في وقت ما يزال العالم يعيش فيه تحت وطأة وباء فتاك أودى بألوف مؤلفة من الأرواح البريئة وحصد ملايين من الإصابات المتتالية في عدد من بقاع العالم، وضمنهم بلدنا المغرب، فهو بدوره لم يسلم من وتيرة هذه الدوامة العاصفة، وفي انتظار إطلالة ملائكية تحمل رحمة يتبدد معها الفيروس في القريب العاجل من الأيام، إذا بمستجدات الأخبار الوطنية في المغرب تعلن عن تسرب مشروع القانون 20.22، وهو مشروع لم تتبد بوضوح معالمه، ولا تفاصيل محتوياته الكاملة التي يتضمنها، نظرا لكونه لم ينشر على العموم والرأي الوطني العام من قبل المؤسسات المختصة إلى حدود الساعة، إذا استثنينا المذكرة التي بعث بها وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان إلى رئيس الحكومة، في علاقتها مع نص المشروع المتعلق باستعمال شبكة التواصل الاجتماعي، وشبكات البث المفتوح، والشبكات المماثلة، والنقاش الحاد الذي أثار جدلا واسعا من خلال تسليطه الضوء على بعض مواده، خاصة المتاحة منها أمام سائر الفاعلين السياسيين والجمعويين، وجمهرة من المتتبعين المغاربة بمثقفيهم وباحثيهم، النساء منهم والذكور، ليتم عقب هذا الهدير المدوي مباشرة إعلان وزارة العدل المغربية عن خبر تأجيل تدارس مشروع القانون إلى حين استكمال كافة الشروط وتوفر الظروف المناسبة من أجل إعداد الصياغة النهائية، وللإشارة فإن الاعتراض أو التحفظ الواسع على المشروع ينبني بالأساس على أن الأخير يمس بمبادئ حقوق الإنسان والحريات الأساسية التي ينص عنها الباب الثاني من دستور 2011 . وبما أن الحريات الأساسية تجد مكانتها في صلب القانون الأساسي للدولة الذي هو الدستور، فإن الحريات العامة تؤطرها القوانين العادية والمبادئ العامة التي تعترف بها السلطات العمومية، ومنذ حصول المغرب على الاستقلال فقد تكون النسق السياسي والقانوني المشكل لهوية الدولة الوطنية الحديثة بالمغرب من وحدات تنظيمية وتشريعية أطرتها قوانين مرحلية تراوحت بين التقدم المنوه به والتقييد الذي جرى بعد ذلك في ظروف خاصة، ترسانة قانونية كانت تستهدف خدمة المصلحة العامة للشعب ورعاية حقوقه وحرياته الفردية والجماعية، ولذلك فإذا كانت بعض التوجهات الحقوقية الدولية تعتبر السلطة التنفيذية حارسا نبيلا للحريات العامة، فإن الفقيه الفرنسي "هوريو" يسير في الاتجاه المناقض وهو يعبر عن فكرته التي أكد فيها " بأن روح القانون يكمن في أنه لصالح الحرية، في حين أن روح المرسوم يكمن في أنه لصالح السلطة التنفيذية " . وبهذا يكون رهان تعليق الأمل على السلطة التشريعية التي يمثلها البرلمان مشروعا وفي محله، باعتباره المؤسسة الأكثر تأهيلا وصلاحية لاقتراح القوانين انطلاقا من الإمكانات التي تفتحها أمامه الفصول الدستورية التالية : ( 78 – 79 – 80 – 84 )، وفي حالة حدوث ما من شأنه أن يؤدي إلى التعسف على الحقوق والحريات من قبل السلطة التشريعية، فإن المدخل الأكثر ملاءمة لإيجاد مخرج مناسب للوضعية يبقى هذه المرة معقودا على القضاء الدستوري، وهي التجربة التي خاضها المغرب عبر مراحل قانونية متدرجة في الزمن وفي إطار صلاحيات واختصاصات متباينة، في خضم واكبته عدة مطالب وملتمسات توازنا مع حركية نضالية محتدمة قادتها القوى الوطنية والديمقراطية في البلاد، ليفضي المسار إلى التجربة التاريخية المتواضعة لدى الغرفة الدستورية بالمجلس الأعلى في ظل دستور سنة 1962 ، والارتقاء إلى المرحلة الموالية الأكثر أخذا بعين بالاعتبار في 1994، والتي أرخت لإحداث المجلس الدستوري، انتهاء إلى تتويج ترتب عنه تسجيل مكسب حقوقي وقانوني هام تمثل في الإعلان عن إنشاء المحكمة الدستورية ابتداء من 2014 في ضوء المستجدات التي تضمنها دستور المملكة الجديد لسنة 2011 . ونظرا لكون مشروع قانون 20.22 تأسيسا على ما أثاره من جدل ونقاش عمومي تزامن مع جائحة كورونا التي تعاني بلادنا من تداعياتها أيضا، فإن التناول الصائب للإشكالية يفرض إلزامية الربط القوي في حالة كهذه بين مراقبة مدى دستورية هذا التشريع وإمكانيات الضمانات التي يحرص على تقديمها كمنفذ إيجابي يؤدي إلى حماية حقوق الإنسان، وهو نفس الإجراء الذي دأبت على انتهاجه جل الدساتير العالمية المعاصرة، وبناء على الفصل 132 من الدستور المغربي فإن الأشخاص الذين يتمتعون بحق إحالة القوانين المتنازع بشأنها وكذلك أنظمة القوانين الداخلية على المحكمة الدستورية من أجل النظر في مدى مطابقتها للدستور، نجد : جلالة الملك، رئيس الحكومة، رئيس مجلس النواب، رئيس مجلس المستشارين، مع الخمس من أعضاء مجلس النواب بالنسبة للقوانين، وأربعون من أعضاء مجلس المستشارين بالنسبة للقوانين أيضا . غير أنه تجدر الإشارة في المقابل أن دستور 2011 جاء باختصاص مهم يتعلق بالنظر في الدفوعات ذات الصلة بالنزاعات المعروضة على المحاكم، وذلك في إطار الاستجابة لمطالب الفاعلين السياسيين وجمعيات المجتمع المدني، في الحالات التي يكونون فيها أطرافا في نزاع معروض على إحدى المحاكم المغربية أيا كان نوعها، بحيث يصبح من كامل حقهم التشبث خلال مراحل النزاع أن القانون المزمع تطبيقه في هذه القضية مثلا مخالف لمقتضيات الدستور، كما أنه يمس بحقوقهم وحرياتهم الأساسية، وذلك نظير النموذج المومأ إليه أعلاه المرتبط بمشروع القانون 20.22، ليس برمته وإنما في الحالات المتداولة على وجه التحديد في عدد من مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف تلاوينها، والتي تشكل مسا بالتجربة الحقوقية المغربية المتقدمة، وتراجعا عن المكتسبات التي تم تحقيقها في إطار دولة المؤسسات والحق والقانون، شريطة أن يكون ذلك قبل الشروع في إرساء تدابير وإجراءات تنفيذ هذا القانون . وانسجاما مع مقتضيات العدالة الدستورية التي جاءت المحكمة الدستورية من أجل تكريس مبادئها، يمكننا أن نحيل في هذا الصدد على واقعة مشابهة، ذات مضمون حقوقي بالأساس، كان زمنها أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين، يتعلق الأمر بقضية الصحون المقعرة أو الضريبة على البارابول، فقد سعى الوزير الراحل السيد إدريس البصري إلى فرضها على المواطنين بمختلف الطرق، بعد أن بلغ حد الرسم المفروض خمسة آلاف درهم عن كل صحن، واضطر البصري إلى استصدار مرسوم من الوزير الأول السيد كريم العمراني، وعرض على البرلمان في ما بين الدورتين، ونجح في تمريره، ليخالجه شعور عميق بالزهو والانتصار، وقد كان هاجس الوزير أمنيا بالدرجة الأولى، يروم وضع حد لانفتاح المغاربة على الفضائيات الدولية والعالمية ذات الإغراء الكبير، عبر تقنية الأقمار الاصطناعية، وتوجسه من هجرهم وعدم اهتمامهم بما تقدمه التلفزة الوطنية التي كان يشرف على تسييرها باعتباره وزيرا للداخلية والإعلام، لكن الأغلبية الحكومية لم تكن منسجمة في رأيها وموقفها حول هذا الموضوع، لذلك بادرت المعارضة إلى استدعاء المجلس الدستوري خلال السنة التشريعية من 1994 ، وبعد فترة وجيزة أقر المجلس الدستوري أن القانون مخالف للدستور، وترتب عن ذلك اضطرار الخزينة العامة للملكة أن ترجع أموال الرسوم المستخلصة من ضريبة البارابول لجميع من قام بدفعها في المغرب، وحادث كهذا سيجعل بالطبع الوزير القوي لا يقبل بالهزيمة، فطلب البصري من العميد الشرفي لكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية في باريس الأستاذ المبرز "جورج فيديل" العضو السابق بالمجلس الدستوري للجمهورية الفرنسية، الإدلاء برأيه وتقديم استشارة قانونية، فحرر الفقيه موضوعه في نحو ثلاثين صفحة، كانت في المحصلة الأخيرة لصالح وزير الداخلية الأسبق، فرح كثيرا بهذه النتيجة وقدمها على الفور للمغفور له الحسن الثاني، لكن الملك أجابه " طيب، والآن هل تريد أن أقوم بحل المجلس الدستوري .. ؟ هذا الموضوع انتهى، ورأي مجلسنا الدستوري هو الأقوى ... " (أورد الواقعة الأستاذ محمد صديق معنينو في الجزء الخامس من مذكراته "أيام زمان" ) . وكخاتمة لمقالي، فإن موضوعا كهذا كان يستدعي الاستشارة فيه وأخذ رأي المجلس الوطني لحقوق الإنسان، لتقديم توصياته وملاحظاته حول الموضوع، لأن مقتضيات مشروع القانون تهم الحريات وحقوق الإنسان، وكذلك الانفتاح على المجلس الوطني للصحافة لتضمنه موادا تتقاطع مع قانون الصحافة، وخلاصة القول فإن الرقابة على دستورية القوانين بواسطة الدفع، تعتبر طريقة جديدة، أقرها دستور 2011 في فصليه 133 و134 ، الأمر الذي يسمح بموجبه حتى للأفراد بحق الدفع بعدم دستورية قانون من القوانين خلال النزاعات المعروضة على المحاكم، وهي آلية دستورية وضمانة مهمة تؤدي لتعزيز وحماية الحقوق والحريات، وذلك بتدخل من القاضي الدستوري من أجل الفصل والحكم لصالحهم في القانون الذي يفترض فيه أن يؤثر سلبا على حقوقهم الإنسانية، وتعتبر الولاياتالمتحدةالأمريكية نموذجا رائدا في التجارب الدستورية المقارنة في إطار الدفع بعدم دستورية القوانين، تليها ألمانيا وبعدها فرنسا .