لم يخب ظن البيت الأبيض، في توجهاته التي أعقبت الإطاحة بنظام الرئيس العراقي صدام حسين، بكذبة توفر بلاده على أسلحة الدمار الشامل، وخلق جو من التوتر في منطقة الخليج، كان من بوادره كما كانت تدعي وزيرة خارجية واشنطن السابقة ” كونداليزا رايس” بأن المنطقة ستعرف إعادة تقسيم وتنظيم بطريقة وسمتها آنذاك بالفوضى الخلاقة، والتي كانت تبشر في نظر من أسسوا لها بإعادة تغيير خريطة المنطقة ، والسماح لإسرائيل بأن تسرح وتمرح وفق المنظور الأمريكي، انطلاقا من العراق مرورا بلبنان وسوريا..وصولا إلى أفريقيا ، تلبية لمزاعم التوسع الاستيطاني الذي تعتبره إسرائيل صمام أمان للمحافظة على بقائها كقوة استراتيجية في هذه المنطقة من العالم بإيعاز من أمريكا . لكن، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن..فحرب إسرائيل على لبنان، وبعدها على غزة كانت من العلامات التي غيرت خريطة معالم الطريق التي رسمها صقور البيت الأسود، والتي جاءت بنتائج عكس المتوقع وبخاصة حرب إسرائيل على لبنان، التي لاقت تصد غير مسبوق من قبل مجاهدي ومقاتلي حزب الله بواسطة التكتيكات العالية الدقة ، والمدروسة والتي اعتبرت من قبل المحللين والملاحظين وخبراء الميادين العسكرية بأنها فاقت التوقعات بحكم الترسانة العسكرية الجد متطورة التي تتوفر عليها إسرائيل وبالرغم من ذلك لم تصل إلى أهدافها المرسومة بحكم رجال الجهاد الذين أبانوا عن مستوى رفيع في ميدان الدفاع عن حوزة الوطن، بالرغم مما عاناه المدنيون من أطفال وشيوخ ونساء من قتل وتدمير .. هذه النتائج وغيرها كانت سببا لإرجاع الثقة للجماهير العربية والإسلامية التواقة إلى جيوش قوية، تراهن عليها في الدفاع عن أوطانها ومقدساتها، لإنشاد التغيير المطلوب، والابتعاد عن مبايعة الخارج في كل طروحاته التي تضر بمصلحة الوطن والمواطنين. ومن يخرج عن هذا الإطار ويتحالف ضد قواه الوطنية، وبخاصة الجماهير الشعبية الساعية إلى العزة والكرامة، فسيلقى المصير المغاير والمؤدي إلى مزبلة التاريخ. وخير مثال على ما نقول ما كان يعيشه الشعب التونسي الشقيق، من احتكار وخنق تام لمنافذ الحريات بكل تجلياتها، مما جعله يستحضر شاعره الخالد في قصيدته الخالدة ” إرادة الحياة”. إذا الشعب يوما أراد الحياة ☻ فلا بد أن يستجيب القدر. هاهو القدر استجاب بفعل ثورة شاب يدعى محمد البوعزيزي، لمجرد أن أحد أعوان السلطة حاول أن يقف له حجرعثرة ،وذلك لثنيه عن بيع الخضر بعربته في مكان عام ، وتلقيه لصفعة من قبله، مما أجج في نفسه روح الكرامة، التي جعلته يقلب العربة، ويتوجه صوب محافظة سيدي بوزيد باعتباره تابعا لنفوذها، ويضرم النار في جسده عربونا على الانتقام الذي يكنه لهذا النظام الذي لن يسمح لأي مواطن بالتعبير عن حقه في الحياة. بهذا الفعل “الشرارة” والذي- يعتبر من الكبائر من الناحية الشرعية- إلا أنه خلق الحدث التاريخي، مما جعل الدكتور يوسف القرضاوي يطالب علماء الإسلام برفع أكف الدعاء للعلي القدير لمغفرة ذنب البوعزيزي الذي دفع بخروج التونسيين عن بكرة أبيهم دفاعا عن كينونتهم، ودفاعا عن وطنيتهم، وتمسكا بروح الديمقراطية والعدالة المنشودة في كل شوارع المدن ابتداء من سيدي بوزيد، إلى باقي المحافظات ، والتي كان من نتائجها المبهرة فرار رأس النظام وعائلته بطريقة تؤكد فعلا بأن الشعب إذا أراد الحياة فلا بد من انتفاضته ضد الظلم والفساد.. هذا الفعل كانت له تداعياته على المستوى القطري، حيث أصبحت شعوب المناطق العربية التي تعاني الويلات تعبر عن حالها بصوت واضح وهو إسقاط الأنظمة غير الشعبية، كما نلاحظ ذلك في مصر التي ما زالت ترابط بالشوارع إيذانا بتنحي الرئيس عن السلطة، بالرغم من خرجاته من الأبواب ودخوله من النوافذ، عبرخطاب تشتم منه رائحة الهزيمة، خاصة وهو يوجه كلامه للطبقات الفقيرة التي يعد بالوقوف بجانبها، فكأنه طوال مدة حكمه لم يكن يعلم بتواجدها، وعندما رد عليه الشباب المنتفض بأنه لا يقبل إلا بحل واحد وهو إسقاط رأس النظام ومن يدور في فلكه، أدرك أن نهايته تقترب، فحاول أن يعيد الكرة بطريقة ملتوية عبر تعيين عمر سليمان نائبا له و الذي وجه بدوره كلمة للشعب المصري يعده بإعادة النظر في المحافظات التي شابتها عمليات تزوير الانتخابات، وفتح باب الحوار مع “المعارضة”، ومراجعة بعض بنود الدستور. شباب مصر أدرك محاولة الالتفاف هاته على موجة الغضب، التواقة إلى التغيير الجذري، بحثا عن العدالة والحرية والديمقراطية..صامدون في ميدان التحرير بجانب الجيش انتظارا لساعة الحقيقة التي ستدق في المسيرة المليونية المنتظرة يوم الثلاثاء فاتح فبراير 2011. فالمصريون ينتظرون رحيل رأس النظام حسني مبارك بأخف الأضرار حفاظا على الوطن ومقدساته و مدخراته.. والأيام القليلة بل الساعات القادمة حتما ستأتي بالجديد الذي ينتظره الشارع المصري بكل تلويناته وأطيافه.. وما نراه في مصر، يتردد رذاذه في اليمن و الأردن والجزائر والسودان وموريتانا.وحتما ستعيشه فلسطين نتيجة الوثائق المسربة والتي بثت من قبل” قناة الجزيرة” والتي تتحدث فيها عن محاضر لقاءات بين المفاوضين الفلسطينيين وأقرانهم الإسرائيليين، والتي تبين عن مدى التلاعبات التي تخللتها من قبل المفاوض الفلسطيني ، الذي يطعن من الخلف أخوه الفلسطيني المناضل والمدافع بحق عن حوزة الوطن. كل المتتبعين والمحللين والملاحظين والدارسين.. أصابتهم الدهشة لتيار الثورات الشبابية المنضوية تحت لواء أحزاب الفايسبوك وتويتر ومجموع المدونات.. والذين يعبرون بصدق عن التحولات العميقة التي أصبح يعرفها النضال المستحدث بعيدا عن الأحزاب التقليدية التي تكرس لديها نوع من التقليد في ممارساتها التي تطبعها في كثير من الأحيان الانتهازية والمحسوبية، مما غيب عنها فعل تأطير الشباب وتكوينهم، وإشراكهم في عمليات تدبير الشأن المحلي ومن ثمة الوطني. وهذه من الأسباب التي أفاضت الكأس بحكم احتكار الأنظمة لكل ما يمت بصلة بنهضة البلد وتقدمه عبر آليات الدمقرطة، واعتبار كل من يخوض في أمر من هذه الأمور خارجا عن القانون ويجب معاقبته، حفاظا على مصالحهم الخاصة والتي تتقاطع مع مصالح الغرب حفاظا على مواقعهم كحكام يتحكمون في خيرات البلاد لاستفادة الآخر منها عبر كثير من الطرق. كإمداد إسرائيل بالغاز والنفط .. من قبل مصر ، والعمل كدركي لمنطقة الشرق الأوسط للحفاظ على مصالح الدول الكبرى كأمريكا، وأوربا ، وترك مواطنيها يعيشون الفاقة والعوز والبطالة.. فثورة الشباب جاءت لتغيير الوضع، ابتدأت شرارة انطلاقها من تونس، وانتقلت إلى مصر، ولا زال لهيب حرارتها يصل اليمن والأردن والسودان والجزائر وموريتانيا.. فالغليان الذي تعرفه المناطق العربية ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات وإحباطات، ومواقف ..فسقوط بغداد من قبل صقور البيت الأسود وإعدام رئيسها بتلك الطريقة الهمجية، وحرب إسرائيل على لبنان وغزة، والتضييق على فلسطينيغزة من قبل النظام المصري، والمواقف المخجلة للأنظمة العربية، كل هذا جعل فتيل الثورة يشتعل في وجدان وقلوب شعوب المنطقة العربية .مع العلم أن الشعوب عبرت غير ما مرة بالمسيرات المليونية عن تضامنها ضد الطغيان الذي عرفته العراق ولبنان وفلسطين..وضد الفساد والرشوة والمحسوبية والزبونية التي انتشرت في عامة القطاعات الإدارية والتي خلقت نوعا من التذمر الذي كان نتيجته ما تعيشه اليوم تونس ومصر..والتي تتعجل من خلاله تغيير النظام، واستتباب الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية في مناخ حضاري يضم كل الأطياف، وتتعايش فيه كل الحساسيات في جو ديمقراطي سليم.. فهل يمكن اعتبار ثورات الشباب بداية لجيل يختلف عن الأجيال السابقة، بحكم تيار العولمة والثورة المعلوماتية التي استفاد منها الجيل الجديد في خلق أحزاب جديدة تعتمد التواصل المعلوماتي ركيزة من الركائز الأساسية عبر الفايسبوك و تويتر..؟. وهل زمن الولاءات “للقوى العظمى” قد ولى .؟