أثار المقال الذي نشرته أخيرا حول "الريف،من أجل استعمال الذكاء الجماعي أمام سطوة الأسئلة المقلقة"، نقاشا هاما بين مختلف المهتمين بماضي وحاضر ومستقبل منطقة الريف . وقد انقسم المنخرطون فيه إلى ثلاث فرق : - أول الفرق ، فريق عالم ، قليل العدد ، اهتم بالجوانب المنهجية للموضوع، وبالمقاصد السياسية لكاتبه ، وبأثره الممكن في عقول القراء و أصحاب القرار السياسي في البلد، و عموم القراء من أهل المنطقة ممن دعوتهم إلى التفكير في خلق فضاء حر و ديمقراطي للنقاش، لبناء ثقافة الحوار و التفكير في مستقبل المنطقة ، وتحديد دورها في تنمية البلد ككل ، ومساهمة سكانها في مسلسل دمقرطة الدولة والمجتمع المغربيين. - وثاني الفرق ،فريق سياسي، يمكن أن نقسمه إلى مجموعتين . المجموعة الأولي ، لا ترى السياسة إلا بمنظار الانتخابات وحسابات الربح و الخسارة الانتخابية، وهم مجموعة دعت إلى تأجيل هدا النقاش إلى ما بعد الانتخابات، وكأن الزمن الانتخابي ليس زمنا سياسيا يحتاج إلى كثير من تعميق النقاش والنظر في الإشكالات المعقدة، ووضع المترشحين للانتخابات المقبلة أمام التحديات التي تنتظرهم وتنتظر مجموعاتهم الحزبية إن نجحت و أصبحت تقود البلاد وفقا للدستور الجديد. والمجموعة الثانية وهي مجموعة لا تعرف من السياسة إلا ما تؤمن به من شعارات تريد رؤيتها تتحقق كما تحلم بها ، إن في أحلام اليقظة أو أحلام الليل غير المتناهية ، وهم من تنطبق عليهم مقولة لينينية لم أعد أحفظها على ظهر قلب كما كنت سابقا، ومفادها أن السياسية ليست شارع ليفينسكي الطويل الذي يقطع موسكو من الحد إلى الحد. لذا وقع لهم الخلط بين الأسئلة الكبيرة المؤسسة لمستقبل المنطقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، و الأسئلة البسيطة التي لها مضمون شخصي . - وثالث الفرق ،فريق سياسوي ،أثار من اللغو و الخلط أكثر مما أثاره من النقاش الهادئ و الهادف ،وانصب اهتمامه عن البحث عن أسباب ، أو قل عن خلفيات كتابة المقال ، وتوقيته ،والمراد المباشر وغير المباشر من كتابته، بل ذهب الخيال بالبعض منهم ، عندما لم يجدوا به ما يتواقف مع أفكارهم و * مبادئهم* و أوهامهم، إلى البحث عن من * أوحى* للكاتب بديباجة مقاله. والمقابل الذي ينتظره من هده الجهة المشرفة على مثل هده الأفعال . وفي هدا الضن ما يقلق كثيرا ويحبط العزائم والهمم. والحال أن هدا الفريق لا يختلف عن فريق آخر امتهن السب والشتم أمام عجزه عن التحليل وتقديم المقترحات الايجابية في مسار دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع.وسمح لنفسه بضربنا بسهام الشوفينية المقيتة. وحدها المجموعة الثانية من الفريق السياسي ،من رأت أن الكاتب أغفل عدة أسئلة * مهمة* ، والحال أن هؤلاء سقطوا في فخ الخلط بين الأسئلة التي فيها كثير من التشخيص والأسئلة الكبرى الراسمة لمستقبل المنطقة ككل ، ومن بين أهم هذه الأسئلة التشخيصية ما يلي : * ما هي دلالات الصراع " التناحري" بين عامل إقليم الناضور ، و رئيس مجلسها البلدي ، وهما معا من الفعاليات المدنية بالريف و ممن ساهموا في بناء أكثر من مؤسسة مدنية ؟ * هل قضية البرلماني " سعيد شعو " قضية حقوقية - سياسية ؟ أم هي قضية تصفية حسابات لا تمت بصلة إلى السياسية أو إحقاق الحق ، و ما هي دلالة وجود لجنة محلية للدفاع على البرلماني سعيد شعو ؟ * ما دلالات وجود برلماني * منفي* يمثل منطقة تتسم بكثير من الحساسية ؟ * هل من الصدف أن برلماني المنطقة من أكثر البرلمانيين المغاربة ممن لهم مشاكل مع القضاء الوطني والدولي ؟ * كيف يمكن تقييم تجربة ريفيي مدينة طنجة في تسيير المدينة ؟ و ماهي الإشكالات السياسية التي طرحتها التجربة في هده المدينة التي شكلت حصن أمان اجتماعي و اقتصادي للريفيين على مدى التاريخ ؟ * ما مصير *نخبة الريف الانتخابية* صاحبة تجارب انتخابية مهمة في السابق، و التي انخرطت في حزب الأصالة والمعاصرة ، أمام الهجوم الكاسح للكائنات الانتخابية التي ظلت في * بيات * شتوي إلى أن ظهرت أولي أشعة الانتخابات التي سخنت الأجواء ؟ * ألا يجب أن تتوافق النخب السياسية في المنطقة ، بمختلف انتماءاتها لدعم أكفأ المرشحين المحليين إلى الانتخابات المقبلة؟ إلا أن هذه الأسئلة التي أعتقد أنها تشخيصية ، لم تمنع من طرح أخري يمكن أن ندخلها في خانة الأسئلة الكبرى ، والتي طرحتها عناصر من الفريق الأول ، وهي تتمة لرزمانة الأسئلة التي سبق لي طرحها في الموضوع السابق، والتي تعمدت طرحها بصيغة ، هل، وفي ذلك تنبيه شديد لكل الغافلين عن الانتباه إليها ، ومن أهمها : * كيف يمكن استثمار التجربة الجديدة التي سيقوم بخوضها المجلس الوطني لحقوق الإنسان على ضوء المعايير الدولية للقيام بدور الملاحظة الوطنية في الانتخابات التشريعية القادمة بغية إضفاء طابع الشفافية و النزاهة والمصداقية على هذه المحطة السياسية الهامة ؟ ودلك من اجل أن تفرز الانتخابات القادمة من سيمثل المنطقة أحسن تمثيل و المساهمة في القضاء على بارونات الانتخابات الذين يشوهون التجربة السياسية المغربية . * كيف يمكن إجراء تقييم موضوعي لتجربة المصالحة مع الريف عامة ، و جبر الضرر الجماعي خاصة ؟ وما هي الدروس المستخلصة من هذه التجربة أمام ندرة الكتابات والتجارب في موضوع المصالحة المناطقية و موضوع جبر الضرر الجماعي؟ * كيف يمكن للريفيين المساهمة في تجنيب بلدنا الدخول إلى دائرة الاضطرابات السياسية الشديدة ، دون التفريط في تحقيق مطالب قوى التغيير الحقيقة المعبرة عن احتياجات الناس إلى الوطن الذي يجب أن يتسع للجميع؟ *ما هي الشروط الذاتية لنفس ريفي جديد من أجل استكمالا مسلسل المصالحة والمساهمة الفعالة في مسار دمقرطة الدولة و دمقرطة المجتمع وبناء دولة الحق. * كيف يمكن إثارة مزيد من الانتباه إلى تجربة * تكييف* أو * تطويع* آليات العدالة الانتقالية ، والاشتغال بها لحل إشكالات حقوقية بين أكثر من دولة ؟ وهي تجربة انطلقت من الريف ، وهدفت معالجة جرائم الدولة الاسبانية في حق مغاربة الريف. وكيف يمكن إشاعة * إعلان طنجة للعدالة الانتقالية بين الدول * الذي توج كل أنشطة مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلم ، مركز الذاكرة المشتركة والمستقل سابقا. والذي يهدف إلى معالجة القضايا الحقوقية العالقة بين المغرب ودول محيطه الجيوسياسي ، خاصة جريمة قصف الريف بالغازات السامة ، وإقحام المغاربة في الحرب الأهلية الاسبانية | * ألم يحن الوقت إلى إصدار الكتاب الأبيض حول قضية سبتة ومليلية والجزر المستعمرة من قبل الأسبان ، و الوقوف عند أثر استمرار هدا الاحتلال على مستقبل منطقة الريف الكبير برمته . علما أن توصية إصدار الكتاب الأبيض هي من بين أهم توصيات ندوة * مستقبل سبتة ومليلية على ضوء القانون الدولي والتجارب الدولية * . وقد تقدم بهدا المقترح إبان الندوة السيد محمد بن عيسي وزير الخارجية المغربي السابق. * ما هو موقع الإشكالات التاريخية والراهنة التي تعاني منها المنطقة في أجندة القائمين على الشؤون الخارجية للملكة ، وهل لقضايا الريف الدولية * المحامون* الأكفاء؟ ،وكيف سنتفاعل مع تعيين المقرر الجديد حول الجرائم غير المتقادمة الأسبوع المقبل ؟ وهل سيحتم علينا ذلك تغيير الاستراتيجية مع مستعمرينا القدامى ؟ ومن المثير في ردود الفعل المناقشة لموضوع *الريف،من أجل استعمال الذكاء الجماعي أمام سطوة الأسئلة المقلقة*هو غياب الانتباه إلى الوضعية الاقتصادية للمنطقة والى دور رجال ونساء عالم الاقتصاد في التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمنطقة ، فلا المناقشون صبوا اهتمامهم على العلاقة الجدلية بين الاقتصاد والسياسة ، ولا رجال الاقتصاد والمال في المنطقة انخرطوا في هذا النقاش ،وكأن المجموعتين في عالمين مختلفين و لا مصالح مشتركة بينهما، ولعل هذا ما يجعلني أتجرأ قليلا لأطرح الأسئلة القديمة- الجديدة حول النخبة الاقتصادية والمالية في المنطقة . *هل هي نخبة مواطنة ؟ *هل هي نخبة حداثية ديمقراطية ؟ وقبل هذا وذاك هل بمنطقتنا ما يمكن أن ننعته بالنخبة المالية والاقتصادية ؟ أم لدينا *نخبا* مالية تنتعش على اقتصاد الريع والأزمات ، والقطاعات الاقتصادية المضرة بالاقتصاد الوطني العام ؟ و ما السبيل إلى دعم نخبنا الاقتصادية والمالية، الشابة والطموحة، للتأسيس لتجربة بعيدة عن الشبهات؟ ومهما يكن من أمر ، فتعدد الفرق ظاهرة صحية، والخلط بين الأسئلة الكبيرة المؤسسة لمستقبل المنطقة والأسئلة التشخيصية ، أمر مقلق ، و يؤكد أن جزءا من فعاليات المنطقة ما زالت تحتاج إلى كثير من إعمال العقل ، والى كثير من النقاش الهادئ و العميق و الرصين، و إلى ضرورة تجديد النخب السياسية المحلية ، والى خلق الفضاء الذي دعوت إليه في المقال السابق. كما أن بروز أسئلة جديدة مؤسسة لمستقبل المنطقة تؤكد الحاجة إلى لحظة تقييم شاملة للمرحلتين السياسيتين الكبيرتين التي عاشتهما المنطقة ،كما المغرب برمته ، والتي امتدت الأولى منها من تاريخ الاستقلال إلى قيام تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، والثانية من إصدار توصيات هذه الهيئة إلى خطاب ما بعد التصويت على الدستور. عود على بدء ، ما زالت الحاجة قائمة للنقاش إلى ما دعوت إليه في المقال السابق ، من ضرورة إجراء حوار واسع حول إمكانيات خلق فضاء حر و ديمقراطي، والظرف السياسي الحالي مناسب جدا لإجراء مثل هدا النقاش، وعلى كل الأطراف، بما فيه المؤسسات الحزبية والمؤسسات المدنية، ومؤسسات الدولة المساهمة فيه ماديا ومعنويا .فما أحوجنا إلى النقاش الهادئ و الرصين والعميق، فبهذا النقاش نؤسس لمستقبل البلاد والعباد. نحن محتاجون إلى تقسيم مائدة الحوار بين مختلف الفعاليات الفاعلة ، دون إقصاء ، ودون دعوة مجانبة إلى رحيل أي طرف و الاستغناء عن مساهماته، و في هذا الأمر وحده إنجاز يحسب لكل الأجيال المتفاعلة راهنا.