عودنا حدث الدخول المدرسي على إعادة طرح وتحيين الأسئلة الكبرى التي تهم وظيفة المدرسة ورهانات الاصلاح التربوي الذي تحول إلى سلسلة إصلاحات غير متناهية وغير قادرة على تحقيق القفزة النوعية لتجديد المدرسة بشكل فعلي و صحيح. وبالنسبة للدخول المدرسي لهذا الموسم 2019/2018 فقد قررت الوزارة اختيار شعار مدرسة المواطنة وهو شعار ذو أبعاد ودلالات كبيرة مما يدفعنا إلى إعادة مساءلة واقعنا التربوي والبحث عن المسافة التي تفصل التدبير التربوي والفعل التربوي على حد سواء من التربية على المواطنة كما هو متعارف عليها وفق المرجعية الدولية كما سنرى في هذه الورقة بالذات . وفي سياق التحولات الكبرى التي تعرفها الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والاعلامية على المستوى الاقليمي او الوطني، وما أفرزته تلك التحولات من تنامي وتضخم موقع الشباب وثقله في البنية الاجتماعية لتركيبة المجتمع ، ليس فحسب من وجهة نظر الديموغرافية، بل بثقله الاجتماعي على وضعية سوق الشغل التي أصبحت جد حرجة في ظل فشل وتراجع أدوار الجامعة والمدرسة العمومية على حد سواء، في المساهمة بشكل فعال في تحقيق النمو الاجتماعي والاقتصادي، وذلك ما أكدته مختلف التقارير الدولية أو الوطنية ، بل أكثر من ذلك، تحولت منظومة التربية والتكوين الى آلة لصناعة البطالة وأجيال من العاطلين عن العمل، يعتبرهم سوق الشغل فاقدين للمؤهلات العلمية والتقنية والمهنية لولوج مناصب التشغيل داخل المقاولات الوطنية أو الدولية أو حتى الدخول إلى الوظيفة العمومية التي تراجعت قدرتها على امتصاص نسب مهمة من الخرجين الجامعيين بالقياس الى تزايد العدد الهائل منهم كل سنة . وهنا قد يتساءل سائل عن موقع سؤال المواطنة وعلاقته بالدخول المدرسي، وهذا ما تهدف إليه هذه الورقة التقديمية التي ليس غرضها عرض أجوبة جاهزة ،بقدر ما هو دعوة القائمين على صناعة القرار السياسي و تدبير القرار التربوي الاستراتيجي الى إعادة التفكير بعمق في وظيفة المدرسة و مساهمتها في التنمية البشرية في علاقتها مع واجب الدولة بصفتها صاحبة التزامات قانونية ودولية إقرار اختيارات تجمع بين توازن إمكانياتها الاقتصادية والمالية والتزاماتها الدولية في مجال حقوق الانسان وحقوق الطفل على وجه الخصوص، ذلك أنه يستحيل فصل التربية على المواطنة عن التربية على حقوق الانسان، بل يمكن الحسم منذ البداية أنهما يشكلان وجهان لعملة واحدة وجب الوعي العميق بأهميتهما لصناعة القرار التربوي الصائب الذي يعيد المكان اللائق لوظيفة المدرسة كمؤسسة اجتماعية مركزية في تكوين وتربية وتنشئة الاجيال تربية متكاملة، تجمع بين مشارب العلوم والآداب والفلسفة والفن والتكنولوجيات الحديثة بروح بيداغوجية تتغذى من مرجعية كونية تساهم في بناء المواطنة الفاعلة والمنصفة تضمن الشعور بالانتماء الى الوطن والانخراط في بناءه وتطويره في اطار تضامن يحقق التماسك الاجتماعي والسلم ويفتح آفاق التنمية البشرية لرفع التحديات الكبيرة التي تواجه الدولة و تشكل مسؤولية جسيمة على القائمين على تدبير السياسي السياسات العمومية بشكل عام . وبالعودة الى صلب السؤال :إلى أي حد تساهم المدرسة في التربية على المواطنة ؟ وما هي الأسباب الكامنة في تنامي مظاهر سلبية حاطة من السلوك المدني تخدش صورة الفضاء العام مثل تنامي الفقر والاقصاء والعنف والتحرش بمختلف أشكاله وانتشار الرشوة والفساد الاداري وتنامي ظاهرة استغلال الأطفال في التسول والتعصب الديني ونبذ المهاجرين والهدر المدرسي و تراجع المشاركة السياسية للشباب هذه كلها أسئلة كثيرة وكثيرة جدا لا يجب ان نغض النظر عنها، كأن الاوضاع كلها بخير. ولتقديم أجوبة أولية أشير هنا إلى الدراسة التي شملت تقييم تجربة التربية على حقوق الانسان والمواطنة، التي قام بها المجلس الأعلى للتعليم والتي نشرت في تقريره سنة 2008 حيث خلصت النتائج بالمجمل إلى ما يلي : عدم تمكن مشروع "التربية على المواطنة وحقوق الانسان" الذي تم إنجازه في إطار شراكة بين وزارة حقوق الانسان ووزارة التربية الوطنية من تحقيق أهدافه بشكل مرض بسب مجموعة من الاختلالات تتوزع على مستويات عدة : مستوى التصور و منهجية التنزيل والأادوات التربوية وكذلك مستوى التكوين والاقتصار على مواد بذاتها وتغييب مواد أخرى والمناخ العام المرتبط بضعف التحسيس و التدبير واشراك الفاعلين والتلاميذ و وتغييب مشاريع المؤسسة لروح التربية على المواطنة وحقوق الانسان وغير ذلك من أسباب مما جعل الموضوع يظل دينا وطنيا على وظيفة المدرسة لم يتم استخلاصه بعد. و لا بأس في سياق هذا التحليل التذكير بالتعريف الذي يقدمه مجلس اوروبا حيث يعرف التربية على المواطنة كما يلي : «التربية من أجل المواطنة الديمقراطية" l'éducation à la citoyenneté démocratique يغطي التعليم والتدريب والوعي والمعلومات والممارسات والأنشطة التي تهدف إلى تزويد المتعلمين بالمعرفة والمهارات والفهم ، وتطوير مواقفهم ومهاراتهم و سلوكهم ، لتمكينهم من ممارسة حقوقهم ومسؤولياتهم الديمقراطية في المجتمع والدفاع عنها ، لتقدير التنوع ولعب دور نشط في الحياة الديمقراطية ، من أجل تعزيز وحماية الديمقراطية وسيادة القانون. وعليه فانه يتضح جليا أن مفهوم المواطنة هو تعلم دائم وسيرورة تربوية طويلة تجمع بين النظرية والممارسة وهي المفتاح الأساسي لتربية مواطنين واعين بحقوقهم وواجباتهم نحو ذواتهم و نحو الآخرين و الوطن ككل، وإن الحكمة السياسية التي تضمن تقدم الأمم هي تلك الاختيارات التي تجعل المواطن في صلب سياسته العمومية وهو الرافعة الاساسية لكل تنمية حقيقية وهذا ما برهنت عليه تجارب كل الدول الديمقراطية التي جعلت من حقوق الانسان العصب الرئيسي لكل سياسة عمومية مما مكنها من خلق تماسك اجتماعي حول قيم حداثية تجعل من الفرد اللبنة الأساسية لكل مشروع مهما اختلفت مضامينه وأهدافه . وعليه فاذا كنا في العام الرابع من مشروع الرؤية الاستراتيجية 2030/2015 يطرح السؤال مجددا :إلى أي حد استطاعت وزارة التربية الوطنية ترجمة روح الدستور الجديد في بعده الحقوقي على أرض الواقع الدراسي وهل سيمكن القانون الاطار الذي صودق عليه مؤخرا لتحقيق القفزة النوعية التي ستمكن المدرسة المغربية من تجديد ذاتها وتمكين الأجيال الحاضرة والقادمة من الفوز بروح الانصاف في مسارهم التربوي ؟ ذلك أنه بدون هذه الرافعة ستكرر أخطاء الماضي لتبقى الاصلاحات مجرد وصفات تقنية وإدارية بدون أي أثر فعلي وحقيقي على واقع حاضر ومستقبل الأجيال . إن بناء مدرسة المواطنة هو مشروع استراتيجي ضخم ، يحتاج الى توسيع المجهودات التي تبذلها الوزارة في العديد من المجالات: كمساهمة أندية التربية على المواطنة والمراكز الاقليمية للوقاية ومناهضة العنف بالوسط المدرسي وخلايا الإنصات والوساطة والتوجيه بالمؤسسات التعليمية الى مشروع متكامل حيث يمكن أن يلهمنا نموذج "مجلس أوروبا" الذي أنجز عملا رائدا في هذا المجال ، للعمل على مراجعة عدة مستويات لاتخاذ إجراءات جديدة تتعلق بالسياسات التعليمية و التشريعات المدرسية والتدبير الإداري والمناهج الدراسية والكتب المدرسية و الحياة المدرسية لوضع أسس مدرسة المواطنة بشكل متين وصلب يعطي معناها الحقيقي.