في البدء ألزم المجتمع الدولي نفسه في التعامل مع الحقوق الثقافية خلال عقد الستينيات انطلاقا من مرجعية واتفاقية العهد الدولي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وذلك وفق منهج شمولي عام يروم التدرج ويأخذ بالاعتبار الإمكانات المتاحة والمتوفرة، وفي نفس الوقت عدم اتخاذ هذا الإجراء مدخلا نحو التنصل والتحلل من الوفاء بالالتزامات الدولية التي هي دين في ذمة الدول الأطراف المنضوية في إطار المعاهدة، طبيعة الإصرار على التقيد بهذا المسلك يجد تفسيره الوحيد في هاجس الخوف من استشراء خطر ونزعة الانفصال في أوساط الدول القومية والوطنية الناشئة، لذلك كان من الطبيعي أن يتأخر صدور بروتوكول برشلونة إلى حدود سنة 1996 حول الحقوق اللغوية بالتدقيق، وهو عبارة عن آلية تكميلية تملأ الفراغ الناجم عن خلو الاتفاقيات الدولية السابقة من أية إشارة إلى الحقوق اللغوية والتي جاءت في نفس السياق المتأخر مع الآليات غير التعاقدية المحدثة مع لجنة حقوق الإنسان ، إذ عرفت هذه الأخيرة مع مجلس حقوق الإنسان سريانا حقوقيا فعالا ومنتظما، بحيث يتعلق الأمر تحديدا بالخبراء والمقررين الخواص المكلفين بإجراء زيارات ميدانية مباشرة لنماذج من مجموع الدول الأطراف للاطلاع عن كثب على الوضعية الثقافية للمنظومة التربوية وفي صلبها مدى التقدم أو الاعتناء بالشأن الثقافي واللغوي بالخصوص، وفي نفس الوقت الانسجام مع آلية الاستعراض الدوري الشامل، ولم يكن الأمر خلال العقود التي سبقت سنوات الألفية الثالثة يزيد عن مجرد تقديم التقارير الأممية التي تهم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مع عدم إيلاء اهتمام كبير بالحقوق الثقافية واللغوية، والتعامل معها بالضمن وكأنها مجرد حقوق ثانوية ويتيمة ليس أكثر . دون أن يعزب عن بالنا بالطبع حجم الخطوة التشريعية المقدامة المطلوبة اجتماعيا وثقافيا من خلال وثيقة النص الأساسي للمملكة المغربية المترجمة عبر محتويات الدستور الجديد لسنة 2011 ، إذ تم التنصيص الواضح على الأبعاد الثقافية والروافد المتعددة المكونة للشخصية المغربية، في الوقت الذي نلحظ فيه تمركزا لغويا أحاديا تتخلله نبرة الاقتصار على لغة وطنية مسودة تكاد أن تكون اللغة الرسمية في البلاد، كما جرى الأمر لدى كل من فرنسا والولايات المتحدةالأمريكية وبريطانيا، وإن كانت هذه الدول الأخيرة تنحو بقوة إزاء التعامل بأريحية منقطعة النظير مع التعدد الثقافي واللغوي الذي تتبناه الأجيال الأوروبية الجديدة . وفي خضم هذه التحولات التي أصبحت تسم المشهد الثقافي واللغوي على الصعيد الأممي، تطالعنا منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو بتقارير تعرض فيها إلى مسألة انقراض اللغات وموتها إلى درجة وصفها عملية انتهاء اللغات واختفائها بالمذبحة، وحسب دراسة حديثة أجرتها المنظمة المذكورة فإنه من أصل 6700 من اللغات الموجودة تظل بدون حماية من دولها التي تخضع لها، وأقل من 100 لغة هي التي تستفيد فقط من دعم الدول لها باعتبارها لغات رسمية أو وطنية، وإن كان مستقبلها هي الأخرى على المدى المتوسط والقريب يبقى غير مضمون، لأن اللغة عندما تتعرض للاندثار والتجاهل لا يكاد ينتبه إليها أحد على الإطلاق، وتحدد اليونسكو كسقف زمني أقصاه القرن الواحد والعشرين لهذا الوضع المهول الذي أصبح يتهدد مصير ومستقبل العديد من اللغات والثقافات في العالم، حيث ستنقرض خلال هذا الإبان أزيد من 5500 من اللغات في أرجاء المعمور نتيجة استشراء عوامل مختلفة تساعد على ذلك . في هذا السياق، وبالإضافة إلى الترسيم الفعلي لكل من اللغتين العربية والأمازيغية في مضامين دستور 2011 ، وهو المطلب الذي ظلت مختلف مكونات المجتمع المدني والحقوقي خلال السنوات الأخيرة ترفعه إلى الجهات المسؤولة وتلح في تطبيقه على أرض الواقع، فقد تدعم هذا الموقف بمشروع قانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، وهو القانون الذي يعتبر نصه اللغة العربية لغة أساسية للتدريس، ويدعو في نفس الوقت إلى تطوير مكانة اللغة الأمازيغية بما يجعلها منسجمة مع مقتضيات الدستور الجديد في فصله الخامس، مع التمكن من إتقان لغتين أجنبيتين على الأقل. وإن كان الذي يهم بالأساس، بغض النظر عن أصولنا ورؤانا المتباينة، هو نجاحنا في تحقيق العيش المشترك والتمكن من الالتحام حول القيم الإيجابية الجامعة، نظرا للمآل الواحد الذي يشدنا نحو المستقبل، والتاريخ والمصير المشترك، والقضايا الوطنية المطروحة للنقاش لن تنجح إلا بالحوار البناء، وضمنها مستقبل الأمازيغية، التي لا يمكنني أن أقارنها مع اللغات المقعدة والمكتملة البنيان من قبيل اللغة العربية مثلا، لسبب وجيه لكون اللغة الأمازيغية لا تزال في طور الانتقال من مرحلة الشفوي إلى المرحلة الكتابية وهو المسار الذي قد يطول إذا لم نتداركه بالخيارات التربوية والبيداغوجية الصائبة وكذلك بالمقاربات الموضوعية البعيدة عن روح الإيديولوجيا، بعد أن ظلت لقرون عديدة في بؤر الظل منكمشة، يعلوها صدأ النسيان ويطالها غبار التجاهل . لذلك تظل بعضا من طروحات المفكرين الجادين صائبة وفي تمام الموضوعية خاصة لدى تأكيدها أن وضعية الأمازيغية كلغة لا يمكن النهوض بها خلال سنوات معدودة، وقد رانت عليها أطناب من سجف اللامبالاة وعدم الاعتبار والاعتداد بها منذ عهد البرغواطيين، والآن بعد أن أعيدت لها مكانتها في ظل الدستور المغربي الجديد، وإن كان الدستور الأول للمملكة المغربية في 1962 قد نص بصريح العبارة على البعد المغاربي خلافا للقانون الأساسي للمملكة في 1961 الذي سار في منحى مغاير أخذا بالاعتبار الظروف الوطنية وبعض التحديات التي استوجبها المحيط العربي القريب، صحيح فالهوية مرحلة من مراحل نضج المجتمعات ولكن ينبغي تجاوزها عبر الانغمار في الدينامية الإيجابية التي تنتهي بنا إلى التجربة الكونية، التي لا شك أنها ستجد ضالتها المنشودة في الحرف اللاتيني بدلا من تيفيناغ، وهو خيار صعب ولكنه موضوعي يخدم جوهر اللغة الأمازيغية، فقضايا اللغة والتربية حري بنا أن لا نستحضرها أو نفكر فيها بناء على حلول تعتمد قوالب محلية جاهزة تضمر في ثناياها خطابا هوياتيا يحجب عنا المنزع الكوني والأممي، بل لا بد من التلاقح الفكري والحضاري في أفق المثاقفة التي تنبذ التجزئ وتعتمد الكونية العامة المتأسسة على قيم المواطنة والتضامن والمساواة ونماذج من التربية القائمة على السلوك المدني المتقدم . بالنسبة للغة العربية، نظرا لمكانتها الاعتبارية القائمة على أسس معيارية مكتملة النضج والقوام البنائي، فهي تظل في منأى من الانزلاق نحو التواري والانقراض، لسبب وجيه فقد توفر لها عبر التاريخ من المقومات العلمية والحمولة الثقافية الغزيرة ما جعلها في مأمن من أن تعصف بها عوادي الزمن أو تعبث بها أيادي المتربصين، فقد ظلت خلال عهد الاستعمار رمزا للكرامة المغربية التي حاولت النيل منها الدول الحامية، إضافة إلى أنها اللغة التي يلوكها بالألسن ما يزيد عن 400 مليون نسمة، وتدرج في قائمة اللغات الرئيسية الستة التي يتم اعتمادها في أجهزة وو كالات الأممالمتحدة، وتحظى بمكانة لائقة على شبكة الأنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي إذ تحتل الدرجة الرابعة بعد كل من الإنجليزية والصينية والإسبانية، وخلال فترتي الحماية الفرنسية والإسبانية كانت تستعمل إلى جانب اللغتين الفرنسية والإسبانية، واستمرت هذه الازدواجية في تدفقها الحيوي بين المناطق التي تقع في وسط المغرب وشماله وجنوبه حتى ما بعد الاستقلال الوطني لبلادنا، وإلى غاية عقد السبعينيات من القرن الماضي . بعد هذه الفترة حلت مسألة التعريب، وقد أبدى آنذاك وزير التربية الوطنية السيد محمد بنهيمة ملاحظته الواقعية بخصوص المبادئ المذهبية الأربعة التي أقرتها الحركة الوطنية المغربية،والمتعلقة بكل من: " المغربة، التعريب، التوحيد، التعميم " متوقفا بالتحديد عند المبدأ الثاني الذي يهم التعريب، معللا ذلك بصعوبة توفير مدرسين أكفاء في هذا المجال ومرجعا ذلك أيضا إلى غياب في المراجع والعدة البيداغوجية اللازمة، وحتى مسألة استقدام أساتذة شرقيين في هذه اللحظات كان من الصعوبة بمكان لأسباب موضوعية وذاتية لها صلة بعدم تمكنهم من العدة المعرفية ومناهج التدريس من جهة، وفي مقابل ذلك فإن المغرب في هذه الفترة كان قد أبدى اعتراضه على مشروع القومية العربية التي تبناها الرئيس جمال عبد الناصر والبعثيون، وبالتالي لم يكن يستطيع ولا يريد اللجوء إلى هذا التعاون، بالإضافة إلى كل هذه العوامل يحضر الجانب المتعلق بقلة الأطر المغربية التي سافرت في إطار بعثات علمية إلى المشرق العربي، فبعد رجوعهم من استكمال مشوارهم الدراسي بالمشرق تم إلحاقهم على رأس مؤسسات معدودة من التعليم الثانوي وبعض معاهد التكوين التي كانت إلى ذلك الحين تعد بمثابة أنوية للتعليم العالي الذي سيحدث مستقبلا . غير أن الدولة المغربية لم تجد بدا من الاستغناء عن وزيرها في التربية بنهيمة، خاصة وأن تبعات الأحداث الاجتماعية التي تفجرت خلال سنة 1965 وما أعقبها من ظروف التشديد المرافقة لمرحلة الاستثناء كانت لا تزال ترخي بثقل ظلالها على حقل السياسات العمومية بالمغرب، مما جعلها تضطر إلى إبعاد بنهيمة من قطاع التربية، وتختار كبديل عنه السيد عز الدين العراقي المنحدر من صلب أحزاب الحركة الوطنية المغربية الممثل في حزب الاستقلال ليتولى تدبير حقيبة وزارة التربية الوطنية ابتداء من 1977 ، ومن يومها عرف مسلسل التعريب انطلاقة مسترسلة دؤوبة وغير متقطعة في جميع المواد التعليمية التي كانت تدرس باللغة الفرنسية، وزاد من تنامي حركية التعريب ظهور الحركة الأمازيغية في بداية الثمانينيات وتخوفات الدولة من التوظيف السلبي غير البرئ الذي كان ينتهجه رجال الدين والمسؤولون الإيرانيون تجاه اللغة العربية ليتوقف هذا الديدن التصاعدي ابتداء مع خطاب جلالة الملك الحسن الثاني حول " وشك إصابة المغرب بالسكتة القلبية " خلال سنة 1995 ، وبعد أن عجزت سوق الشغل في المغرب عن استيعاب الطلبة المتخرجين الذين تلقوا تعليمهم بالعربية، وبدأن تظهر في الأفق أفواج من العاطلين المنتظمين في إطارات مدنية، إضافة إلى بروز اتجاهات من الحركة الإسلامية المغربية التي تابعت دراستها العليا بلغة الضاد أيضا، ولعل مما زاد من حجم هذه المخاطر الاجتماعية ربط الصحافة الفرنسية بين الحركة الإسلامية وسياسة التعريب في الجزائر التي لم تنجح بدورها في إدماج جحافل من العاطلين المعربين الذين لم تكن تسعفهم مؤهلاتهم غير التقنية الدقيقة التي تتطلبها كمواصفات المؤسسات المشغلة، ومن ثم كان من الطبيعي أن ينتقد العاهل المغربي الملك الحسن الثاني سياسة التعريب وإيديولوجيتها، لتبدأ الدولة المغربية مباشرة بعدها في الدعوة إلى ضرورة الانفتاح على اللغات الأجنبية، إذ أن تعلمها سواء تعلق الأمر بالفرنسية أو الإسبانية أو الإنجليزية أصبح أمرا يسيرا، خاصة مع تواجد وسائل متطور تؤدي إلى المساعدة على التمكن منها بسرعة في ظرف سنة أو سنتين، من قبيل وجود المراكز الأجنبية المتخصصة في تلقين وتعليم اللغات بأساليب جد متقدمة . كان هذا جردنا المختصر والبسيط حول وضعية ومآل اللغتين العربية والأمازيغية في سلم قيمنا الوطنية والحضارية، وفي ضوء المتحولات والمتغيرات الدولية والوطنية، والرهانات الكبيرة التي أصبحت تعقد من أجل تجاوز الأزمة الاقتصادية وإيجاد حلول لمعضلة الهجرة والمخاطر البيئية، وتأكيدا لما سبق فتنوعنا وتعددنا الثقافي واللغوي الذي لا زمنا بمتحولاته منذ الفترة الزاهية لحكم الدول المغربية المتعاقبة على الأندلس، ليس بالمرة عيبا ولا لعنة، بل على العكس من ذلك إنه صمام أمان وتحصينا لشخصيتنا المغربية وتوطيدا لآصرة الوحدة بيننا، خاصة إذا دبرنا بحكمة وعقلانية هذا التعدد والتراكم الثقافي واللغوي المتحصل لدينا، آخذينا بالاعتبار كون المسألة الثقافية واللغوية تندرج آلياتها التحولية ضمن الزمن الطويل الأمد، على أساس أنها من القضايا الاجتماعية الأكثر تشابكا وتعقيدا . سلاحنا في ذلك تاريخنا ومصيرنا المشترك، ونحن نرنو في شوق نحو مستقبلنا الذي نريده مثخنا بآمال عريضة تحذوها رغبة صادقة من الحق في العيش المشترك، فالعلاقة بين اللغة العربية واللغة الأمازيغية لم تأخذ بالكاد منحاها الإيديولوجي إلا بعد فترة قصيرة مع ظهور الحركة الأمازيغية المتسيسة، وبكعس الجزائر، فتحت تأثير السياسة الاستعمارية في منطقة القبائل، فقد كان نشطاؤهم الأمازيغيون تقريبا كلهم يتحدثون اللغة الفرنسية، أما نشطاء المغرب نجد أن أغلبهم يتحدثون باللغة العربية، وهذا النموذج المغربي من التعايش والتسامح بشأن هذه العلاقة نجدها لدى كل من العلامة المختار السوسي الذي دافع عن الأمازيغية بالعربية، وأيضا عند الشاعر علي صدقي أزايكو صاحب كتاب " تاريخ المغرب، أو التأويلات الممكنة " هذا الأخير الذي دافع عن الأمازيغية وأبدع فيها باللغة العربية، وقد كان بحق معربا، وكذلك عند العميد والأستاذ محمد شفيق، وعند غيرهم كثير في مختلف أرجاء المغرب . وانسجاما مع نظرتنا حول الحقوق اللغوية والثقافية، واستحضارا لأهمية مكون التربية في حياة الأمم والشعوب، هذه الأخيرة التي أصبحت حسب النظرية التربوية المعاصرة في مجال التنشئة الحقوقية تستند على أربعة دعائم تخص كلا من " التعلم بقصد المعرفة Apprendre à connaitre " والتعلم من أجل العمل Apprendre à faire " و" التعلم لنكون وجودا Apprendre à ètre " و " التعلم من أجل العيش مع الآخرين Apprendre à vivre ensemble " ذلك أن المستقبل أصبح ملكا لأولئك الذين يفكرون بشكل جماعي ويتبنون ذكاء تفاعليا، لهذا فإن تعلم العيش المشترك والتعاون مع الآخرين ليمثل اليوم أحد التحديات الكبرى التي تواجهها منظومة التربية، نظرا لما يعيشه العالم المعاصر من صراعات وعنف يقوض الأمل في تقدم البشرية وتآخيها، على حد تعبير "جاك دولور" وزير المالية الفرنسي السابق ورئيس اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان من 1985 إلى 1995 .