وأنا أتمعن بالقراءة في العمل الروائي والإبداعي الأخير للكاتب المغربي عبد الكريم جويطي " المغاربة " الذي أصدره سنة 2016 ، فقد حدج نظري بكون متنه المنتج مثخنا إلى حد كبير بتفاصيل من التاريخ القريب والبعيد، وبالإضافة إلى ذلك فالرواية تستبطن تفكيرا معمقا ينحو إزاء تأصيل المضمون التاريخي الذي يمتح من المشهد الاجتماعي والثقافي المغربي، وهو الديدن أو المنهج الذي تلقفه بالاتباع العديد من المؤلفين في الدول المغاربية وفي العالمين العربي والإسلامي، وتجد هذه الميزة الفارقة جذورها في خصوصياتنا الثقافية وبنياتنا الاجتماعية ونمط حياتنا اليومي، لذلك نجد الكاتب يتوقف عند المغيب في محطات من تاريخ المغرب ما بين 1958 و 1983 من خلال أحداث وشخوص روايته، وتجاوز ذلك إلى الفترة المشرقة والزاهية التي تهم السلطان المغربي محمد بن عبد الله العلوي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي . ووقف وقفة خاصة أمام التراث الفقهي والديني والسياسة الشرعية السلطانية في مميزاتها المغربية، متسائلا في حكمة حصيفة عن السر في تفضيل المغاربة للمذهب المالكي، دون التنقيب في الأسباب التي أفضت لذلك، أو في الطريقة التي انتقل بها وأدت لنشأته في المغرب الأقصى، لكون وضعية من هذا القبيل تهم بالأساس المؤرخ الأكاديمي المختص في علم التاريخ، أما عمله كروائي فلا يعدو أن يتضمن إحالات ولو على سبيل التلميح المبطن إلى السوسيولوجيا الدينية التي تهم المغاربة في أبعادها التي تتشابك مع مؤهلاتهم المعرفية ويلائم طريقة عيشهم ومواضعاتهم الاجتماعية، مستطردا في سرده الأدبي عبر الإشارة إلى موافقة هذا المذهب الديني للنخب الحضرية التي أعلى من شأنها، إضافة إلى أنه لا يعنى إلا بما هو عملي فقط، ويأخذ بالعرف الذي كان سائدا في عدة مناطق من المغرب، وهو وإن كان يقدم النقل على العقل في بعض الأحيان، أي المذهب المالكي، فإنه يضمن الاستقرار الاجتماعي في ظل تنامي دور مركزي يسمح للطبقات الاجتماعية الصغرى والمتوسطة باستلامها للمواقع التي تستحقها، كما يساعد على استتباب الأمن والأمان والسلم الاجتماعي، باعتبار هذه الأخيرة قيما إنسانية وحقوقية نبيلة . كما أن الكتابة عن ما بعد الكارثة، يقتضي منا الوقوف مليا أمام تداعيات الكاتب واسترسالاته الإبداعية التي انتهت به إلى الإفصاح أن الأديب والمفكر طه حسين شعر في أواخر أيام حياته أن أفكاره لم تجد التربة التي تحتضنها وتتفهمها، مما ينبئ عن إفلاسه واندحار مشروعه الفكري والقيمي، في زمن تكالب فيه ضده كل من التقليديين وبعض الحركات الدينية المتسيسة، وفي ظل سيطرة الإنجليز واستعمارهم لبلده مصر، لذلك فإن عدم تحول أفكار طه حسين المتنورة إلى قوة اجتماعية فاعلة ومؤثرة في محيط إنساني موبوء، يعاني قساوة الكثير من الأدواء، لا يسمح لنا البتة التماهي مع شهادة سكرتيره التي تشكك في المشروع الثقافي والمجتمعي لطه حسين وفي كل ما كتبه من أفكار عميقة، مما يحملنا على لمس نوع من التناقض في عمله الإبداعي، إذ كيف يتحدث الروائي عن العميان العباقرة الذين سطعت إنتاجاتهم البارزة في كل من اليونان في شخص هوميروس، وبالأرجنتين في شخص لويس بورخيس، وأيضا في إنجلترا على يد جون ميلتون، وبالنسبة للمسلمين العرب في نموذجي المعري وطه حسين، في الوقت الذي نسجل فيه تفاعله الملحوظ مع أطروحة الشك التي تنطبق على ما أنتجه طه حسين من تراكمات فكرية وثقافية ستظل تشكل منارة متقدة في تاريخ الفكر البشري . من ناحية أخرى، يمكننا أن نسجل على هذا العمل الفني والإبداعي المتألق، ميله نحو التقليل من أهمية توصيات ومقررات هيأة الإنصاف والمصالحة، وهو أمر غير مستساغ، ولست أدري ما طبيعة إصدار موقف من هذا القبيل، ولا أية فائدة يمكن أن تجنى من ورائه، خاصة وقد تضمنه عمل إبداعي أراد له صاحبه أن يكون من جنس الرواية، وليس مقالا أو دراسة مطولة يتناولان مباحث وفروعا في القانون الدولي لحقوق الإنسان أو نماذج من التجارب المعروفة في العدالة الانتقالية الدولية، ويوجهنا في هذا المأخذ منادح الخير المتسعة التي أثمرت إيجابيات فضلى في حيوات العديد من أفراد الضحايا وأسرهم الذين اجترحت في حقهم المظالم والانكسارات المؤلمة خلال الفترات المعروفة بسنوات الجمر والرصاص، إذ تم الزج بذويهم في عتمة المعتقلات وأقبية التعذيب، وفي مجاهل الاغتراب ومحنة المنافي . استحضار البعد التاريخي في رواية " المغاربة " لم يفوت معه الكاتب فرصة استحضاره لمكانة المرأة المغربية عبر التاريخ، المرحلة هذه المرة هو القرن العاشر الميلادي في شخص زينب النفزاوية زوجة يوسف بن تاشفين أمير المسلمين الذي وحد المغرب وضم الأندلس إلى امبراطوريته الواسعة، في الوقت الذي فوض فيه تدبير شؤون مراكش للمرأة الحكيمة زينب النفزاوية ذات الشخصية الصلبة والمراس الشديد، يحدوها في كل ذلك رؤيتها الثاقبة في تدبيرها لشؤون الحكم، وذكاء سياسي خارقا جعل منها مرجعا في المشورة وتقديمها للرأي السديد لفائدة قادة ومؤسسي الدولة المرابطية، سيما عندما تدلهم أمامهم أرجاء سماء البلاد منذرة إياهم بحلول المخاطر والأزمات المستعصية . إنه المنهج ذاته أو المنحى الذي سلكته الكاتبة الفرنسية المغربية زكية داوود في روايتها " زينب النفزاوية – ملكة مركش " وهو العمل الذي جسدت فيه قيم زينب المغربية الأصيلة، هذه الأخيرة التي كانت أكبر ما تكرهه هو الجشع الذي تقرأه في عيون الرجال، وقد كان أملها الأكبر أن تساهم عن جدارة في صنع جزء من التاريخ، وتمكنت من ذلك بعد أن تقلبت بين أزواجها الأربع الذين اقترنت بهم تباعا بدءا من يوسف بن علي، مرورا بالأمير لقوط الذي اضطر إلى الفرار بعد انهزامه في مواجهة عسكرية شديدة البأس، وأيضا بالقائد العسكري البارز أبو بكر المرابطي، الذي تمكنت معه من التحول من جارية إلى زوجة وسيدة حرة يؤخذ برأيها في أهم المعضلات العسكرية والسياسية للدولة ، وانتهاء بالزيجة التاريخية الكبرى التي عقدتها مع مؤسس الدولة المركزية للمرابطين يوسف بن تاشفين . وضمن سياق التأصيل الفكري وحضور النزعة التاريخية في الرواية المغربية، نأخذ أيضا نموذج عبد الله العروي في رواية " أوراق " فبقدر ما تجسد نوعا من الاستطراد الحكائي الذهني المندرجة في خانة السيرة الذاتية والخطاطة الوثائقية، بقدر ما تستحضر في المقابل التاريخ المعاصر في أبرز تجلياته وتيه النخبة العربية والمغاربية في تجاذبها السياسي والثقافي المعبران عن أزمة في هويتها الوطنية، خاصة أمام التحولات المجتمعية الكبرى التي ما فتئت تمعن في تقويض صرح مكانتها وخلق فجوة من التنافر والاستعداء ليس أمام الأجيال الجديدة الصاعدة، وإنما بالأساس أمام دهاقنة الفكر الاستعماري وقواته المحتلة، لذلك وجدنا التجربة النضالية والتاريخية التي اعتمدها المؤلف تنحو في اتجاه التأكيد أن الأستاذ علال الفاسي وإن عد أحد الأوجه البارزة في النخبة المثقفة المغربية، فإنه لم يكن أكثر الزعماء ثقافة أو تجربة أو اطلاعا على الأفكار الحديثة، ولكنه تميز بالجرأة النادرة حيث بادر سنة 1948 إلى نشر مؤلفه " الحركات الاستقلالية في المغرب العربي " وصف فيه مراحل نشأة الحركة الوطنية ووقف عند أهم منجزاتها، وفي نفس الوقت وبعد مرور سنة أصدر في 1949 كتابه " النقد الذاتي " الذي يتطرق إلى أخطاء الحركة الوطنية، لينتقل من جيل الوطنيين المؤسسين إلى جيل آخر جديد متمكنا بذلك من أن يضمن لنفسه موقعه بين صفوف الشباب . واستمرارا في التأصيل الفكري والاحتفاء بالبعد التاريخي، لم يتغاض العروي في "أوراق" عن تجربة المهندس الجزائري مالك بن نبي الذي مثل النموذج الصارخ للتشظي الفكري وعدم الانسجام الثقافي، فبعد أن أصدر كتابه الأول " دعوة الإسلام " الذي يتهجم فيه بشدة على اتجاه الأحزاب الوطنية، وقامت باستغلاله الدعاية الاستعمارية لصالحها، ومن بين ما تضمنته أطروحته الإشارة إلى أن البلاد الإسلامية استعمرت لأنها كانت قابلة للاستعمار، حيث يبدو أن المؤلف متأثر جدا بفلسفة أرنولد طوينبي التي تقول أن الحضارة تنتقل من منطقة إلى أخرى عبر الأحقاب، ليتوالى بعدها صدور مؤلفاته ومن أبرزها "الظاهرة القرآنية " سنة 1946، إذ أكد أن الحضارة الإسلامية لم تكن أبدا حضارة قرآنية، مما يتوجب معه إنشاء رجل جديد يماثل الرجل القرآني، وغيرها من المفارقات البعيدة عن روح الواقع، وموازين القوى الحقيقية والموضوعية، ورديفتها من شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة آنذاك، من قبيل إهمال المؤلف للعامل الاقتصادي إهمالا كليا، وتماهيه في كتاباته مع مؤلفات عامة الإخوان المسلمين في مصر، فلم يعد يختلف عنهم في شيء، خاصة بعد معرفته للغة العربية إذ كان يتقن اللغة الفرنسية فقط، واتساع معلوماته الإسلامية في مقابل اضمحلال ثقافته الغربية ومعرفته بهذه الأخيرة، مما حدا بالعروي إلى وصف أقواله بالسطحية، وإن كان لا يشك أبدا في إخلاصه، ولكن الإخلاص وحده لن يصمد أمام قوة الحقائق التاريخية والاقتصادية . أما النموذج الفرنسي في الإبداع الأدبي، فإن رواية " العاصفة " للكاتب جان ماري غوستاف لوكليزيو الحائز على جائزة نوبل للآداب، التي صدرت طبعتها الأولى بالعربية سنة 2019 ، يتساءل فيها الروائي بعفوية وتلقائية عن السر الذي يكمن في توقنا الدائم إلى إعادة إحياء الماضي، وهل من الضروري التمسك بهذا الماضي خاصة إذا كان محموما ومترعا بالجراح ؟ وإلى أي حد يمكننا الوثوق بذكرياتنا ؟ عمل العاصفة الإبداعي بروايتيه المتوسطتين، تتعمقان في مفهوم الهوية والذاكرة اللاإرادية المبنية على الحواس، وتطرحان تساؤلا عميقا : هل من الأفضل أن نتذكر، أم أن ننسى ؟، في الرواية الأولى (العاصفة) يطغى البحر ونساء البحر ... ولكنه بحر لا يسمح بالنسيان، إليه يعود الصحفي فيليب كيو، الذي أدين بجريمة لم يرتكبها لكنه شهدها أمام عينيه، بحثا عن صلح ممكن مع الماضي، وفي الرواية الثانية " امرأة مجهولة الهوية " يبرز صوت "راشيل" الفتاة التي اكتشفت فجأة في شجار نشب بين أهلها سرا خطيرا أحدث شرخا مدميا في كيانها، وبعد اندلاع الحرب في ساحل غانا انتقلت مع عائلتها إلى باريس لتهيم بين شوارع العاصمة الفرنسية وساحاتها، بعد أن شهدت ميلادها الجديد في السطر الأخير من الرواية، وهي تعكس مجموعة من القيم الاجتماعية ذات الصلة بالأخلاق والشرف والتماسك الأسري، وكذلك بالتنشئة الاجتماعية وقيمتي التسامح والعاطفة، وعلاقة كل ذلك بالذهنية/ العقلية الأوروبية، وبالعلاقات الاجتماعية والإنسانية في المجتمع الفرنسي الأوروبي . لذلك يبدو أنه من الأهمية بمكان طرح تساؤل من قبيل : هل نحن مازلنا في حاجة إلى التداول في مواضيع تهم مسؤولية المثقفين في البلدان المتخلفة ؟ المثقف بين الحرية والالتزام ؟ حول مفهوم الثقافة الوطنية ؟ وإن كان النقاش راهنا يحتدم بالخصوص حول التعريف السوسيولوجي والأنتروبولوجي للثقافة، والحدود القائمة بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة، وعلاقة الأنتروبولوجيا بالثقافة الشعبية خصوصا، أو بالأحرى الأسس التي تلخص منطق الثقافة الشعبية المغربية، وفي هذا الصدد وجدنا أن الأستاذ محمد عابد الجابري في كتابه " المثقفون في الحضارة العربية " لم يتردد في العمل على تأصيل وتبيئة مفهوم الثقافة والمثقف في الثقافة الإسلامية والعربية الكلاسيكية، وهو الكتاب الذي قام بالرد عليه الأستاذ علي أومليل في مؤلفه " السلطة الثقافية والسلطة السياسية "، موضحا أن بعض المفاهيم من قبيل الثقافة والمثقف، إنما هي مفاهيم وقيم جديدة لم تكن موجودة في الماضي العربي الإسلامي، ولم يكن بالإمكان حسب الأستاذ أومليل أن توجد لغياب الشروط المعرفية والبنية الفكرية المساعدة على ذلك، وبالتالي فهي بمثابة اللامفكر فيه ضمن أنساق وبنية هذه الثقافة، نظرا لكونها تعتمد المرجعية الأوروبية الحديثة في القرن 18 الميلادي التي تمخض عنها ميلاد مفهوم الكاتب، في مقابل الفقيه صاحب السلطة العلمية والشرعية المطلقة الذي يحتكر المعرفة الدينية، دون بقية أنواع المعرفة الأخرى التي لم يكن بمقدورها الصمود أمام سلطة الفقيه العلمية ومكانته الاجتماعية، من قبيل علم الكلام والفلسفة والتصوف والآداب بمختلف أجناسه وأغراضه ... أم أن واقع الأمر، ومنطق تطور الأشياء ومسار التحول الذي عرفه المجتمع المغربي على مستوى تطور البنيات والذهنيات ومختلف الحقول المعرفية التي أبان عن اقتدار ومؤهلات كبرى في الولوج إليها، قد أفضى في الوقت الراهن إلى وجود ما يسمى بعلوم الثقافة في مقابل الدراسات الثقافية أو النقد الثقافي، وتعد دراسة الأستاذ ادريس الخطاب في كتابه القيم " علوم الثقافة " من بين أهم الأبحاث التي كشفت بدقة عن مسار هذا الانتقال التحولي الكبير، ففي نظره إذا كانت علوم الثقافة لا تتخذ من البحث الأكاديمي وسيلة للنضال أو لتغيير المجتمع، لكون الالتزام السياسي ماركسيا كان أو غير ماركسي، لا يشغل بالمرة بال الباحثين المندرجين في إطار هذا التيار العلمي والمعرفي . أما الدراسات الثقافية فإنها على عكس الأولى تقدم تحاليل تقتبس أفكارها النظرية من الفكر الماركسي، مما يجعلنا في علوم الثقافة نجد أنفسنا أمام توجه فكري وثقافي غير مسيس تماما، إذ ما أحوجنا إلى تيار أصحاب " علوم الثقافة " الذي يروم الموضوعية ويصب في اتجاه خدمة كل ما هو معرفي أصيل، فقد ولى إلى غير رجعة زمن الإيديولجيا، وحتى المجالات والمعطيات الثقافية أصبحت في تراجع أمام سلطة " العلوم المعرفية " التي عملت على استعادة نزعتها الكونية التي تتخذ من المنحى العلمي والتقني أساسا مرجعيا لها، أكثر من اهتمامها بالقيم والثقافات، ولعل هنا يكمن مربط الفرس أو الحجر الأساس الذي يتيح لنا إمكانية إعادة النظر في الكثير من المسلمات والبديهيات التي تساهم في بلورة وعي زائف، وحتى في صياغة منظومة فكرية موغلة في الإسفاف والابتذال، تنجم عنها في معظم الأحيان تبعات مجتمعية وخيمة .