أوراق في المصالحة و الوحدة الوطنية فتح و حماس.... و حتمية الشراكة الوطنية · بقلم : د. جميل جمعة سلامة(*) يبدو أن الفلسطينيين اليوم لم يستخلصوا الدروس و العبر من السياق التاريخي لمسيرتهم الوطنية و يبدو مشهد انقسامهم السياسي الحالي امتدادا لانقسامهم وتشرذمهم منذ اليوم الأول لبزوغ كينونتهم السياسية القطرية بعد هزيمة الخلافة الإسلامية العثمانية في الحرب العالمية الأولى وانسلاخهم عن الحكم العثماني بعد قرون عديدة من حكمه لهم وسائر بلاد الشام . فمع بدايات نشأة الحركة الوطنية الفلسطينية وبلورة الهوية الفلسطينية بدأت التيارات السياسية الفلسطينية تتشكل فظهرت بدايةً في قالب عائلي فيما عرف بصراع الحسينيين ” المجلسيين” و النشاشيبيين حيث سيطرت العائلة الاولى على النادي العربي بينما سيطرت الثانية على المنتدى الادبي قبل أن يترسخ هذا الصراع بانصراف كل فريق منهما الى تشكيل ما يمكن تسميته بالاحزاب السياسية العائلية حيث شكل راغب النشاشيبي حزب الدفاع الوطني بينما أسس جمال الحسيني ( ذراع ابن عمه الحاج أمين) الحزب العربي الفلسطيني ، وصاحب ذلك ظهور احزاب عديدة منها حزب الاستقلال برئاسة عوني عبد الهادي و حزب الاصلاح برئاسة حسين الخالدي و حزب الكتلة الوطنية برئاسة عبد اللطيف صلاح و عُقدت عدة مؤتمرات متعاقبة للنخب السياسية لتأطير الشعب الفلسطيني و فشلت جميعها في خلق قيادة تمثيلية جامعة له . ثم شرعت هذه الاحزاب الى جانب العديد من الفعاليات الشعبية و الدينية الاسلامية منها و المسيحية في تجربة وحدوية جديدة تمثلت في اللجنة العربية العليا كاطار جبهوي يمثل القيادة السياسية للشعب الفلسطيني حيث أُختير الحاج أمين الحسيني رئيسا لها بيد ان هذه التجربة لم تعمر طويلا نتيجة تضييق البريطانيين عليها عوضا عن التدافع الى حد التناحر بين مكوناتها و انسلاخ احمد حلمي عبد الباقي و حسين الخالدي عنها و تشكيلهما الجبهة العربية . وعندما بدأ العرب في تأطير صفوفهم وتشكيل هويتهم القومية – بغض النظر عن خلفيات ذلك و الجدل حولها- وظهور جامعة الدول العربية عام 1945م كان الفلسطينيون يبحثون عن مكان لهم في هذا المولود القومي الجديد تماما كما كان العرب أيضا يبحثون عن تمثيل لفلسطين فيه باعتبارها جزءا عزيزا من الوطن العربي الكبير يتعرض لمشروع تهويد مبرمج ، فكان الصراع الفلسطيني – الفلسطيني على التمثيل في غياب قيادة موحدة لهم فكان المخرج – و بِحَث عربي – توافق الاحزاب الفلسطينية على تعيين موسى العلمي مندوباً لفلسطين لدى الجامعة العربية ، و هذا الفراغ دفع الطبقة السياسية الفلسطينية مجددا بدعم من جامعة الدول العربية لخلق جسم تمثيلي للشعب الفلسطيني فكان ائتلافاً جديداً و توحداً بين اللجنة العربية العليا السابقة و الجبهة العربية سُمي الهيئة العربية العليا عام 1946م محاصصة بين الجانبين برئاسة الحاج امين الحسيني و تعيين احمد حلمي عبد الباقي ممثلا لفلسطين لدى الجامعة العربية و بذلك اصبحت الهيئة الممثل السياسي للشعب الفلسطيني حتى دخول الجيوش العربية عام 1948 فلسطين و تشكيلهم الادارة المدنية لفلسطين التجربة التي لم يكتب لها النجاح حتى اعلان الهيئة بالتشاور مع الجامعة العربية حكومة عموم فلسطين التي ايضا لم تعمر طويلا و أُجهضت كنواة لحلم الدولة الفلسطينية المستقلة بقرار عربي و تشرذم فلسطيني . وحيث أن الخَطِب تحت الاحتلال العسكري فالانتداب البريطاني كان قاسيا ومروعا باعتبار أن جوهر مشروعه يقوم على إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وفقا لإعلان بلفور وصك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم إلا أن ذلك لم يفرض على النخبة السياسية الفلسطينية آنذاك وحدة حقيقية مطلوبة وشراكة ملحة في مواجهة و تحدي هذا المشروع الغربي –الصهيوني الرهيب وبقي التشرذم سيد الموقف لحسابات حزبية و فئوية و شخصية ضيقة لم ترتق للمصلحة الوطنية الملحة . و في ضوء هذا المشهد كان القرار العربي عام 1964م بانشاء منظمة جديدة للفلسطينيين تلم شملهم وتجمع كلمتهم و اسناد هذه المهمة للمرحوم احمد الشقيري الذي نجح بعد رحلات و جولات مكوكية بين تجمعات الفلسطينيين في الوطن و مخيمات الشتات و تجمعات اللجوء من جعل الفكرة واقعا ملموسا على الارض تحظي باعتراف عربي و دولي نسبي ، بيد أن هذا المولود الرسمي الجديد لم ينجح كاملا في رسالته المطلوبة المتمثلة في أساسها في جمع الصف الفلسطيني فظهرت الفصائل الوطنية المقاتلة وفي مقدمتها حركة التحرير الوطني “فتح” والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية وغيرها من الفصائل الأخرى ، وكانت هذه الفصائل لها موقف آنذاك من المنظمة التي أتهمتها بنزعتها القومية في وقت تخلى فيه العرب عن قضيتهم المركزية والبعض ذهب أبعد من ذلك باتهامها بالرجعية وأنها امتداد للنظام الرسمي العربي و وصايته واستمر ذلك حتى عام 1968م تاريخ التحول في موقف هذه الفصائل و اندماجها في المنظمة الوليدة كاطار سياسي جامع لشعبها – و يحسب هنا لهذه الفصائل أنذاك نضجها السياسي بعدم خلقها لكيان تمثيلي مواز لمنظمة التحرير كان يلوح به بعض أقطابها مما حال دون مزيد من تشرذم الصف الفلسطيني- و تبع ذلك إمساك هذه الفصائل بمقود القيادة للمنظمة واختيار الراحل ياسر عرفات قائد حركة فتح رئيسا لها . وشهدت فترة حكم ياسرعرفات وإمساكه بالقرار الوطني الفلسطيني والممتدة نحو أربعة عقود 1968 -2004 نمط حكم ثابت تقريبا في إدارة الشأن الفلسطيني وحافظ على صيغة ائتلافية هشة بين فتح وسائر الفصائل الاخرى شكلت فتح فيها أيضا عمودها الفقري و مرت العلاقة بين المركز و الاطراف بمراحل مد و جزر و صعود بياني وهبوط وتجميد لعضويتها وانسحاب وأحيانا اقتتال إلا أن ياسر عرفات السياسي المخضرم لم يفقد مقود القيادة وشرعية التمثيل للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج و حافظ على وحدة التمثيل الفلسطيني . ومع انطلاقة الانتفاضة الأولى وبالتأكيد وما قبلها بدأ حراك و حضور التيار الإسلامي الفلسطيني سواء على الصعيد الاجتماعي والثقافي والخيري وأيضا السياسي الذي قادته جماعة الإخوان المسلمين ( حماس حاليا) ليتوج بالعمل الجهادي المسلح الذي قاده في بدايته تيار الجهاد الإسلامي وكانت ذروته واقعة الشجاعية الشهيرة عام 1987م ، ثم بدأ هذا التيار يتبلور ويؤطر نفسه ليظهر في صورة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الإسلامي وشكل هذا التيار بجناحيه سيما حماس نداً قوياً لمنظمة التحرير وبرنامجها السياسي ، ومع توالي السنين وبدء الانتفاضة الثانية ( الأقصى ) اشتد عود هذا التيار وقوي ساعده حتى أصبحت حماس والجهاد خلال نحو العقدين من الزمن فصيلين رئيسيين مركزيين في الساحة الفلسطينية لهما امتدادهما في الداخل والخارج على السواء ، وخلال الانتفاضة الأولى نأت حماس وكذلك الجهاد عن الانخراط في القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الذراع الوحدوي والمقاوم للمنظمة في الأراضي المحتلة الذي لم ينجح هو ذاته في المحافظة على وحدته الائتلافية و استمر الحال ذاته في الانتفاضة الثانية أيضا ، و بقيت هاتان الحركتان خارج أطر منظمة التحرير مما فتح المجال واسعا للتشكيك بشرعية تمثيلها الوطني . وكان قيام السلطة الفلسطينية كحكم ذاتي انتقالي في الضفة الغربية و قطاع غزة بعد توقيع اتفاق أوسلو تجربة جديدة في النظام السياسي الفلسطيني منذ إنشاء م.ت.ف أحجمت حماس أيضا وكذلك الجهاد عن الانخراط فيها حتى كان التحول الكبير عام 2006م وقرار حماس المدوي بدخول الانتخابات التشريعية لبرلمان السلطة “المجلس التشريعي” ومشاركتها في الانتخابات وحصدها الأغلبية المطلقة بنسبة 56% (74 مقعدا من أصل 132) . وكان ذلك بمثابة زلزالٍ في النظام السياسي الفلسطيني واعتبرت حماس ذلك – ممارسة وقولاً – عهداً جديداً أشبه بجمهورية جديدة في النظام السياسي الفرنسي بينما شكل ذلك بحق صدمة لحركة فتح وفصائل المنظمة وهذه المواقف المتقابلة أدت إلى صراعات سياسية و ادارية ومناكفات وتجاذبات أوصلت الجميع إلى الصدام الدامي المسلح في حزيران عام 2007م وما أسفر عن طلاق بائن بين الفصيلين الرئيسين فتح وحماس وتشكيل حكومتين ضرتين يسعى كل فريق إلى نزع الشرعية والتمثيل عن الآخر واحتكار قرار القيادة و محاولة فرض نفسه ورؤيته و برنامجه على الداخل والخارج على السواء و مراكمة وجوده و مؤسساته على الارض وتبع ذلك انقساما جغرافيا أيضا نتيجة الفصل الصهيوني القسري بين جناحي الوطن . وهذا المشهد التراجيدي البائس الذي يعكس تخلفا في الأداء السياسي وثقافة ديمقراطية قاصرة ونزعة فئوية مقيتة للتفرد بالقرار أو الحكم الوهمي وإقصاء الآخر أصاب الفلسطينيين بإحباط شديد وشكل مقتلا لقضيتهم العادلة التي لم تنجز أهدافها بعد و لطهرها الذي سكن الوجدان الانساني العالمي ، و تجاوز ذلك حدود الوطن وساهم بقوة في تكريس الشرخ في الصف العربي ، و لا تزال فصول هذا المشهد متوالية حتى تاريخه رغم كل محاولات لم الشمل وإنهاء الشقاق محليا وإقليميا. اليوم جدير بالفلسطينيين مراجعة تجربتهم و الوقوف عند اخطائهم ما لهم و ما عليهم ، ان جردة حساب بسيطة لا تحتاج لمزيد من عمق التحليل وأدواته تثبت بصورة لا تقبل التأويل أن أحدا من الفرقاء المتخاصمين لم يخرج فائزا وإن الخاسر الوحيد بامتياز هو الوطن والشعب وقضيته العادلة ، وإن محاولة إقصاء طرف لأخر قد باءت بالفشل الذريع وإن تجربة الحكم المتفرد من جانب واحد سواء بالنسبة للبرنامج السياسي أو الإدارة مهما زها كل فريق بإنجازاته وتراكماته المتواضعة أصلاً هي تجربة قاصرة ومفسدة كبيرة لأنها تجهز بسكين التشظي و التشرذم على مفاصل الوطن ومشروعه المشترك . المشهد اليوم يكشف جليا أن هنالك انفضاضا ملموسا من الشارع الفلسطيني عن تجربتي الحكم في غزةورام الله في وقت كان هذا الشارع يخرج لشوارع الوطن و أزقته مبتهجا مسرورا يرقص طربا ويطلق صليات رصاص التأييد بعد توقيع اتفاق مكة الوحدوي وكأن الشعب بذلك يصوت ضد الانقسام والتشرذم و يبايع بصليات رصاصه خيار الوحدة والشراكة الوطنية . ان حكومة غزة اليوم تبدو معزولة بين جزء غير قليل من شعبها و محيطها الاقليمي و الدولي و ان قوافل و سفن فك الحصار و الوفود الزائرة – رغم اهميتها – ليست مدعاة للزهو بالانجازات و اكتساب شرعية دائمة و ان شرعية الانتخابات متحركة و غير ثابتة ، أما حكومة رام الله فهي ليست بأحسن حال عن نظيرتها في غزة وان الدعم العربي الرسمي و الغربي لا يجللها بشرعية وطنية و دستورية لا تستقيم لها الا بجناحي الوطن و نيل ثقة المجلس التشريعي المنتخب وفقا لاحكام الدستور و ان خيار المفاوضات العبثي اليوم المفروض بسيف المال الغربي المسيس يخدش كرامة الفلسطينيين و يجرح كبرياءهم الوطني الذي راكمته دماء الشهداء البررة و تضحيات شعبنا الكبرى . ان الأنا (selfishness ) الفلسطينية المتضخمة التي أصبحت طاغية على السلوك الفلسطيني العام احزابا و أفرادا على السواء و أصبحت أصناما تعبد من دون الله بعيدا عن الرأي و الرأي الأخر و التنوع السياسي و الفكري و الثقافي في اطار التكامل الوطني اضحت سرطانا يُدمي الجسد الفلسطيني المترنح اليوم و يستشري فيما تبقى من عروقه خلافا لقوله تعالى ” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ” هود118 و تهدد بتبديد الحلم الوطني و شرذمة ما تبقى من أواصر بين ابناء الشعب الواحد ، و ينبغي عوضا عن ذلك توفير الوقت و الجهد و الطاقات و حالة الاستنزاف العبثية الاعلامية منها و المالية و الادارية و السياسية القائمة و التجاذب المثير للغثيان باعتبار ذلك اهداراً لامكانيات الشعب و الوطن و مقومات صموده ، و عليه فان المشاريع الحزبية و الفئوية لقيادة المشروع الوطني هي تجارب محكومة بالفشل بل و الفشل الذريع و ان أي برنامج سياسي للحكم والقيادة لا يمكن أن ينجح تحت عباءة الحزبية الضيقة و اقصاء الشريك الأخر و ان البديل الحتمي لها هي الشراكة الوطنية ( power sharing) بين مكونات الشعب الفلسطيني المختلفة و في مقدمتها حركتا فتح و حماس و الانطلاق إلى فضاء الوطن الواسع و ذلك بمشاركة الجميع في إعداد البرنامج الوطني وصياغته وتنفيذه . ان المطلوب اليوم تحرير الارادة الوطنية و البحث بين الفرقاء عن القواسم المشتركة و تعزيزها و حصر هوامش الاختلاف و معالجتها وصولا لمشروع و برنامج وطني توافقي يصون مصالح الوطن و الشعب العليا و ننجز مستقبلا لابنائنا حتى لا تكرر اخطاء اسلافنا و نجتر تجارب غيرنا و لا تلعنا الاجيال القادمة كعهود اواخر ملوك بني أمية في الاندلس . أملي ذلك مبكرا و ليس أبعد من ذلك بعد ثلاث سنوات من العمى السياسي و الغشاوة على عيون صناع القرار في الفصيلين الرئيسيين و غيرهم ، و الا فان البديل الذي سيفرض نفسه تيار جديد ينبع من ارادة الشعب و يجسدها تيار عقيدته وحدة الوطن ارضا و شعبا و وحدة نظامه السياسي و مشروعه الوطني و يرسم لوحة مستقبلنا بمعزل عن صناديد الانقسام و التشرذم و المشاريع الحزبية و الشخصية الممجوجة و التاريخ خير شاهد لمن كان له قلب او القى السمع و هو شهيد . والله ولي التوفيق ——————————————————————————– (*) كاتب فلسطيني و أستاذ جامعي .