استهلت منطقة الشاوية الموسم الفلاحي الجديد بأمطار الخير والبركة كما تجري العبارة المكرَّسة على لسان المغاربة. وعوض أن تروي عطش وديان المنطقة وتسد رمق سهولها، تهاطلت الأمطار في موجات طوفانية على مدينة الدارالبيضاء؛ فوقع المحضور وانكشف المستور. اعتاد البيضاويون، على غرار سكان مدن مغربية أخرى، على ما تختزنه (ملحمة التساقطات السنوية) من مشاهد درامية وكوميدية أتقنوا فيها دور البؤساء وأبدعوا فيه. فما أن يبدأ حديث الأمطار والخير والبركة حتى تظهر-إذا ما كان الأمر لا يزال يحتاج إلى إظهار- هشاشة البنيات التحتية قبل أن يتبلَّل الجلباب والفوقية، وتتضح سطحية الترميمات الترقيعية وسذاجة الحلول التوفيرية. تتعطل حركة السير وشبكات المجاري. وتتحول الحارات وقد اجتاحها ما ارتفع من منسوب المياه إلى مسابح أولمبية، وتُمْسَخُ الطرقات لتصير بحُفَرِها المتعدّدة والمتنوعة إلى مسالك للعب الغولف تستعصي مفاجآتها ومطباتها على المحترفين والهواة على حد سواء. أما هذه المرة، فلقد وقعت الفاس في الراس؛ وفاجأت التساقطات على غزارتها المدينة وسكانها. ظهر أن وراء الهشاشة هشاشات، وأن بعد أَلِيس في بلاد العجائب عجائبٌ أجل وأعظم. انهارت القناطر وتهدمت البنايات وانجرفت الأراضي ومات الناس. ولم يفلت أساتذة المدارس والثانويات الفرصة فنظموا خرجات دراسية مفيدة بمعية تلاميذهم. قال أستاذ اللغة العربية: هذا ما تعنيه العرب بقولها (طفح الكيل وبلغ السيل الزبى). وشرح أستاذ الجغرافيا: تذكروا ما تعلمناه في الفصل عن عوامل التعرية وحركة الطبقات التكتونية. عقَّب عليه أستاذ التاريخ فقال: حدث في مثل هذا اليوم أن انفجر سد سبأ. واستطرد أستاذ الدين: وحدث أن جمع سيدنا نوح (عليه السلام) من كل نفس زوجها وركب السفينة والمؤمنينَ من قومه فنجاهم الله من الطوفان. وفسَّر أستاذ الجيولوجيا: هذا بالضبط ما وقع بعد العصر الجليدي. أما معلم الرياضة فعلَّق: هذه فرصتكم يا شباب لتتعلموا السباحة على أصولها. و علقت “الجماعة” -وكانت قد أُخِذَت على حين غرة في خرجة من خرجات الهداية والدعوة – أن الطوفان الموعود به قد حَلَّ، وهكذا تكون نبوءة الزعيم الذي خَيَّر الملك الراحل بين الإسلام والطوفان قد تحقّقت. في مثل هذه الأيام العسيرة، يضطر الراجلون للركوب، فركبنا مع الراكبين سيارة أجرة صغيرة أشرنا لصاحبها بالتوقف؛ فهداه الله وتوقف بعد أن بلّلت الأمطار ملابسنا الخارجية منها والداخلية قبل أن تتسرب إلى عظامنا. استفسر السائق عن وجهتنا قبل الخوض في دردشة رحلة التاكسي الكلاسيكية... بادرني بسؤال فيه من حرفية الحديث مع الزبناء وحضور البديهة ما فيه:(هل تُمطر؟) كان رد فعلي-قبل قولي-أن تفرست في عيني الرجل؛ فلعله قد يكون أعمى أو أرعن. وبعد تغليب الفرضية الثانية، طمأنته وأخبرته بأن ما يراه من خلال حاجب الريح أمطار حقيقية وأنها ليست مؤثرات خاصة مستوحاة من فيلم ماتريكس؛ تكون قد تبادرت إلى مخيلته بعد أن تناسى تناول عقاقيره المضادة للذهان لمدة تطول عن أسبوعين متتاليين. سارت (أبحرت) بنا السيارة (الغواصة) تمخر عباب بحر الطرقات وتسبر أغواره، وأفادنا السائق (السندباد البحري) بنظرية علمية جديدة مفادها أن ما يخشاه سكان بيوت المدينة القديمة الآيلة للسقوط على سقوفها المتهارية؛ يتمثل في الزخات الخفيفة لأنها تتسرب إلى عمق أرضي يفوق المتر الواحد، أما مثل هذه الأمطار الغزيرة فإنهم لا يعيرونها اهتماما يذكر؛ لأن عمق تسربها لا يتعدى خمس سنتيمترات على حد قوله. وبأسلوب تربوي رفيع، تكرم علينا بتصوير مجازي لخص فيه عمق نظريته فقال: الزخات تخترق أما الأمطار الغزيرة فإنها (تضرب وتهرب). لم ينبس أحدنا ببنت شفة لا بالتأكيد ولا بالتفنيذ لافتقارنا لثقافة عامة نجاري بها معلومات الكابتن كوك، ماركو دي غاما وماجيلان مجتمعين. بعد أن تأكد الرجل من أنه فرض علينا بحور علومه وأننا (آمنا بالله) ولم نعد نشكّك وندقّق، تلاعب بأزرار المذياع حتى استقر على موجة محطة إذاعية تبث برامجها باللغة العربية. بين فاصلين غنائيين (“كاس البَلَّار” و “بارد وسخون يا هوى”)، أذاعت المحطة حوارا مع المتدخلين من المستمعين حول ما ترتبت عنه الكوارث الطبيعية من مصائب بشرية. تَدَخَّلَ مسؤول صغير. وبعد عن ترحَّمَ على أرواح (شهداء المسابح الأولمبية وملاعب الغولف المفتعلة)، أعرب عن أسفه البالغ لما حدث وما سوف يحدث (لا قدر الله)، ثم -وبدون سابق إشعار- أدار دفة الحديث مائة وثمانين درجة فشهد: (لقد قام المسؤول الكبير بواجبه على أحسن ما يرام. رأيته بأم عيني وقد خرج من بيته في منتصف الليل ليصول ويجول بحذائه المطاطي ويتفقَّد بركَ المدينة ومستنقعاتِها.) وأردف بالحرف الواحد أن هذا أمر جلل وأفاد ما معناه أن المسؤول المبَجَّل (بارك الله فيه وكثَّر من أمثاله) أقدم على فعل ما لا عين سائل رأت و لا أذن مسؤول سمعت و لا خطر ببال الجن قبل البشر. ثم استطرد: (رحم الله الضحايا -سامحهم الله- هذا مصير البنايات العشوائية ومآل البناء بدون ترخيص!) تمعنت في كلام الرجل كالمصعوق وتلمست له المعاذير علَّه قد يكون أعمى أو أرعن أو ربما تناسى تناول عقاقيره المضادة للذهان لمدة تطول عن أسبوعين متتاليين. ولم تمض أيام حتى أطلت علينا القناة الثانية، بين مسلسل ميكسيكي مدبلج تافه وحلقة معادة من برنامج خطير عن موضوع الفول واللحمة، بمائدة مستديرة حضرها المسؤول الكبير ليزيد على ما سبقه إليه المسؤول الصغير من تعليل وتبرير. استضاف مقدم البرنامج ممثلين عن الصحافة المكتوبة ليحاوروا المسؤول، أما هو فقد ظل يتستر وراء حجاب الموضوعية والحياد الصحفي كأنه مراقب دولي من اليونان أواليابان، وكما لو كان قزما أخضر هبط علينا لِتَوِّهِ بصحنه الطائر من المريخ؛ ولا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد ما يحدث في مغارب كوكبنا ومشارقه. قدم (الطرطور) الكلمة لأحد الصحفيين. فسأل عن أسباب انهيار القناطر والبنايات، بينما استغرق المسؤول في العطس وحمد الله على نعمه ما أظهر منها وما أضمر وتنظيف منخاره بسبابته اليمنى مع فحص سريري لإفرازاتها منتبها إلى لونها مُتَحقِّقا من تماسكها...إنها تداعيات مسرح الهواء الطلق في ليلة ممطرة... ولما فرغ الصحفي من طرح سؤاله الطويل العريض، كح المسؤول الكبير وفَلْتَرَ ونقَّى صوته الجهيري دولبي ستيريو. استعاذ من شياطين الإنس والجن، وبسمل وحوقل وسبَّح، وقال (دستور يا سيادنا دستور)، ثم بدأ مداخلته بالحديث عن غزارة التساقطات، فقال أنها عفريت (بسم الله الرحمن الرحيم) خرج من قمقم ليفاجئ السلطات بأرقام قياسية ناورت وراوغت توقعاتها...وأطال الرجل في مثل هذا الكلام كما لو كان يعلق على ملتقى من ملتقيات ألعاب القوى أو مباراة من مباريات الكرة. ثم استرسل في سرد حكايات تحسده عليها شهرزاد، ولو كانت وصلت إلى مسامع الخليفة لعَرَّضَت حياتها للخطر؛ وربما أُزْهِقت روحها قبل تمام ربع الساعة الأول من الليلة الأولى. قدم تعليلات تقنية عن سقوط القنطرة الأولى، و خاض في تعقيدات هندسة التعمير وفيزياء القناطر حتى لم يعد هو نفسه يفهم شيئا مما يقول ناهيك عن إفهام المحاور واستيعاب المشاهدين. قال (ما كان هو ما يجب أن يكون، و دعوني أشرح لكم...) ثم كرَّر فعلته بالخوض في مسائل الرياضيات ومفاهيم الفيزياء عندما سأله الصحفيون عن القنطرة الثانية والبناية الثالثة والقنطرة الرابعة... ولما ضاق صدر الصحفيين بحديث بنيات التحمل وقوى الجذب والطرد ومعايير البناء وقواعد التعمير، حولوا مجرى الحديث إلى (ملفات خاصة)، واستفسروا عن “بنايات حكومية عشوائية”. فاستعاذ المسؤول بالله من مثل هذه الأسئلة وقال: أنا لست مسؤولا عنها لأنها لم تتم في عهد إدارتي. عليكم أن توجهوا سؤالكم هذا للمسؤول السابق. تمعنت في كلام الرجل كالمصعوق وتلمست له المعاذير علَّه قد يكون أعمى أو أرعن أو ربما تناسى تناول عقاقيره المضادة للذهان لمدة تطول عن أسبوعين متتاليين. ظل طرطور البرنامج على نفاقه وريائه وابتساماته الصفراء؛ بينما أصيب الحضور بانهيار عصبي حاد. لم يتمالك أحد الصحفيين أعصابه ولم يعد يسعفه الكلام فلجأ إلى لغة الميم، وقد كاد يجهش بالبكاء وهو يشير في حركات متشنجة إلى صورالضحايا. تصورت أن تصل حالة الصحفي الهستيرية إلى أن يقلب الطاولة وينهال على المسؤول والطرطور بالصفع واللكم. ثم يقدم لهما تفسيراته في سقوط الطاولة بالفعل و رد الفعل وقوة الجاذبية، وتأويلاته في تكسير ضلوعهما بالخوض في حديث المستقبلات المحيطية؛ وتوصيل إشارات الألم بواسطة الطرفية العصبية إلى النخاع الشوكي؛ حيث يتم تعديلها وإرسالها إلى المهاد والقشرة الحسية... ما الذي يدفع المسؤولين صغارهم قبل كبارهم إلى غريب القول قبل عجيب الفعل؟ إنها حصانة المسؤول المطلقة من المسؤولية. حقيقة أدركها المغاربة بُعَيد الاستقلال. أما اليوم؛ وفي زمن كوميديا حقوق الإنسان و دراما المصالحة، فلقد جهر المسؤولون للمواطنين بسياسة الأمر الواقع وحكم القوي على الضعيف بصريح أقوالهم وأفعالهم. وعندما تدور عليهم الدوائر، يتعذرون بأن ما يعزى إليهم من تجاوزات وخروقات لم تحدث في عهدهم وهم منها براء براءة الذئب من قميص يوسف قبل دمه. وهم في جهلهم -أو بالأحرى تجاهلهم- لمفهوم المحاسبة وثقافة المؤسّسات يحولون قضايا الوطن إلى نزاعات فردية، يحيلونها إلى المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف لتبث فيها.