من خلال مقاربتي هذه، أحاول بسط الحديث في موضوع شائك يحمل قيمة فنية وأدبية كبرى، مركزا بالخصوص على موضوعي الشعر والأغنية بالريف، ومستقبلا التنقيب في محور المسرح الأمازيغي، والنهضة التي بات يعرفها في مدينتي الناضور والحسيمة بالخصوص، إذا سمحت الظروف والإمكانات بذلك، وأشير في المنطلق إلى أن الشعر الأمازيغي واللغة الأمازيغية في المغرب لهما جذور تمتد في أعماق زمنية موغلة في القدم، ليس في المغرب فحسب، وإنما في بلدان شمال إفريقيا بشكل عام، وتعرض هذا التراث الثقافي والحضاري المغربي إلى ضياع عبر الزمن والتاريخ، ساهم في تبديد معالمه المشرقة، نظرا لاعتماد الناس في تداول هذا الشعر ونقله على السماع وقدرات الحفظ الذهنية والرواية الشفوية، وتشكل خلاصة ما جمع منه نزرا قليلا، عثر عليه من خلال المجهودات المرصودة في هذا النطاق وسط رزم من الوثائق والأوراق وأشرطة التسجيل السماعية. وكدليل على العمق التاريخي للشعر الأمازيغي، فقد رصد الأستاذ محمد شفيق في كتابه: " لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغية " جملة من الأسماء لشعراء أمازيغيين، اعتبرهم من البدايات الأولى التي بادرت إلى إنشاد الشعر الأمازيغي ونضمه في فتراته الزمنية المبكرة، فيذكر من هذه النماذج: " شعر سيدي حمو السوسي المتعدد الأغراض، الذي يرجع عهده إلى القرن الثاني الهجري( الثامن الميلادي )، والشعر الديني التعليمي لمحمد أوزال من القرن الثالث عشر الهجري ( التاسع عشر الميلادي )، وشعر السي موحند القبائلي من القرن التاسع عشر الميلادي، وهو شعر ذو نفس فلسفي، وشعر تاوكرات الملحمي من أوائل القرن العشرين، وعدد من القصائد المتفرقة لشعراء مختلفين من القرن العشرين أيضا ". وعموما، فإذا كانت عملية تدوين الشعر وكتابته، عند شعراء القبائل السوسية والأطلس المتوسط بدأت في الانتشار ابتداء من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فإن الشعر في الريف لم يعرف طريقه إلى التدوين إلا في عقد السبعينات من القرن الماضي، مما يسجل استمرار تواصله في التعاطي مع الإلقاء الشفوي والحفظ واستحضار عنصر الذاكرة، وبذلك تعرض الشعر الريفي إلى سلسلة من الإضافات والتبديلات، والتغيير من راو إلى آخر، وهذا ليس بعامل نقص أو عيب، بل إنها تكاد تكون ظاهرة شبه عامة، عرفها الشعر العربي في العصر الجاهلي، وشعر الفراعنة والإغريق وغيرهما من الحضارات الإنسانية القديمة كمرحلة انتقالية عابرة. وقصيدة الشعر الأمازيغي المعاصر لم تنطلق من العدم، بل تفاعلت في عملية جدلية، مع مجموعة من العوامل المؤثرة التي عملت على إثرائها بمختلف التجارب الإنسانية في مجال الإبداع، ابتداء من الشعر العربي، سواء منه القديم أو الحديث والمعاصر، مع كل من: طرفة بن العبد، ونازك الملائكة، ومحمد مهدي الجواهري، وبدر شاكر السياب، وأبوالقاسم الشابي، هؤلاء الشعراء هم الذين خدموا بشعرهم وفنهم، بمعاناتهم وحرقة آلامهم، الحياة والإنسانية، ولم يكن مذهبهم يوما الفن من أجل الفن على غرار البعض، مرورا إلى الشعر العالمي بكل مدارسه وتياراته وأسمائه المتألقة والخالدة بصدقها وتضحيتها، إلى النصوص القصصية والروائية والدرامية والأسطورية، والشعر الأمازيغي بألوانه القديمة والحديثة. والشعرالأمازيغي الريفي، لم يكن مدحا أو تكسبا، تزلفا أو محاولة للتقرب إلى أصحاب الجاه والسلطة، وحتى إن كان هناك مدحا فهو صادق يخلو من التملق، وإذا كان ابن قتيبة ناقد يهتم أساسا بالقصيدة المدحية في التراث العربي، فإنه من المفيد الإشارة إلى أن القصيدة التي جعل منها ابن قتيبة موضوعا لدراسته، إنما هو إنتاج ثقافي خاص لا يمكن تعميمه على كل الثقافات والأزمان، بل حتى نظرية أرسطو الشعرية القائمة على ترتيب الأحداث، من تقديم وعقدة وانفراج، يصعب تماما تكييفها أو ملاءمتها مع الطبيعة الفنية، والتركيبة البنائية للشعر الأمازيغي بالريف. ولا يمكن طبعا أن نحصر اهتمامات الشعر الأمازيغي بالريف في موضوع الحرب والمقاومة وإثارة الحماس من أجل التصدي للاستعمار، دون أن يعني هذا التقليل من قيمة وجمالية هذا الفن، بل نقصد أساسا تعدد الأغراض والمواضيع التي تناولها شعراء وشاعرات القصيدة الأمازيغية الريفية، فقد ارتبط الشعر الريفي بقضايا الإنسان والمجتمع، والدفاع عن قيم الحرية والوفاء والعدل والهوية الأمازيغية، إضافة إلى إعلان تشبثه بالأرض والدفاع عن الوطن والكرامة وعزة النفس، كما صور الشعر الريفي مآسي الهجرة، وآلام الغربة، وتغنى أيضا بقضية الشعب الفلسطيني ونوه بمقاومته، والطفولة ببراءتها وذكرياتها الطاهرة، وبلواعج النفس المكلومة، وهموم الذات المتقطرة كمدا وشكوى. وعودة لنا إلى شعر المقاومة والجهاد، مع كل من: محمد الشريف أمزيان، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، ولنأخذ كنموذج قصيدة: " دهار أبران" التي تعكس أولى انتصارات عبد الكريم، والتي يذهب الأستاذ محمد الولي إلى كونها ليست بقصيدة ملحمية، لأنها لا تستجيب لشروط الحكي المتواصل الذي تنضح به الملاحم، زيادة على أن القصيدة تتحكم فيها شروط التفكير العقلاني الخالي من الخرافة، إلى درجة أنها يمكن أن تغري المؤرخ بشعرها التعليمي الذي قد يدفعه طموحه إلى محاولة استخراج حقائق التاريخ من ثناياها، ورغم ذلك، فإنها تبقى بمثابة لوحة إبداعية تنقل لنا حزنا شديدا وألما ممضا، وجروحا عميقة، بسبب فراق الأحبة ولوعة الموت وفقدان البيوت والأوطان، والوضع ذاته ينطبق على الأشعار التي قيلت في موضوع الحرب الأهلية الإسبانية، فهي لم تكن يوما ذات نزعة دينية مقاومة للشيوعية، بقدر ما كانت المشاركة فيها رغبة في نوع من العيش الكريم، وضمان لقمة الخبز، ومحاربة كارثة الجفاف والجوع الذي وقعت آنذاك منطقة الريف تحت وطأته، فجاءت أشعار الحرب الأهلية مترعة بالمأساة والشجون، ومعبرة بشكل لا مراء فيه عن أسباب المشاركة الحقيقية. وتذهب دراسات مهمة حول الشعر الأمازيغي بالريف، إلى أن هذا الأخير بسبب عوامل ذاتية وموضوعية عرف حركية ملحوظة وتقدما كبيرا خلال فترة الاستعمار، وبعد الاستقلال أصيب بنوع من الركود والضمور، بل وحتى الابتذال، نظرا لطبيعة المرحلة الانتقالية المرفوقة بعوامل خارجية أخرى، ليصبح فجأة موسوما بالطابع التجاري والفلكلوري المرتبط بالمناسبات الموسمية العابرة، فدفع به هذا الإسفاف والابتذال إلى السقوط في أحضان أبواق الارتزاق، والجمود المرحلي الذي سيتم تجاوزه خلال عقد السبعينات، ببروز مجموعة من الأصوات الشعرية الملتزمة والجادة بالريف، حتى أنه يمكن اعتبار هذه المرحلة، على حد تعبير الأستاذ جميل حمداوي بمثابة مرحلة تجسد لحظات حقيقية " للإحياء والتأسيس". وتجدر الإشارة، أن الشعر الأمازيغي بالريف، بعد أن تحول من المرحلة الشفهية، إلى البناء القصائدي المدون، أصبح يتوفر بحق على مجموعة من الخصائص الفنية والجمالية، والمقومات البلاغية المنتظمة، والصور الشعرية التي تزخر بالحركية والتدفق الموسيقي المناقضان للسكونية والثبات، ويتسم الشعر الريفي في مجمله بالطابع الغنائي المرتبط خصوصا بهموم الذات الإنسانية وآمالها، وينحو أحيانا إلى الإيغال في تبني النزعة التراجيدية، وتتنوع أجناس القصيدة الشعرية بالريف مابين القصيدة الملحمية والغنائية والأسطورية والقصصية والرثائية والأنشودة ... ويرتبط الشعر الأمازيغي في الريف بالأغنية ارتباطا جدليا وثيقا، حتى أنه يصعب الفصل بينهما، فإنشاد الشعر الريفي وإلقاؤه هو في الوقت ذاته أداء غنائي، فلازمة " أيارالا بويا " تنتشر في الريف انتشارا واسعا، وخصوصا في الريفين الأوسط والشرقي، وهكذا تحضر هذه اللازمة حتى في غرب الريف " بآيث بوفراح" و"آيث يطفت "، باستثناء قبائل ترجيست من "صنهاجة سراير "، وأولاد "ستوت" العربية بالريف الشرقي، وتحضى بقيمة كبيرة على وجه الخصوص في قبيلة " آيث ورياغل" و" إكزناين" و"تمسمان"، ويختلف أداؤها بالطبع من قبيلة ريفية إلى أخرى، وإن كانت الصيغة التعبيرية لا يكاد يمسها أي تغيير. ويذهب الأنتروبولوجي" دايفيد هارت"، في كتابه: "آيث ورياغر، قبيلة من الريف المغربي، دراسة إثنوغرافية وتاريخية" والمترجم من قبل الأساتذة: محمد أونيا، وعبد المجيد عزوزي، وعبد الحميد الرايس، "أن النساء كن يغنين في فترة (الريفوبليك)، العذارى منهن، المتزوجات، والمطلقات، لكن ابن عبد الكريم حرم هذا النشاط بالنسبة للمتزوجات والمطلقات، ويستمر هذا التقليد منذ ذلك العهد إلى اليوم"، وتتكون مجموعة "الرايس" الغنائية، أو "راعيارث " ، من أربع فتيات، وفي الوقت الذي تقوم فيه الاثنتان منهن بترديد اللازمة، فإن المتبقيتان يقمن بإنشاد "إزران"، أي الأبيات الشعرية الغنائية الريفية، ويتعلق الأمر بنفس المحاور الموضوعية التي يتداولها الشعر الأمازيغي بالريف ( أعباء الحياة اليومية- الهجرة- الحب العفيف- الغربة ......). وتمتاز أبيات " أرالا بويا " بالصدق العميق البعيد عن التكلف والاصطناع، والبوح بالمشاعر الدفينة بطريقة عفوية وتلقائية، وبسليقة ذهنية خالصة، يطبعها الصفاء والتطلعات والأمنيات المرتقبة، كما عرف الريف الموسيقى والغناء المرتبطان "بإمذيازن " الذين كان يطغى على فنهم العبث الماجن والسعي وراء الكسب التجاري نظرا لوضعهم الاجتماعي البئيس، وبالإضافة إلى مجموع الأدوات التي استعملوها في التغني "بإزران "، رددوا في غنائهم أيضا مقاطع خاصة بالدارجة، من قبيل: "مالي، مالي، مالي" وهذا النوع لا يحظى بمثل ذلك التقدير والمعزة اللذين خص بهما كل من: " أرالا بويا وإزران " بالريفين الأوسط والشرقي. وتختلف الدراسات بشأن الأصل التاريخي والأنتروبولوجي للازمة " أرالابويا " بين فترة هجوم أمير المسلمين وقائد دولة المرابطين يوسف بن تاشفين على مدينة النكور في القرن العاشر الميلادي، وخروج النسوة والفتيات في حالة من الهلع والاسترسال في دوامة من البكاء، لترديد " أرالا بويا " بشكل مأساوي، وسط أنقاض المدينة المحترقة لهيبا، والمخربة أسوارها، بعد مقتل آبائهن، وبين قائل بأن " بويا " يحتمل أن تكون اسما لأحد الآلهة الريفية القديمة، وعلاقة بالموضوع ذاته، كانت الفتيات بقبيلة " آيث ورياغل" في الأعراس يتوجهن " بإزران" إلى شباب القرية فيؤدي ذلك إلى إثارة جو خاص، يعقبه"مفرقعات" وإطلاقات بندقية خلال "الريفوبليك" وزغاريد نسائية " أدجوارو" كدلالة على مدى عمق التجاوب والفرح المتحكم في كل الأطراف. ومهما يكن الأمر، فالذي يهمنا بالأساس، كون أن تكرار هذه اللازمة: "أرالابويا"، قد تكون لصيقة بالمجتمعات التقليدية، أي ما قبل القراءة والتلقي البصري، فالأذن والتلقي السماعي يعملان على بناء النص الشفهي أيضا، كما أن التكرار له دائما دور تخفيفي وسحري على النفس، لأنه يساعد على التحمل أكثر ومقاومة التعب، وكنموذج على مدى الصدق الفني وجمالية الشعر الأمازيغي بالريف، المرتبط أيما ارتباط بالأغنية الريفية، نورد ثلاث أبيات لشاعرتنا المحترمة، عائشة بوسنينة: ءوفيغ ثارهيذ ءاتلهفاذ ءاخوالو ءاتلهفاذ خثوذاث ثكا ثعذو واقيمان بويوذان ماشناو ء يني نزمان تشير الشاعرة إلى سقوط القيم وموتها، وما يرتبط بذلك من تراجع أواصر التضامن وروح المواطنة، وتهاوي الأخلاق، وانسياق الإنسان وراء المصالح الذاتية الضيقة، وطغيان الأنانيات، وعدم التردد في إنكار كل شيء، ونقض المواثيق والعهود.