مع بداية عصر النهضة الأوروبية عرفت وظائف المدرسة نقلة نوعية حيث انكب البحث التربوي على وضع أسس أنظمة التربية والتكوين انطلاقا من متطلبات الثورة الصناعية وحاجة المجتمع المتطلع إلى تنمية اجتماعية واقتصادية. شكل هذا بداية مهمة لكي تتخلص الأنظمة التربوية من نزعتها المحافظة والحذرة من التجديد التي ميزتها لقرون طويلة.ويمكنا القول أن الثورة التكنولوجية تسلحت ب"ثورة الأنظمة التربوية" إن صح هذا التعبير. إن الإصلاحات التي تعرفها منظومتنا التربوية ،انطلقت من كون المدرسة رافعة أساسية لتنمية الفرد والمجتمع .كما يستمد التجديد التربوي مشروعيته من التحديات الوطنية والدولية التي بات على المدرسة رفعها عن طريق تأهيل العنصر البشري،ومنحه فرصا متعددة للإندماج داخل المجتمع باعتباره مواطنا قادرا على التعلم مدى الحياة . لقد أصبح تطويرأنظمة التربية والتكوين تحديا مزمنا لصانعي السياسات التعليمية في عالم متغير إذ تظهر حاجات جديدة وتختفي أخرى وتصبح المناهج والبرامج مهددة بالتقادم والتجاوز في زمن قياسي.كل ذلك يستدعي أن تصبح المدرسة فضاءا لتطوير كفايات ترافق المتعلم مدى الحياة ، بدل أن تبقى أسيرة محتويات بدون معنى تلقن بالإكراه والعقاب لمتعلمين لايستطيعون توظيفها خارج جدران الفصل الدراسي. إنه خيار يجعل المدرسة قادرة على مواكبه ودعم التحولات التي يعرفها المغرب في المجال الإقتصادي والسياسي والإجتماعي .كما أنه منحى بإمكانه أن يجعل مؤسسات التربية والتعليم في الصف الأول لمواجهة تحديات العولمة الإقتصادية والإجتماعية التي تضغط بشدة على المدرسة لتغير وظائفها التقليدية. لقد ولى عهد المسار الوظيفي المستقر التي كان يتوج التخرج من الجامعات والمعاهد، على حد تعبير عالم الإجتماع مصطفى حجازي الذي وصف فيها أن ًالعمل في المستقبل سيكون أقرب إلى السفر في مترو الأنفاق ، حيث يتعين النزول في محطة والتحول إلى خط سير آخرً مما يستدعي بالضرورة امتلاك الفرد القدرة المستمرة على إعادة التدريب و التأهيل وهي من ضمن الكفايات الجديدة لمتطلبات العولمةو يصطلح عليها ب ًاللياقة التكيفية ً .وعليه فلم يعد كافيا أن نربط الإصلاح التربوي بمواكبة المدرسة لحاجيات سوق الشغل ، حيث يؤكد الخبرا ء أن نصف المهن المستقبلية المحتمل ظهورها في زمن قياسي قد لايتجاوز بضعة عقود لانعرف عنها شيئا اليوم . وعليه لايمكن للمدرسة المغربية أن تركن إلى هدوءها المعتاد وإن فعلت فسيكون مصير أجيالنا كمصير أهل الكهف الذين خرجوا بعد رقدتهم الطويلة إلى عالم لم يفهموه ففضلوا الرحيل إلى الأبد . تكمن قوة الإصلاح البيداغوجي الذي تعيشة المدرسة المغربية عبرمدخل المقاربة بالكفايات في كونه يجعل المتعلم في وضعية نشاط وإنتاج دائمتين يكتسب من خلالها المعارف والمهارات والقيم كل ذلك وهو متمتع بحقوقه المرتبطة بقدراته وميوله وحاجاته النفسية والجسدية المتعلقة بمراحل نموه ومحيطه الإجتماعي . إنها شروط جوهرية لتحسين جودة مناخ التعلم لكي يصبح متعلم اليوم /مواطن الغد قادراعلى الإندماج في محيطه الإقتصادي كمواطن مبادر ومنتج محافظا على توازنة النفسي والإجتماعي بفضل الكفايات التي اكتسبها خلال مساره التعلمي. لكن رغم دخول مشاريع المخطط الإستعجالي حيز التطبيق منذ سنتين فإن المدرسة العمومية تصحو كل يوم لتجد نفسها أقل جاذبية بالنسبة للمواطن البسيط الذي يظطر للزهد فيها، في البوادي النائية ماتزال مغادرة الصفوف الدراسية قبل الأوان واقعا لايمكن تجاهله و في المدن الكبيرة يقتسم الموظف البسيط راتبه الشهري مع المؤسسات التعليمية الخصوصية .حقيقة بشعة لايمكن التستر عليها بالتقارير المنتظمة لمؤشرات ازدهار المدرسة العمومية ، حيث تصبح الأرقام أصدق لغة لممارسة الكذب ....ورغم الحركية التي عرفتها المؤسسات التعليمية العمومية بفضل تنزيل مشاريع المخطط الإستعجالي فإن تلك المشاريع توشك أن تتحول إلى هدف في حد ذاتها بينما هي وسيلة لمنتوج وحيد قابل للقياس بقوة وبدون غموض وهو ثقة المواطنين في المدرسة العمومية ..فهل تحققت هذه الثقة .؟.هل يئتمن المغاربة المدرسة العمومية على مستقبل أبنائهم بكل تلقائية ؟ هل تنتابهم الشكوك والمخاوف وهم يودعون فلذات أكبادهم هذا المرفق العمومي الذي يبتلع مليارات السنتيمات من المال العام ؟ فالمدرسة العمومية ليست مجانيةكما يشاع بل إن المواطنين يدفعون لها من خبزهم اليومي .. لايستطيع أحد أن يصدق مثلا أن مدرسة عمومية ابتدائية تحتضن أكثر من 1500 تلميذ وتلميذة ينجح في تدبير شؤونها التربوية والإدارية والمالية والإجتماعية مدير تربوي دون طاقم إداري مساعد متخصص ،رغم سيل من المذكرات والنصوص التنظيمية التي لا تجد سبيلا إلى تحويلها لواقع ملموس من أجل الإرتقاء بأدوار الإدارة التربوية كنقطة ارتكاز أساسية للرفع من مردودرية وجودة خدمات المؤسسات التعليمية . وما تزال المدرسة الإبتدائية عملياعلى حالها فيما يخص الإدارة التربوية منذ عهد الحماية:مدير وحارس بل حتى هذا الأخير تفتقد إليه بعض المؤسسات بعد الإنجاز الرائد لمشروع المغادرة الطوعية ... . ! فبريق الحواسيب و صخب الأيام التكوينية لفائدة المديرين والمديرات لايغير من الحقيقة شيئا ، لقد تحول هؤلاء إلى أسرى بين يدي الوثائق والتقارير والجداول والشبكات الرقمية وهلم جرا من الأعمال المكتبية الصرفة التي تقتل آدائهم البيداغوجي . لن نتحدث عن مدير تربوي يتيم لمجموعة مدرسية بوحدات متعددة حيث يتحول إلى مجرد ساع للبريد ...أما ما يسمى بالتدبير التشاركي للمؤسسات التعليمية بين الإدارة ومجالس المؤسسة المكونة من هيئة التدريس فإن التنظيمات البيداغوجية والإيقاعات الزمنية المعمول بها وغموض المساطر لاتسمح بتاتا للمدرسين بممارسة مهام أخرى خارج فصولهم الدراسية إلامن باب التطوع الذي لايخول للمدرس أية ضمانات قانونية في غياب توصيف دقيق لمهام المدرس . وإذا كان تفعيل الإصلاح التربوي رهين بتغيير ثقافتنا التربوية وممارساتنا المهنية المقاومة للتغيير فإنه أيضا رهين بتدبيرنا لهذا الإصلاح من حيث تسطير أولوياته التي لن تكون سوى الإستهداف المباشر والمكثف للفصل الدراسي الذي مازال في حاجة ملحة للشروط الضامنة لتنزيل الإصلاح روحا ونصا ..فالتنزيل الميكانيكي المثقل بالهواجس الإدارية والتنظيمية وتدبيج التقارير لن يخلق مدرسة مفعمة بالحياة ..بقدرما يخدر وعينا كي لانرى الحقيقة البسيطة: لانحتاج لمكتب الدراسات كي نعرف أن المتعلم الذي خرجت أستاذته في رخصة للولادة دون أن تعوض يتعرض للهدر المدرسي لأن زمنه المدرسي يصبح في خبر كان بسبب النقص الحاد في الأطر الإحتياطية . لقد أصبح ضم الأقسام" خيارا ستراتيجيا " يتكرر كل سنة للتغلب على معضلة شائكة ومؤلمة تشكو منها المنظومة التربوية ، التوظيف المباشر بدون تكوين أساسي في مجال التربية في ظل النقص الحاد للمشرفين التربويين خيار آخر لايقل خطورة عن سابقه، المتعلم الذي برمجت له حصصا خارج القاعة الدراسية لتنويع طرق التدريس خصمت من زمنه المدرسي لأن مؤسسته التعليمية لاتتوفر على البنية الملائمة لتطبيق هذا الإجراء البيداغوجي الفوقي الذي يضرب في الصميم اللامركزية كأحد الإصلاحات الجوهرية في منظومة التربية والتعليم التي شددت عليها كل تقارير المجلس الأعلى للتعليم وماتزال المذكرة 122الصادرة بتاريخ 31غشت 2009 في موضوع تدبير الزمن المدرسي بالسلك الإبتدائي تقض مضاجع المدرسين والمفتشين وأسر المتعلمين على السواء مع بداية كل موسم دراسي إلى يومنا هذا .....وهام جرا من التفاصيل اليومية الصغيرة التي يكمن فيها الشيطان وتنخر منظومتنا في صمت رهيب وحدهم المرابطون والمرابطات داخل الفصول الدراسية قادرون على الإحساس بألمها الذي لايسكن أبدا .. إنها تفاصيل صغيرة لاتكاد تثارأمام الضجيج الإعلامي الذي يصر على أن قاطرة المدرسة المغربية تخلصت من كل أعطابها المتراكمة عبر خمسين سنة بفضل دواء فعال رصد له 40 مليار سنتيم لكن الرتبة المتدنية التي حصل عليها المغرب في مؤشرتطور التعليم حيث احتل الرتبة 106من ضمن 128 بلدا تجيب عن كل الإسئلة المظلمة حول التفاصيل الصغيرة التي أثرنا بعضا منها . إنها تفاصيل تخفي وراءها غياب الشرط السياسي و الشرط الديمقراطي لتدبير ملف التعليم وهنا ينتصب سؤال الحكامة الذي دبج فيه تقرير المجلس الأعلى للتعليم/ 2008 سطورا ماتزال مضامينها لم تقرأ بعد رغم أن المخطط الإستعجالي خصص للحكامة مشروعا قائما بذاته ضمن مشاريع المجال الثالت المرتبط بمواجهة الإشكالات الأفقية لمنظومة التربية والتعليم .... لاتعني الحكامة في مجملها سوى الشفافية و الإشتغال في النوروالوضوح بالنسبة للمكلفين بالشأن العام من أجل محاسبتم ومساءلتهم عن الحصيلة والنتائج ومساعدتهم أيضا قبل ذلك ،ففي هذا الوطن طاقات يطالها التهميش لأسباب قد ترتبط بكل شيئ ماعدا المصلحة العامة .... إن الإنصات المباشر إلى نبض المنظومة التربوية في مفاصلها الحساسة :المدرس والمتعلم هو الكفيل بربح رهان التجديد التربوي الذي انخرطت في بلادنا من هنا يبدأالإصلاح الذي ينتظرواقفا أمام أبواب المدرسة العمومية فمن يسمح له بالعبور من أجل مغرب جدير بأبنائه...؟ *مفتشة في التعليم