الأمر ليس كما يبدو ظاهريا، فالتسول من الظواهر الأكثر تعقيدا و صعوبة في الواقع عامة، و المجتمع المغربي خاصة، فقد انتشرت هذه الظاهرة بشكل سريع في الآونة الأخيرة بيد توفر الفرص للبحث عن العمل اللائق و الاعتماد على النفس دون الحاجة للآخر ...و هذا ما قد يفسر أنها مزجت بين الحاجة للمساعدة، و إدمانها كحرفة للإسترزاق على ظهور المواطنين، و ذلك باستغلال الدين، و طلب الصدقة، و التظاهر بالفقر، والمرض...إلخ من الأشياء التي تجعل المجتمع يتعاطف معهم، فقد امتلأت شوارع المدن المغربية، أطفالا، و رجالا، و نساء، متزوجين، مطلقين، كل الفئات...، دائما ما أتساءل ما هو الدافع وراء هذه المهزلة؟ و ما هي العلاقة التي تجمع بين التسول و السياسية و الاقتصاد، بعبارة أخرى "هل المشاكل السياسية و الاقتصادية هي التي تدفع بالأفراد للتسول؟؟" التسول إحدى الأمراض الاجتماعية في العالم إن صح التعبير، تختلف نسبة المتسولين من بلد إلى آخر، و ذلك راجع لعوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية، بيد أن التسول يظل من العادات السيئة في أي مجتمع من المجتمعات، فالتسول لا يعني في الحقيقة أن من يمارسه في حاجة إلى المال أو هو عاجز عن العمل بل هو نوع من الخداع والدجل والتضليل والكسب الغير المشروع، ففي الآونة الأخيرة دائما ما نرى شباب أقوياء في الثلاثين من عمرهم يحملون معوقاً فوق ظهورهم في المساجد و المقاهي و الحافلات يطلبون المساعدة ، و رجال يلجؤون لقرض الأطفال و العجزة أو المرضى بفائدة يومية لأولياء أمور المذكورين سابقا، فلا شك أنه مظهرا من مظاهر التخلف الاجتماعي يمكن أن يسيء للوطن والمواطنين بشكل شمولي نظرا لكثرة المتسولين والمتسولات في شتى الأماكن . فالمتسول دائما ما يتردد قبل بدايته لهذه العملية لكن بعد التجربة لأول مرة تتغير نظرته للأمر بشكل إيجابي، لأنه يحصل على أموال من دون بذل جهد، أو عناء، الأمر يستدعي فقط مهارة خداع المارة، و ها هو يحصل على أموال كثيرة أحيانا، كما أن في البداية قد يكسب منه لقمة عيش فقط، إلا أنه بعد ذلك، سيرى مدى سهولة العملية، و كمية النقود التي سيجنيها، و التي تتزايد، الشيء الذي يغريه للاستمرار، فبدلا من محاولة التستر على حقيقة فقره يجد نفسه مجبورا لأن يظهره ويبالغ فيه الى الدرجة التي يراها مقنعة للآخرين، تماما مثلما يفعل التاجر في تزيين سلعته وهو يعرضها للبيع، والغش وارد في كلتا الحالتين، غير أنه في حالة التسول أعظم وأشد لأنه جزء مهم من رأس المال... فالمتسول ليس فقيرا بالدرجة التي ستؤدي به لطلب قوت عيشه أو تسديد دينه أو شراء علبة دواء في شوارع و أزقة المدينة ، كما أنه ليس مجبورا للجلوس طوال اليوم و أنصاف الليل في البرد و الشتاء، أمام أبواب المقاهي و المساجد، في الأسواق و أمام أبواب الدكاكين... لحصوله على بضعة دراهم التي يطلبها من بقية المواطنين، المواطن الذي يعاني من أجل الحصول على أجر بكرامة، يعمل و يتعب... إن المسألة هي عبارة عن استغلال لفقره ليكتسب من ورائه رؤوس أموال؛ مشروع التسول، من دون بذل مجهود، و لا التعب، الأمر يستدعي فقط الوقوف بمذلة على عتبات الطرق، و مد اليد للآخرين، و الركوض نحو السيارات الفخمة منها، و العادية، طمعا في الحصول على مبلغ مالي، و ينجح في ذلك، في خطته المرسومة ببراعة، خطة الاستغلال، و النصب على أفراد المجتمع، أحيانا و بسبب التسول، تصبح حالة المتسولين حالة ميسورة، بل و أفضل من حالة الأشخاص الذين يعملون طيلة أيام السنة دون توقف. لكن رغم كل شيء فإن لجوء هاته الفئة من المجتمع إلى التسول لم يكن بدوافع فارغة، بل هناك مجموعة من العوامل المختلفة جعلت الفرد يختار هذا الطريق لكسب قوت عيشه اليومي، وإذ ما بحثنا في عمق هذه الظاهرة سنجد أن الدوافع الحقيقية يمكن تلخيصها في أبعاد سياسية و اقتصادية، قبل أن تكون دوافع اجتماعية، فالبطالة التي تعاني منها المجتمعات هي منبع كل الآفات و المشاكل التي يواجها كل مجتمع و ذلك نتيجة لارتفاع الكثافة السكانية، و غياب ثقافة التضامن والتكافل بين الأفراد لخلق نوع من الروابط الاجتماعية مع غياب العدالة الاجتماعية و الإهمال الحكومي لأغلبية مناطق المملكة المنسية، و لاسيما المناطق القروية و هذا ما يؤدي بالخصوص إلى النمو السريع الذي يترتب عليه الهجرة من البوادي و القرى النائية إلى المدن، للبحث عن ظروف عيش أفضل. دون غض النظر عن الانقطاع المبكر عن متابعة الدراسة داخل المؤسسات التعليمية نظرا لضعف الإمكانيات المادية للأسرة، هذا ما يجعل الكثير من الأطفال والشباب يلجؤون لاختيار طريق الانحراف والتشرد، وقتل شبابهم في المقاهي والأزقة تعاطيا للتسول كمهنة لكسب الأجرة اليومية مما يؤدي ذلك إلى تفكك أهم بنى المجتمع و هي البنية الأسرية. سيقول الكثير أن الدولة لا دخل لها في انتشار مثل هذه الكوارث بحجة أنها لا تستطيع التحكم في الكل، و أنها لا تملك أي وسيلة لإيجاد الحل الذي سيؤدي بالقضاء عليها لأنها منتشرة أو شيئا من هذا القبيل ... فالحجج للتهرب من المسؤولية كثيرة و متعددة، و هذا راجع لعدم اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب، و بالتالي يتم التلاعب بأموال الفقراء و فسادها في المهرجانات الفنية، و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على رغبة القوي في تلاشي الضعيف و أكله و السيطرة عليه بكل أنواع السلط .