بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    وزير العدل يدعو إلى عدم التشدد في منح العقوبات البديلة بدعوى عدم التوفر على الإمكانيات    نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية ورياح عاتية مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    غارة إسرائيلية قرب دمشق ونتانياهو يقول بأنها "رسالة حازمة" لسوريا بشأن حماية الدروز    مأزق نظام الجزائر من الاستفتاء إلى الحكم الذاتي    حصيلة جولة أبريل للحوار الاجتماعي.. التزامات جديدة بتحسين الدخل ولجنة وطنية لإصلاح التقاعد    تأخيرات الرحلات الجوية.. قيوح يعزو 88% من الحالات لعوامل مرتبطة بمطارات المصدر    الإنتاج في الصناعات التحويلية.. ارتفاع طفيف في الأسعار خلال مارس الماضي    المغرب يتلقّى دعوة لحضور القمة العربية في العراق    موتسيبي: "كان 2025" بالمغرب سيكون أفضل احتفال بكرة القدم الإفريقية    الدولي المغربي طارق تيسودالي ضمن المرشحين لنيل جائزة أفضل لاعب في الدوري الاماراتي لشهر أبريل    شرطة القصر الكبير توقف "الروبيو"    المغرب يواجه حالة جوية مضطربة.. زخات رعدية وهبات رياح قوية    مُدان بسنتين نافذتين.. استئنافية طنجة تؤجل محاكمة مناهض التطبيع رضوان القسطيط    ضياع المعرفة في فيض الجهل الرقمي.. بورقية تحذر من مخاطر غياب التربية الرقمية في المناهج الدراسية    الشخصية التاريخية: رمزية نظام    فلسفة جاك مونو بين صدفة الحرية والضرورة الطبيعية    هذه كتبي .. هذه اعترافاتي    وزارة الأوقاف تحذر من الإعلانات المضللة بشأن تأشيرات الحج    المغرب ينخرط في تحالف استراتيجي لمواجهة التغيرات المناخية    إلباييس.. المغرب زود إسبانيا ب 5 في المائة من حاجياتها في أزمة الكهرباء    مسؤول أممي: غزة في أخطر مراحل أزمتها الإنسانية والمجاعة قرار إسرائيلي    تجديد المكتب المحلي للحزب بمدينة عين العودة    الصين تعزز مكانتها في التجارة العالمية: حجم التبادل التجاري يتجاوز 43 تريليون يوان في عام 2024    انطلاق حملة تحرير الملك العام وسط المدينة استعدادا لصيف سياحي منظم وآمن    كيم جونغ يأمر بتسريع التسلح النووي    الحكومة تلتزم برفع متوسط أجور موظفي القطاع العام إلى 10.100 درهم بحلول سنة 2026    انتخاب البابا الجديد ..    العلاقة الإسبانية المغربية: تاريخ مشترك وتطلعات للمستقبل    الإمارات تحبط تمرير أسلحة للسودان    ندوة وطنية … الصين بعيون مغربية قراءات في نصوص رحلية مغربية معاصرة إلى الصين    رحلة فنية بين طنجة وغرناطة .. "كرسي الأندلس" يستعيد تجربة فورتوني    السجن النافذ لمسؤول جمعية رياضية تحرش بقاصر في الجديدة    ابن يحيى : التوجيهات السامية لجلالة الملك تضع الأسرة في قلب الإصلاحات الوطنية    نجاح دورة جديدة لكأس الغولف للصحافيين بأكادير    فيلم "البوز".. عمل فني ينتقد الشهرة الزائفة على "السوشل ميديا"    المغرب يروّج لفرص الاستثمار في الأقاليم الجنوبية خلال معرض "إنوفيشن زيرو" بلندن    حاجيات الأبناك من السيولة بلغت 129,8 مليار درهم    سيميوني يستفز برشلونة قبل مباراتهما في نصف النهائي    مارك كارني يتعهد الانتصار على واشنطن بعد فوزه في الانتخابات الكندية    تقرير: 17% فقط من الموظفين المغاربة منخرطون فعليا في أعمالهم.. و68% يبحثون عن وظائف جديدة    مهرجان هوا بياو السينمائي يحتفي بروائع الشاشة الصينية ويكرّم ألمع النجوم    إيقاف روديغر ست مباريات وفاسكيز مباراتين وإلغاء البطاقة الحمراء لبيلينغهام    جسور النجاح: احتفاءً بقصص نجاح المغاربة الأمريكيين وإحياءً لمرور 247 عاماً على الصداقة المغربية الأمريكية    دوري أبطال أوروبا (ذهاب نصف النهاية): باريس سان جرمان يعود بفوز ثمين من ميدان أرسنال    الأهلي يقصي الهلال ويتأهل إلى نهائي كأس دوري أبطال آسيا للنخبة    مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي تمنح جائزة عبد الرحمن الصديقي الدكالي للقدس    نجاح اشغال المؤتمر الاول للاعلام الرياضي بمراكش. .تكريم بدرالدين الإدريسي وعبد الرحمن الضريس    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في تبيان المضمر من خطاب الأستاذ عبد الالاه بنكيران

وانا اتصفح جريدة أخبار اليوم في عددها ليوم 15 يناير 2019, استرعى انتباهي ما جاء على لسان الأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية الأستاذ عبد الالاه بنكيران في شأن الملكية واليسار ،والوحدة الترابية وإمارة المؤمنين . فتساءلت مع نفسي عن دلالات هذا التصريح ومقاصده .
فهل يمكن اعتباره تصريحا لخلط الأوراق، وتوجيه الرأي العام الوطني عن ما يتداوله عبر وسائل الإعلام ، ووسائل التواصل الاجتماعي حول مسلكيات بعض عضواته واعضائه القياديين ؟، و التي كان بالإمكان اعتبارها تدخل ضمن إطار الحياة الشخصية للأفراد ،لو لم تقترن بما يتناقض وما يقدمونه للمجتمع من منظومة اخلاقية بديلة ، مستمدة من شرع الله وحقه على عباده كما يعتقدون.
ام ردة فعل على إعادة فتح النيابة العامة لملف أحد قيادييه المتورط في جريمة قتل الشهيد ايت الجيد بنعيسى ؟ ،وما صاحب تقديمه من تصريحات يشككون من خلالها في المؤسسات التي يتولون مسؤوليتها من داخل الحكومة ،و من تجييش للأنصار والمليشيات برئاسة الأستاذ بن كيران أمام المحكمة في مشهد جعل المتتبعين يعتقدون وكأنهم أمام فيلم من أفلام آل باتشينو . أو حتى للرد على بعض مواقف أعضاء حزبه التي يمكن أن يفهم منها أنها منحازة للمواقف المطالبة بالملكية البرلمانية ،ولو ان موقفها يمكن أن يأخذ تأويلات متعددة ، والتأكيد على كونه ،ومعه حزبه ،لا زال مدافعا على الملكية كمؤسسة دستورية تسود وتحكم.
ام انه تصريح يأتي في سياق التهجم على قوى اليسار، التي يتواجد مشروعها المجتمعي على نقيض ما يعتقد به ؟ والتي طالما عبر عن حقده اتجاهها وذلك منذ النشأة ،إبان مرحلة وزير الداخلية السابق المرحوم ادريس البصري، و التي يعتبرها الآن كذلك مسؤولة عن حملة التشهير التي طالت أعضاء وعضوات حزبه ؟. وبما أن عملية تخوين المناضلين الشرفاء لا تستقيم في الأدبيات السياسية المغربية دون التشكيك في وطنيتهم واتهامهم بالتآمر على العرش والوطن. فكان من الطبيعي أن يعتبر اليسار عنصر فتنة ودعاة الحاد وخونة للوطن والعرش، وهي تهمة طالما حوكم وعذب واعدم بسببها الكثيرون من المناضلين الشرفاء.
ام أن كل هذه القراءات لا تهم الا الظاهر من التصريح، و لا تلامس ما تبطنه من استراتيجية غير معلنة في تفكير حزب العدالة والتنمية ومن خلالها حركات الإسلام السياسي ، في كيفية التعاطي مع الدولة والمجتمع حتى ،وإن استهلتها بالدفاع عن العرش وإمارة المؤمنين التي نعرف جيدا أنها تتعارض واستراتيجيتها القاضية بإقامة دولة الخلافة والولاء المطلق لمرشدها العام؟.
وبالتالي فهل يمكن اعتبار هذا التصريح دفاعا عن العرش والملكية ؟.وهل هو دفاع عن الدين والوطن مما يتهددهما من قوى اليسار ؟.أم هو دفاع عن قوى الاسلام السياسي ومن ضمنها حزب العدالة والتنمية وما يبطنه من قيم مناقضة لقيم الديمقراطية والحداثة؟.
من اجل محاولة تلمس الاجوبة لمجمل ما طرحته من اسئلة، لا بد من الوقوف عند ثلاثة عناصر اساسية وردت في تصريح الاستاذ بن كيران.
1/ الاسلام السياسي والمسألة الديمقراطية والملكية .
عندما نتحدث عن المسألة الديمقراطية كآلية لنظام الحكم في العصر الحديث، فإننا نستحضر كل المخاضات العسيرة التي مرت منها هذه المسالة، وما قاسته الشعوب من معاناة مع أنظمة الحكم الاستبدادية والشمولية من اجل ان تفرض نفسها كشريكة في الحكم والسلطة من خلال مؤسسات تشريعية وتقريرية منتخبة بشكل حر وديموقراطي، تربط المسؤولية بالمحاسبة، و اجهزة تنفيذية تخضع لآليات المراقبة تشتغل وفق المقتضيات التي يقرها مبدأ فصل السلط، الذي يشكل الى جانب الانتخابات الحرة والنزيهة بين الفرقاء السياسيين، احد اعمدة أنظمة الحكم الديمقراطية . كما لا يفوتنا في هذا السياق التذكير بما عانته النخب الفكرية من قمع ونفي واعدامات من أجل تسييد قيم الديمقراطية والحداثة والمضامين الجديدة لنظرية العقد الاجتماعي التي تجعل من الشعب شريكا في العملية السياسية الديمقراطية . ويمكن الاستشهاد هنا بما عاناه جان جاك روسو من حيف وتهديد بالقتل من طرف الحكام ورجال الدين المسيحيين بأوروبا ،الذين اعتبروه محرضا للشعوب على حكامها ، و ملحدا، رغم كونه كان من أشد المعارضين للمتهجمين على المعتقدات الروحية ، كيف لا وهو القائل " لا علم بدون اخلاق و لا حضارة بدون ضمير". فعملوا على تهميشه ونفيه في أواخر سنوات عمره، ليموت ويدفن بعيدا ،في قرية نائية بفرنسا ،قبل أن تعترف به رجالات الثورة الفرنسية بعد عشرة سنوات من مماته ، ليعيدوا دفنه في مقبرة العظماء بباريس .هذا في الوقت الذين كان فيه رجال الدين المسيحيين، من أمثال أستاذنا ،يزكون الاستبداد والحكم المطلق ويعتبرون أن ما يحل بالشعب من فقر وأمراض ومجاعة هي قدر إلهي وعقاب الله لعباده عن ما يقترفون من خطيئة وخروج عن طاعة الحاكم.
أقول قولي هذا من اجل وضع كلام الأستاذ عبد الإله بن كيران في سياق ما راكمته الشعوب من تضحيات في سبيل إحقاق الديموقراطية والحرية ..وأن ما صرح به في كونه يدافع على الملك والملكية بالقول انه ضد الملكية البرلمانية، وأنه مع الملكية التنفيذية والتقريرية التي تتجسد في شعار الملك يسود ويحكم ، فهو بذلك يتماهى مع ما كان يصرح به رجال الدين المسيحيين في دفاعهم المستميت على نظام الحكم المطلق ، ولا اظنه بذلك يدافع عن الملكية أو الملك ونحن في القرن الواحدوالعشرين ، بل يدافع عن حقيقة تصوراته المذهبية والفكرية المنافية للديمقراطية والحداثة ،حتى وإن اعتمد هذه الاخيرة كالية تكتيكية وليس قناعة استراتيجية للوصول إلى السلطة من أجل توفير المزيد من الشروط للتحكم في مفاصل الدولة والمجتمع في انتظار ما يمكن أن تتطور اليه الاحداث، حتى يستظهر ما يبطنه في استراتيجيته التي هي ،استراتيجية الإسلام السياسي السني ،التي تروم الى اقامة دولة الخلافة على عموم البلاد الاسلامية في حدها الاقصى، وفي التحكم في مؤسسة العرش في حدها الادنى ، عندما تضعف هذه الاخيرة و تفقد شرعية وجودها، وينأى المجتمع عنها بعد.ان ينسب إليها كل الاخفاقات في تدبير السياسات العمومية ،وذلك بحكم المسؤولية السياسية للملك بصفته رئيسا للدولة ،حتى وهو غير خاضع للمحاسبة ،وهو ما يتنافى أيضا حتى مع الأنظمة الديموقراطية الرأسية .وبالتالي فدفاعه عن الملك بالشكل الذي يدعيه ،وفي القرن الواحد والعشرين بما تشهده شعوب العالم بصفة عامة والمغرب بصفة خاصة من تحولا ت عميقة ، ونزوع الى الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية ، لا يمكن اعتباره دفاعا عل العرش بل هو في عمقه يسعي الى اضعافه في افق تقويضه او احتواىه ، بعد ان يفقد المجتمع ثقته منه نهاىيا نتيجة ما يعيشه من احباطات متكررة ،واوضاع اقتصادية وسياسية صعبة ترخي بظلالها على فئاة اجتماعية واسعة والتي اصبحت في غالبيتها مدركة، حتى وان لم تعلنه علانية وبشكل جهور ، ان الملك بصفته رئيسا للدولة يتحمل القسط الوافر من المسؤولية حتى وان لم يكن خاضعا للمسائلة القانونية والدستورية ،وهو ما يمكن استنتاجه كذلك مما وصل اليه المجتمع من مراحل متطورة في وعيه الجمعي، الذي فقد الثقة في الوسائط والمؤسسات ،واصبح يتجه نحو رفع مطالبه للملك مباشرة بصفته رئيسا للدولة.
إذن وفي مثل هذه الأوضاع والظروف الدولية والوطنية، فأن من يريد ان يطور نظام حكمنا السياسي ،ولا اقول الدفاع عن العرش ،هو من يتجرأ بقول الحقيقة للحكام ، وتنبيههم الى ما هم عليه، وإلى ما يحيط بنا من أخطار تمس استقرارنا السياسي والاجتماعي، وأن لا خلاص الا بتوفير شروط الانتقال إلى الملكية البرلمانية كمدخل من مداخل الانتقال إلى الديمقراطية ،وليس الدفاع عن الحكم المطلق وما يصاحبه من فساد سياسي واقتصادي الذي يشكل سمة ملازمة لانظمة الحكم اللا ديمقراطية سواء كانت ملكية أو جمهورية والتي تشكل البيئة الحاضنة ل ترعرع كل انواع التفكير السلفي والخرافي .
كما ان الاستاذ بنكيران والرعيل الأول من جماعته ،حتى وإن أبدوا هذا الدفاع المشكوك فيه عن الملك والعرش، بحكم الوعد الذي قطعوه على أنفسهم أمام شيخهم الدكتور الخطيب في هذا الشأن. إلا أن لا ضمانة مع المنتسبين الى حزبهم من الشباب المتشبع بالفكر السلفي ومنهج النبوة ،الذين يكفرون الحاكم والمحكوم ،وكل من يخالفهم الرأي ،ويعتبرون أنفسهم في حلة من الوعد الذي قطعه أسلافهم من الرعيل الأول لحركة الإخوان المسلمين .
2/اليسار والمسألة الديمقراطية والملكية
صحيح أن اليسار بكل مكوناته قد عمل في مرحلة تاريخية الى احداث التغيير بالقوة ، ومنهم من تبنى نظرية العنف الثوري من اجل انجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية خاصة في أواخر الستينات ومرحلة السبعينيات من القرن الماضي ،التي كانت تشهد مدا واسعا للفكر اليساري ليس على مستوى المغرب فقط ، بل على مستوى العالم .وهي المرحلة كذلك التي عمد الملك الراحل الحسن الثاني من خلالها الى تعليق العمل بالمؤسسات الدستورية، ليتحول على اثرها الى الحاكم المطلق والمستبد بالشأن السياسي، مع كل ما رافق هذه المرحلة من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في حق معارضيه من التقدميين واليساريين .لكن وابتداء من اواخر السبعينات وحتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي التي اتسمت بانهيار حائط برلين وانهيار الكثير من الانظمة الاشتراكية عبر العالم ، عمد الكثير من اليساريين المغاربة الى احداث مراجعات فكرية تؤسس لفعل سياسي جديد يقطع مع العنف الثوري كالية لحسم السلطة، ويتبنى النضال الديمقراطي الجماهيري عبر ما يتيحه ما سمي آنذاك ب الهامش الديمقراطي الذي اتى نتيجة للتضحيات التي قدمها المجتمع المغربي وفاعليه السياسيين من وسط واقصى اليسار ، وليس الإسلاميين أمثال الأستاذ عبد الاله بنكيران ، الذي كان يضع وجماعته حينها يده في يد وزارة الداخلية ويقدم فروض الطاعه والولاء ،والتعبير عن استعداد جماعته لوأد اليسار من الشارع واجتثاثه من الجامعات كما ورد في رسالته الشهيرة لوزير الداخلية المرحوم ادريس البصري سنة 1986 . بالاضافة الى الوضع المأزوم الذي وصل إليه نظام الحكم في المغرب وما شهده من عزلة داخلية وخارجية توجت بمحاولتين انقلابيتين في ظرف سنة واحدة ، يمكن إضافة كذلك التطورات الماساوية التي شهدتها الأقاليم الصحراوية .. كل هذا ادى بالملك الراحل الى إطلاق ما سمي آنذاك بالمسلسل الديموقراطي والاجماع الوطني، إيذانا بعودة المؤسسات الدستورية في أواسط السبعينات من القرن الماضي .
وقد توجت هذه المراجعات السياسية في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات بنقاشات حادة بين صفوف أغلب مكونات اليسار حول المسألة الديمقراطية التي تم اعتبارها خيارا استراتيجيا ،واعتبار المرحلة مرحلة للنضال من أجل الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ،وبالتالي تبني الدفاع عن مجموع القيم الانسانية التي تجد أصولها الفكرية والفلسفية في أنظمة الحكم الليبرالية والراسمالية دون أن يغفل اليسار عن جوهر مرجعيته التي تحازب الفئات الشعبية المتضررة في المجتمع .
وفي سياق تبني القوى التقدمية واليسارية لاستراتيجية النضال من أجل الديموقراطية ،كان لا بد من تغيير الموقف من المؤسسة الملكية بالنسبة للكثير من مكونات اليسار في اتجاه تبني موقف الملكية البرلمانية بديلا للملكية المطلقة ، كمدخل من مداخل الانتقال إلى الديموقراطية وتطويرا لها ،وليس دفاعا عنها ، بما ينسجم ومطالب الشعب المغربي في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية .وذلك بعد أن اقتنع غالبية اليساريين المغاربة كون الديمقراطية كآلية للحكم والسلطة ،ليست بالضرورة صفة ملازمة لنظام الحكم الجمهوري ، كما الاستبداد ليس بالضرورة صفة ملازمة لنظام الحكم الملكي.
إذن فمطلب الملكية البرلمانية عند اليساريين المغاربة هو نتيجة صيرورة تاريخية من التضحيات والمراجعات الفكرية والسياسية ، تهدف إلى تطوير نظام حكمنا السياسي بما ينسجم ومتطلبات التغيير الديموقراطي، وليس تهجما على العرش و الملك ،أو دفاعا عنهما ،كما يروج الاستاذ عبد الالاه بنكيران وجماعته.
3/اليسار والموقف من الوحدة الترابية
مما يجدر الاشارة اليه في هذا الصدد، كون أن اليسار الجديد ،و في مرحلة الصراع العنيف مع الملكية والنظام السياسي المغربي الذي كان قد علق العمل بجميع المؤسسات الدستورية، و أعلن حالة الاستثناء التي مارس من خلالها ابشع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في حق معارضيه ،وخاصة اليساريين منهم ، يبرز مشكل جهة الصحراء الغربية التي كانت لا تزال تحت الاحتلال الإسباني ، والذي تصدر مواجهته ثلة من المناضلين الصحراويين الذين كانوا يدرسون في الجامعات والمعاهد المغربية ، وكان بعضهم ضمن صفوف مناضلي اليسار الجديد ،الذي كان في نفس الأن يشهد مدا جماهيريا واسعا ،خاصة في الحقل الطلابي . فكان موقف اليسار الجديد من قضية الصحراء موقفا انفعاليا أكثر مما هو عقلاني ومفكر فيه ،وأن مساندته لجبهة البوليساريو في مراحل معينة لم يكن موقفا استراتيجيا يروم الى فصل الصحراء عن عمقها المغربي ، بقدر ما كان موقفا تكتيكيا يروم إلى تأسيس بؤرة ثورية في الجنوب لتشكل قاعدة خلفية في مواجهة النظام السياسي . وهو الموقف الذي أملته ظروف المرحلة وما كانت تشهده من صراع مرير مع نظام الحكم وما يتسم به من استبداد. لكن وفي إطار تطور عملية الصراع السياسي في المغرب ، والمراجعات السياسية التي أقدمت عليها جل مكونات اليسار في شأن نظام الحكم والمسألة الديموقراطية، كان من الطبيعي أن يطور اليسار موقفه من قضية الصحراء ،وكان من رواد المنتقدين لانفراد الدولة في تدبير هذا الملف في إطار موقف هلامي قائم على مغربية الصحراء . وهو الموقف الذي لا يستحضر التعقيدات التي أوصلته الدولة إليها بتدبيرها السيء لهذا الملف ،وبعد أن أصبح متداولا بين اروقة الامم المتحدة . فكان أول من عبر عن موقف مغاير ومتقدم في شأن هذه القضية ، هي حركة الديمقراطيين المستقلين عندما طالبت في صيف 1997 بالحل السياسي المتفاوض عليه على أساس لا غالب ولا مغلوب ،وبما يضمن حق الأقاليم الصحراوية في الحكم الذاتي في إطار جهوية سياسية تشمل باقي الجهات التاريخية في المغرب، وبما يخدم بناء وحدة المغرب الكبير.وهو الموقف الذي تبناه المؤتمر الاندماجي لليسار الاشتراكي الموحد المنعقد بالدار البيضاء في سنة 2000 بعد أن أجريت عليه بعض التعديلات من طرف باقي المكونات الاخرى وخاصة منظمة العمل الديموقراطي الشعبي .كما طورت بعض مكونات اليسار الاخرى كذلك موقفها من هذه القضية مطالبة بالحل السلمي المتفاوض عليه .هذا دون أن نغفل أن اليسار كان دائما في أدبياته يطالب بتحرير ما تبقى من الثغور المحتلة.
اذن فموقف اليسار تاريخيا من الوحدة الترابية هو موقف ثابت ، حتى وإن خضع في مراحل تاريخية معينة لحسابات تكتيكية أملتها ظروف الصراع العنيف مع نظام الحكم، ولا مكان للمزايدة عليه في هذا المجال من طرف الأستاذ عبد الإله بنكيران وجماعته، الذي ابدى عجزه حتى في إبداء الرأي في هذه القضية، عندما اقترح الملك محمد السادس صيغة الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية سنة 2003 وطالب الأحزاب بتقديم مقترحاتهم في هذا الشأن.
خلاصة
اذن فالاستاذ بنكيران مع كل احتراماتي له , لا يدافع عن الملكية ولا على على الملك، بل يدافع عن مبررات وجود جماعته ومرجعيتها المنافية لقيم الديمقراطية والحرية، والتي لا يمكن أن تستمر وتتقوى الا في اطار نظام حكم شمولي يستمد مشروعية حكمه من الله ومن أهل البيت ،الذي ،ينتسب هو ايضا اليهم حسب تعبيره ، مما يجعله وريثا شرعيا للحاكم باسم الله ، وليس من الشعب الذي يجب أن يبقى ضمن إطار الرعية التي عليها واجب الطاعة للحاكم والمرشد أو الفقيه . وما تهجمه على اليسار واتهامه بالكفر والإلحاد وخيانة الوطن ، سوى محاولة يائسة لإظهار ولاء زائف، على حساب تضحيات اليسار من أجل مغرب حر ديمقراطي ومتعدد يقر بالحريات بما فيها حرية المعتقد وحق ممارسة الشعائر الدينية للمغاربة، مع التنصيص على فصل الشأن الديني عن الشأن السياسي ،حتى لا يترك المجال مفتوحا لاستاذنا الجليل وجماعته، اوغيره من السلفيين في التوظيف السياسي لموروثنا الروحي و الديني ، و اقحامه في الصراعات والأمور السياسية التي هي شأن دنيوي .وحتى لا يتحول هذا الارث الروحي والديني المشترك بخصوصياته المغربية الى مجال للمنازعات المذهبية والطائفية.
طنجة في 19 يناير 2019


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.