إن انتشار فيروس كورونا يعيد لأذهان الناس كل البشارات السابقة، والقيامات الصغرى السابقة حول نهاية العالم أو ما يُعرف بإسم "الأبوكاليبس"، ويرجع للواجهة كل النبوءات التي تتحدث عن نهاية الحضارة المعاصرة عبر فيروس قاتل يخرج من مخابر الأسلحة البيولوجية ولا يمكن السيطرة عليها أو عبر حرب نووية بإرادة الإنسان أو الآلة التي قد تخطأ في التقدير فتتسبب في التدمير. كذلك شهدت السينما العالمية في السنوات الأخيرة العديد من الأفلام الغربية والصينية والكورية أيضا التي تبشر بداء قاتل يغزو العالم ويؤدي لفناء الملايين من البشر، ويشرد البقية ويضعهم على حافة هاوية الجوع والفقر، ويعيد السلطة الإنسانية إلى مرحلة ما قبل نشأة الدولة في شكلها القديم مع الإمبراطورية الغازية كالبابلية والفرعونية والفارسية أو في شكلها الحديث مع الدولة الديمقراطية الاستعمارية والتوسعية العولمية اليوم، في انقلاب تام لما بشر به عصر التنوير الأوربي عبر فلاسفته، كاسبينوزا، وجون لوك، وجان جوك روسو، وفولتير،... انتهاء بنظرية نهاية التاريخ التي بشر بها فوكوياما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. إن السينما العالمية أصبحت تبشر بالفناء والنهاية، بل وأصبح الفناء مصدر دخلها، فأفلام الحرب الأخيرة ونهاية اللعبة حققا مليارات الدولارت من المداخيل بفضل ثانوس القادم لتحقيق نهاية الكون تحقيقا للتوازن فيه عبر إبادة النصف في الجزء الأول، وإبادة الكل حين تبين أن النصف الباقي سيعيد نفس أسباب الدمار الأول، فكان خيار "ثانوس" النهائي الإفناء التام وإعادة الخلق من جديد. إن غزو كورونا للعالم وعبوره للحدود وعدم قدرة الدول حدّ الآن على إيجاد العلاج الشافي له قد أعاد للواجهة نظريات النهاية تلك، وأصبح الكثير من الناس يبشرون بقربها، وأن أدلتها قد وقعت مع أنه واقعيّا لا نزال بعيدين جدا عن ذلك، إذ ما زالت الأوبئة منذ العصور القديمة تضرب أهل الأرض بموت تجاوزت في أحايين كثيرة نصف الأرض، وانتشرت الدعوة للعودة للإيمان وتطهير النفس من قبل المؤمنين بمختلف أديانهم ومللهم ونحلهم، والدعوة للانتحار وعدم انتظار الفناء لغيرهم، وزاد في الطين بلة الوباء الإعلامي، وهو أخطر من كورونا نفسها، عبر التهويل والمبالغة وإعادة نفس السيناريو الذي رافق انتشار أنفلونزا الخنازير وأنفلونزا الطيور، رغم أن الأنفلونزا العادية تقتل سنويّا أكثر من كل الأوبئة منتشرة ولكن لا يهتم بها أحد. إن كورونا أحيت في الناس الخوف من الفناء القادم والنهاية الحتمية، لأن الإنسان المعاصر غارق في المادية والاستهلاكية حتى فقد كل أسباب الطمأنينة النفسية التي تفترض توازنا بين الروح والجسد، فنحن اليوم نركز على الجسد ولا نلتفت مطلقا في الغالب إلى الروح، ولذلك كلما أحاط بنا الوباء إلا وعدنا باحثين عن تلك الروح خشية الموت القادم دون أن نعطيها حقها، إن الإنسان المعاصر يعيش تحت ظل الخوف من الطوفان القادم، وكلما غزا أرضه وباء إلا ونظر في الأفق البعيد منتظرا أن يغزوه الماء من كل مكان، متذكرا حينها أن له روح قد أهملها منذ قرون، في غياب شبه تام متعمد للبعد الأنطولوجي للإنسان لأصحاب المال لصناعة السعادة الوهمية على حد ويليام ديفيز في كتابه:"صناعة السعادة كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكبرى الرفاهية" لتكون النتيجة رأسمالية الكوارث تبعد الجانب الروحي للإنسان، وتستغل أوضاعه على حد تعبير أنتوني لونشتاين في كتابه:"رأسمالية الكوارث كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحا طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية" مما يحتم إعادة النظر في النظام الدولي الجديد بتعبير يورغ سورنسن في كتابه المترجم قبل شهر. لقد دفع كورونا الإنسان اليوم لطرح الأسئلة العميقة حول الحياة والموت والمصير، فالوضعية القصوى التي وجد فيها نفسه وجها لوجه أمام الموت دفعت لإعادة التفكير في الحياة وكيفية العيش المشترك، وتفعيل الحياة الجيدة، "لأن الإنسان فان الطب وما له قيمة في نهاية المطاف" على تعبير أتول غواندي، ففي النهاية نمط حياتنا المعاصرة هو الذي كان السبب الرئيس في غزو كورونا وشقيقاتها سابقا. وكلما ظننا أن الإنسان سيتعلم الدرس ويعود إلى رشده كلما زاد غرقا في بحر المادة حتى أصبحت الروح من أمر الماضي. لن تستقيم حياة الإنسان إلا بالتوازن والانسجام بين الروح والجسد، دون ذلك سنشهد كل حين غزو وبائي يذكرنا بضرورة العودة لإنسانيتنا، وهو ما تنبهت إليه اليوم مدرسة فرانكورت كباومان في مجموعته، ومدرسة ما بعد الحداثة التي تحاول اليوم إعادة الإنسان إلى طبيعته الأصلية بعيدا عن الشر والجشع. ندعو الله أن يكون لطيفا بعباده.