر في المنظومة التعليمية وما هي المحددات التي يجب أن تحكمها؟ ج- إن التعليم لم يكن في أي وقت من الأوقات بمنأى عن التغييرات المتلاحقة التي تحرك المجتمعات، مع العلم أن التحول لا يأتي هكذا من دون مقدمات أو لمجرد الرغبة في ذلك، والتحولات ليست مجرد رغبة أو صدفة تاريخية أو قرار، إنه يجب آن تكون لنا رؤية واضحة للتعليم في السياسات العمومية وأن يكون هناك وضوح في التصور لما نريده من التعليم ولما نريده بهذا المتعلم وأن يمتلك الجميع هذا المنظور والانخراط الجاد في تنفيذه وأعني بذلك ضرورة إعداد خريطة طريق للأجيال المقبلة تخضع لسياسة تعليمية واضحة ومحددة وذات استمرارية حتى لا تتنافى والمبادئ الأساسية للسياسات العمومية. إن مستقبل بلادنا يبقى رهينا بمستوى التعليم الذي نقدمه لأبنائنا، كما أن إصلاح هذا القطاع المصيري يظل عماد تحقيق التنمية ومفتاح الانفتاح والارتقاء الاجتماعي وضمانة لتحصين الفرد والمجتمع من آفة الجهل والفقر ونزعات التطرف والانغلاق. إن الفلسفة المؤطرة والموجهة للمنظومة التربوية يجب أن يكون لها هاجسها كالتالي: من نحن؟ وماذا نريد ؟ وما هو شكل المواطن الذي نسعى لتعليمه؟ ووفق أية محددات وأية رؤى؟ وما هي القيم التي يجب على المدرسة أن تنقلها للأجيال المتعاقبة؟ إن التعليم يعتبر مدخلا حيويا لتحقيق الاستقلال الثقافي والقيمي والمعرفي والعلمي، كما لا يجب ألا نختزل قضية التعليم في أعداد الأمية المتفشية أو في بطالة الخريجين من الجامعات لأنه بذلك يتم تقزيم الإشكالية وبالتالي تغيب الأسئلة الكبرى في المشروع الحضاري المغربي. السؤال الثاني: وكيف يمكن أن تواكب الجامعات المغربية هذا التحول على مستوى البحث العلمي؟ ج- يؤكد خبراء اليونيسكو أن البحث العلمي يشكل ركنا أساسيا وعاملا ضروريا لتقدم أي مجتمع مما يحتم على دول العالم المعاصر تقديم المزيد من الدعم للباحثين، للوصول إلى نتائج مهمة تخدم قضايا المجتمع ويشمل البحث العلمي كل جوانب الحياة الاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية، وقد استطاعت الدول التي أولت البحث العلمي العناية والاهتمام المطلوبين توظيف الكثير من نتائجه للوصول إلى حلول ناجعة للقضايا والمشكلات الاجتماعية. ومن الأكيد أن بلدنا يبدوا في حاجة ملحة لتطوير آلية البحث العلمي في ظل الحاجيات المتزايدة للتنمية، ويؤكد خبير اليونسكو في مجال البحث العلمي "جون ديكنسون" استقصاء منهجيا في سبيل ريادة مجتمع المعرفة، بحيث نجد أن مراكز البحث في الغرب مثلا قد تنوعت مكانتها الحقيقية في صناعة القرار أو تقديم ما يلزم من الخبرة والاستشارات ودراسات رصينة معتمدة، تمثل القضايا الحيوية التي تشغل بال الفاعلين والاجتماعين والاقتصاديين والسياسيين، بحيث أن مراكز البحث تلعب دورا رياديا في التوجيه والإنتاج المعرفيين، علاوة على الدراسة العلمية المنهجية لمختلف مشاريع والمسائل التي تتصل بالفرد والمجتمع على حد سواء. من هنا تنبثق جملة من الأسئلة المفصلية حول وضع مراكز البحث العلمية في بلادنا وما هي المعيقات والتحديات التي تواجهها لتحول دون الارتقاء بالبحث العلمي ؟ إننا نجد أن المراكز البحثية تفتقر إلى وسائل لوجستية وبشرية ومالية لكي تقوم بعملها على أحسن وجه، لأنه لم تترسخ لدينا تقاليد سواء على مستوى المؤسسات أو المقاولات في مجال تمويل البحث العلمي واقتصاد المعرفة، ونجد أن قطاع البحث العلمي لا تمثل النفقات الداخلية المرصودة له سوء جزء ضئيل من الناتج الداخلي الخام، بينما يصل المتوسط العالمي في الدول الأوروبية مثلا إلى 2 بالمائة، علما أن الإستراتيجية الوطنية للبحث العلمي قد أوصت بأن تصل هذه النسبة إلى واحد بالمائة في أفق 2025 . وتجدر الإشارة أنه قد سبق لتقرير أعده المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي أن أشار إلى مواطن الضعف الرئيسية لقطاع البحث العلمي، وتتمثل في غياب جهاز لتنسيق السياسات والبرامج القطاعية في مجال البحث العلمي والابتكار وتنمية التكنولوجيا، ثم انعدام سياسة واضحة ومعلنة في مجال البحث بهدف توضيح الرؤية على المدى المتوسط والبعيد، فضلا عن تعقيد تدبير الميزانية وبطء وغياب التشجيعات من طرف المقاولات من اجل البحث والتنمية والابتكار، إلى جانب عدم وجود التقييم المستمر والمتكرر لمنظومة البحث، كما يجب أن نعتمد على ضرورة إدماج البحث العلمي الوطني في السياق العالمي من خلال تشجيع باحثين مغاربة على المشاركة في مشاريع البحث الكبرى الدولية وكذا وضع إستراتيجية تعاون فعالة بين الجامعات المغربية والجامعات ومراكز البحث الدولية وإحداث صندوق بحثي لتمويل الابتكار وكذلك إيجاد آلية لتسريع وثيرة خلق الثروة من نتائج البحث العلمي. كما يجب أن نقر أن مسالة إيجاد الكفاءات تبقى من بين ابرز التحديات التي تواجه البحث العلمي الوطني، لذا يجب لعمل على اتخاذ مجموعة من الإجراءات التحفيزية للحد من هذه الظاهرة. السؤال الثالث: تنكبون حاليا على إنشاء فريق للبحث العلمي الاستراتيجي بكلية الحقوق بمراكش، هل لكم ان تبينوا لنا المقصود بذلك؟ ج- فريق البحث للتفكير الاستراتيجي هو عبارة عن فريق سيضم نخبة من الأساتذة الجامعيين والطلبة الباحثين، إن الهدف من هذا الفريق العلمي أن يكون قوة اقتراحية، هدفها المواكبة العلمية والنقدية والتحليلية للسياسات العمومية، ومحوالة تقديم الحلول والبدائل التي يمكن أن يستند عليها صانع القرار مع ضرورة الالتزام بأخلاقيات البحث العلمي. إن مجموعة التفكير الاستراتيجي نعتبرها مرادفا لمصطلح مراكز الفكر Think Tanks، ونعني بهذا المصطلح مجموعات بحثية، دوره الرئيسي هو إنتاج الأبحاث والدراسات في مجالات متعددة بما يخدم السياسات العامة للدولة، وتقديم رؤى مستقبلية تهم الفرد والمجتمع وصانعي القرار، ونجد أن هذه المراكز تعتبر أحد المرتكزات الأساسية بالغرب لإنتاج البحث العلمي والمعرفة والتفكير العام في الدولة، وذلك من خلال الأنشطة العلمية التي تقوم بها ممثلة في المؤتمرات التي تعقدها، والأبحاث والإصدارات الدورية والكتب والمنشورات التي تصدر عنها ولم تعد مهمة مراكز التفكير مقتصرة على تقديم دراسات أكاديمية تحليلية نقدية، بل صارت تشمل معالجة مشاكل معينة بصورة مباشرة وتقديم المشورة لصانعي القرار مع اقتراح البدائل. إنها دعوة إلى شيوع مبدأ التقييم ودعم ثقافة الفريق أي العمل العلمي الجماعي والمؤسساتي، كما أن مجموعة البحث هاته يجب عليها امتلاك رؤية وأهداف إستراتيجية واضحة ومؤسسة على العقل والعلم والانفتاح على كل الكفاءات البشرية ذات الكفاءة والاستحقاق. إننا وانطلاقا من وعي أكاديمي، وحس أكاديمي مسؤول، نطرح مثل هذه الأفكار من أجل مساهمة الجامعة المغربية عبر اقتراحات علمية كفاعل وشريك في الخيارات الانمائية من أجل خدمة البحث العلمي وخدمة هذا الوطن الذي ننتمي إليه. السؤال الرابع: هل نحتاج إلى إعادة النظر في المنظومة التعليمية الجامعية برمتها بحكم هذا التاريخ المنفصل الذي نعيشه حاليا؟ ج- لقد أدرك المختصون في الجامعات الغربية أن التعليم لم يكن في عصر من العصور بمنأى عن التغيرات المتلاحقة التي تجري في المجتمعات. إن تطوير دور العملية التعليمية لا يجب أن يبقى مقتصرا على نقل المعرفة للطلاب، بل أصبح ضروريا تنظيم وتمكين الطالب من التفاعل الحر مع البرامج التعليمية وتزويد الطلبة بالمهارات العلمية التي تمكنهم من الابتكار والمنافسة والمشاركة الفعالة في إيجاد حلول جذرية لكل مشكلات المجتمع المحيط بالجامعة. إن عالم اليوم أصبح يستخدم لغة جديدة تماما، ويتحدث بمفردات متغايرة، تتعلق في معظمها بالثورة التكنولوجية الرابعة، ولا يعقل أن نعيش في هذا العالم باليات ومفردات الماضي، زيادة على ذلك يجب أن نعي جيدا أن الدرس الجامعي الحديث، لا يلغي دور الأستاذ بل أصبح دوره أكثر أهمية وأكثر صعوبة، فهو شخص مبدع دو كفاءة عالية يدير العملية التعليمية بإقتدار وهو مزيج من القائد ومدير المشروع البحثي والناقد والموجه وهو جوهر العملية التعليمية، لذا يجب عليه أن منفتحا على كل جديد وعلى الإبداع والابتكار، وأن يساهم الدرس الجامعي في تنمية مكونات التفكير النقدي وتكوين العقل المبدع، ويتجه نحو تعليم التفكير، لأن الجامعة يجب أن تضع مهارات التفكير ضمن أولويات الرئيسية. إن تعليم المستقبل، يرتكز في أهدافه على تمكين الطالب من توليد المعلومات وجعله قادرا على التصور والتحليل المنطقي والاستنباط والاستقراء، كما يهدف إلى التحول من التعليم الذي يعتمد على إعطاء المعلومات إلى التعليم الذي يقوم على الفهم ومهارات الحياة. السؤال الخامس: وما هي المحددات الجديدة التي يجب أن تحكم منظومتنا التعليمية ككل؟ ج – يجب أن نعترف بأن الإصلاحات السابقة في مجال التعليم كانت في مجملها إصلاحات متفرقة ومتقطعة لا تخضع لسياسة تعليمة واضحة ومحددة الأهداف تشكو من عدم الاستمرارية وهذا ما يتنافي والمبادئ الأساسية للسياسات العمومي، فهناك قطيعة ما بين البرامج التعليمية السابقة، مما جعلنا نفتقد لرؤية نسقية. كما يجب علينا أن لا نرهن السياسة التعليمية للمنطق السياسوي الضيق، بل يجب تربية قيم العقلنة والشفافية، لأن مستقبل بلدنا يبقى رهينا لمستوى التعليم الذي نقدمه لأبنائنا. السؤال السادس: القرار العمومي اليوم أثبت محدوديته في مواجهة الأزمات - القطاع الصحي نموذجا - ما هي المداخل الحقيقية لمواجهة مثل هاته اللحظات الحرجة في التاريخ؟ ج- في البحث العلمي نحاول دائما أن نحدد المفاهيم، قبل إعطاء إجابات لأننا نعتبر أن تحديد المفهوم بمثابة جواز سفر تواصلي بين الكاتب والمتلقي لتقاسم المعاني والدلالات المقصودة من الخطاب. إن هذا يدعونا إلى البحث، حيث يجبان ندرك أولا أن صناعة القرار عبارة عن مسارات وطرق تلتقي وتتقاطع فيما بينها، بحيث أن الوسط القراري هو وسط تعددي تحكم وجوده مجموعة من السلطات التي تتدخل في تشكيل القرار، وهو ما يسمى بدوائر القرار، كما أن دراسة السيرورة القرارية تعتمد بشكل أساسي على معاينة التأثير المتبادل بين النشاط العام والمحيط العام، مما يضع الباحث أمام صعوبة تحديد وبدقة المراحل التي يتم فيها اتخاذ القرارات وكذلك اللحظات التي يتم فيها إتباع سياسة معينة، لأن هناك عدة قنوات يمر منها القرار قبل أن يصل إلى نهايته. وتجدر الإشارة، أن السيرورة القرارية على المستوى العالمي ككل أثبتت محدوديتها، فلا غرابة أن يدخل عام 2020 كتب التاريخ، كعام لم يكشف عن محدودية منظومة الصحة العامة على الصعيد العالمي فحسب، بل ينطوي أيضا على حقبة ركود جيوسياسي، كما يشير إلى ذلك الأستاذ محمد الشرقاوي في إحدى مقالاته ولا يمكن الآن تقليل مخاطر الصحة العامة غير المتوقعة، حيث تسلط الأزمة التي نعيشها حاليا أضواء كاشفة على عيوب هذه الحقبة التاريخية التي تتصف بقصر النظر ومنحى الاستغلال وأنانية بعض المؤسسات والشركات. لقد كتب روبرت شلير Robert Shiller أستاذ الاقتصاد بجامعة "ييل" والحائز على جائزة نوبل عام 2013، أن الوضع الراهن بفعل فيروس كورونا غير عادي للغاية ولم يتوقع المواطنون حدوث أي أمر من هذا القبيل قبل بضعة أشهر ولم يدر في خلد أي كان أنه في هذا العصر الحديث يمكن أن نكون عرضة بالفعل لوباء خطير، وأن الحكومات ستواجه تحديات صعبة مما دعاها لإحتوائه. لقد فشلت الحكومات والمؤسسات الدولية في القيام بدورها الذي كان متوقعا في التحذير والتنسيق للحد من الأزمة، كما أن ثمة تساؤل أساسي آخر يظل مفتوحا، حول ما إذا كان المجتمع الدولي ونظام الأممالمتحدة والمنظمة العالمية للصحة والقانون الدولي الإنساني، قد فكررا سابقا في الردع الوبائي أو ضمان الحد الأدنى من استراتيجيات الأمن البيولوجي... السؤال السابع: ما هي الأسئلة المستقبلية التي ستصبح مطروحة على العالم في تدبير الأزمات؟ بطبيعة الحال، بسبب كورونا ستتغير الكثير من القيم والنظريات والأولويات، وسنكتشف زيف ادعاءات الخطابات السياسوية والشعبوية وعلى الدول والمجتمعات أن تعيد ترتيب أوراقها حتى لا تبقى على هامش التاريخ، وعلى الباحثين أن يعيدوا النظر وبجرأة علمية مسؤولة في طرح الإشكاليات والتصورات والأسئلة الكبرى ...خدمة للبحث العلمي ولمستقبل الإنسانية جمعاء. إن هذا يدعونا إلى استشراف المستقبل، والى تغيير في التفكير وفي طرق التسيير والتفكير وفي طرق التسيير والتخطيط مع العلم أن علم المستقبليات يتعامل مع المستقبلات les Futurs وليس مع المستقبل، ويعتمد على السيناريوهات والاحتمالات وعلى التيارات الكبرى les tendances lourdes وتنطلق منه دراسة للواقع والمعطيات الحالية لاستشراف ما يمكن أن تؤول إليه مستقبلا... عن جريدة المساء