القضايا و المناقشات الخلافية ذات طابع المزايدات السياسية التي أعقبت تصريحات ياسر الحبيب المسيئة للسيدة عائشة رضي الله عنها إحدى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، توقفت عندها من زاويتين لم تأخذا حقهما في الكتابات العديدة التي أشعلت هذه القضية شمالا ويمينا من خلال سياقات عديدية ، يبغي أغلبها خدمة أجندات خاصة أو إقليمية، وللأسف المبكي أن كل هذا يتم على حساب سمعة الكويت ومسيرة التنمية السياسية و الوحدة الوطنية فيها. الأولى: أين كويت الخمسينات والستينات؟ د.أحمد أبو مطر أكتب حول هذه الزاوية بألم مستذكرا كويت الخمسينات والستينات حيث عاصرتها ميدانيا من عام 1968 إلى عام 1977 ، كانت الكويت آنذاك مثالا عربيا بدون مجاملة في ميدان حرية التعبير وديمقراطية الحراك السياسي مما جعلها نموذجا عربيا من خلال وسائل تعبير لا حدود لآفاق هذا التعبير، إذ كانت جرائد ومجلات: الرأي العام، السياسة، القبس، العربي، مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، الطليعة، وغيرها الكثير مثالا يحتذى في صحافة عربية عمرها يفوق المائة عاما، وأتذكر في واحدة من تلك الصحف العربية العريقة في عاصمة عربية مشهورة، كان الصحفيون عندما يتعرضون لقيود تمسّ حرية التعبير، يقولون لمسؤوليهم صراحة: ما هذا ؟ أنظروا لسقف الحرية في صحافة الكويت الدولة حديثة العهد؟. في ذلك الزمن الكويتي الجميل، لم يعرف الكويتيون مطلقا لا في السرّ ولا العلن مصطلحات مثل ( سنّي ) و ( شيعي ) أو أية مذاهب أخرى، كان الجميع مسلمون...مسلمون فقط، لأنه حقيقة إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا في الإسلام، ففي عصره وعدة سنوات من بعده، لم يكن هناك سوى الإسلام الذي رسوله النبي محمد، فمن أصدق الرسول الكريم أم من جاءوا من بعده، وقسّموا المسلمين فرقا وطوائف وجماعات وأحزاب، بينها من الفتن والحروب والصراعات أعمق وأقسى مما بينها وبين من يطلقون عليهم أعداء الإسلام، فإذا هذه الفرق والطوائف من خلال ممارساتها وصراعاتها وأحقادها ضد بعض، هي العدو الحقيقي للإسلام. أين كويت ذلك العصر الجميل، حيث كانت جامعة الكويت رغم حداثة تأسيسها لها موقع مميز بين الجامعات العربية؟. أين ذلك الزمن الراقي الذي كان فيه مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية ومجلته الدورية، يتمنى كبار المفكرين والكتاب العرب أن يتعاونوا معه ويكتبوا فيها؟ أين ذلك الزمن المتحضر الذي كانت سلسلة “عالم المعرفة” ينتظرها القراء العرب في غالبية العواصم العربية؟. أين ذلك الزمن الرائع الذي أوصل عبد العزيز السريع ومحمد المنصور وصقر الرشود وعبد الحسين عبد الرضا وغيرهم المسرح الكويتي ليكون منافسا لمسارح عربية عريقة في أكثر من عاصمة عربية؟. الكويت تلك بدلا من البناء على إنجازاتها المذكورة والمشهود لها لدى كثيرين غيري من الكتاب والباحثين العرب، الذين عاصروا تلك التجربة ميدانيا، بدأت تشهد في ربع القرن الماضي تراجعا يمسّ حرية التعبير من خلال حراس مزايدات سياسية تأخذ للإسف الطابع الطائفي ( سنّي شيعي )، بحيث يتربص أفراد من كل طائفة بما يصدر من شخصيات الطائفة الثانية ماسّا أية موضوعات أو شخصيات لطائفتهم مهما كانت نسبة التجريح في هذا، ليبدأوا حربا طائفية قائمة على الفتنة، متذرعين بالدفاع عن الرسول وأهل البيت، متناسين قول الرسول ( الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها). والنتيجة الحتمية لهذا الحديث أنّ الكثيرين ملعونون شاءوا أم أبوا، عرفوا أم تجاهلوا!. وهؤلاء الحراس الطائفيون من كل الطوائف لا يريدون خيرا بوطنهم الكويت، لأن خدمة المصالح الشخصية والمزايدات السياسية عندهم فوق الوطن، وإلا ما معنى هذا الضجيج والشغب المرفوض من ياسر الحبيب وكذلك الردود عليه؟. الثانية: ردود فعل الرسول في حالات مشابهة ينبغي التوقف عند نقطة مهمة، وهي أنّ أفكار الإساءات للرسول وبعض الصحابة أو أهل البيت، هي نفس الأفكار التي يجترها المسيئون منذ ذلك التقسيم ( سنّي وشيعي ) الذي لم يكن معروفا في زمن الرسول، وبالتالي فهي أفكار ليست جديدة مما يعني أنّ من يثيرها أياكانت طائفته لا يقصد سوى خدمة مزايدات سياسية خاصة بأجندات معينة، أو من أجل مصالح شخصية أهمها الشهرة ضمن سياق ( إشتم تعرف )، لأنه ما الفائدة من تكرار شتائم وتجريحات مكررة منذ مئات السنين لتلك الشخصيات الإسلامية؟. وكمثال معاصر تلك الإهانات والتجريحات التي أعاد تكرارها رجل الدين الكويتي المقيم في لندن ياسر الحبيب. إنها شتائم وإهانات ليست جديدة، فقد تكررت على لسان عشرات الشخصيات عبر التاريخ، شخصيات أهم وأشهر منه، ولا أظنّ أن غالبية العرب والمسلمين كانوا يعرفون من هو ياسر الحبيب، وإذا بشتائمه وإهاناته الجديدة القديمة، تأتي مباشرة بعد أن هدأت زوبعة تصريحات القس المجهول تيري جونز، ليصبح ياسر الحبيب وتيري جونز من أشهر الشخصيات بعد سلمان رشدي ورسّام الكاريكاتير الدانمركي، وإن كانت شهرة مبنية على باطل وإثم مرفوض، تمشيا مع المثل العربي القائل ( يحب الكبرة ولو على خازوق ). لقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم أبشع من هذه الإهانات، خاصة ما عرف ب ( حادثة الإفك )، حيث أتهمت السيدة عائشة نفسها في شرفها علنا وصراحة، وانتشر الطعن في شرفها وعرضها سريان النار في الهشيم، وليس عند العرب قديما وحديثا أبشع وأجرم من هذه التهمة، والكل يعرف تأني الرسول وصبره وحلمه، رغم أنه يعرف مطلقي تلك التهم وظلّ صابرا متماسكا إلا أنّ برأ الله تعالى السيدة عائشة ( إنّ الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكل إمرىء منهم ما اكتسب من الإثم ). فلماذا ندّعي أننا نسير على خطى الرسول وهديه، في حين أنّ غالبية تصرفاتنا وسلوكياتنا تتنافى تماما مع تعاليمه وهديه؟. لماذا أصبحت حياة الرسول وأهل بيته مجالا للمزايدات السياسية التي تفرق بين مواطني الوطن الواحد، وإذا بهما فريقان متناحران على بعد خطوات من قتل كل واحد الآخر؟. بالعكس في العراق بدأوا القتل حسب المذهب منذ سنوات، بدليل هذا القتل اليومي الذي يحصد العشرات كل يوم. أهداف رخيصة بإسم الطائفة المضحك المبكي في ردود الفعل على إهانات ياسر الحبيب للسيدة عائشة، أنه بعد الصراخ واللطم والشتائم، دخلت المقاطعة الإقتصادية الميدان، تماما مثل الحملة الفاشلة بمقاطعة البضائع الدانمركية، فقد بدأت تنتشر في الساحة الكويتية نداءات ودعوات لمقاطعة شركات اتصالات وقنوات تلفزيونية على خلفية أنّ شركة الاتصالات الفلانية قطعت بعض الخدمات عن القناة التلفزيونية الفلانية، على خلفية أنّ شركة الاتصالات شيعية والقناة التلفزيونية سنّية، وهكذا ضمن هذا السياق الطائفي الرخيص الذي لا يهدف الدفاع عن الإسلام كدين بقدر ما هو لخدمة أغراض خاصة أوأجندات إقليمية. هذه الأسئلة ليست موجهة للكويتيين فقط، فنفس الحيثيات تتفاعل سرا وعلنا في العديد من الأقطار العربية، فإما الحذر واليقظة النابعة من الحرص على بلادنا أو فالطريق الحالي لن يؤدي إلا إلى التهلكة، خاصة أن أكثر من قطر عربي دخل فعلا بسبب هذه الفتن التي ما عادت نائمة، إلى خانة التشرذم والدول الفاشلة. هل من المعقول أو المفهوم أنّ حوالي ثلاثين دولة أوربية لا يجمعها دين واحد ولا لغة واحدة على أبواب الوحدة الكاملة ، ويتنقلون منذ سنوات بدون جواز سفر أو تأشيرة دخول، وكافة الأقطار العربية التي تدّعي انه يجمعها الإسلام واللغة العربية الواحدة، قد دخلت فعلا طريق التشرذم والتشظي، فلا توجد دولة عربية تخلو من تفاعل مشكلة أو وضع سيؤدي بها آجلا أم عاجلا لهذا التشرذم والتقسيم. وعودة إلى أهل الكويت أكرر: أين قبرتم ذلك الزمن الكويتي الرائد الحضاري الجميل الذي كانت فيه الكويت مثالا لحرية التعبير والديمقراطية الحقيقية؟. إرحموا الكويت كوطن للجميع، فالفتن ذات الطابع الطائفي لا ترحم أحدا، بل تحرق الجميع، وملعون من يوقظها أيا كانت طائفته أو مذهبه أو هدفه. عودوا إلى كويت الخمسينات والستينات، وستروا كم سيكون الجميع مواطنين كويتيين فقط، حيث الدين دين الله واحد لا فرق ولا طوائف فيه، والوطن للجميع. [email protected] www.dr-abumatar.net