على هامش ردود الأفعال الواسعة التي أعقبت صدور الأحكام من لدن استئنافية الدارالبيضاء في حق معتقلي حراك الريف المرحلين إلى "عكاشة" والتي وصلت إلى 20 سنة سجناً نافذاً، خرج حكيم الوردي نائب الوكيل العام للملك لدى استئنافية البيضاء، و ممثل النيابة العامة في ملف معتقلي الريف، بمقال يُعالج فيه ردود الأفعال هذه، ويرد عليها بطريقته الخاصة، وفيما يلي نص المقال الذي كتبه الوردي: “أزمة تلقي العدالة.. دروس بيداغوجية” شكل التمثل الفلسفي العميق للعدالة كما جسده سقراط وهو يتجرع السم احتراما لقرار المحكمة، فلتة تاريخية نادرة في تاريخ الإنسانية الموسوم بالتوجس والتبرم من أحكام القضاء، لذلك سرعان ما اهتدت القوانين الجنائية في مختلف الأنظمة الديمقراطية إلى أنه لا سبيل لفرض الاحترام النسبي للأحكام القضائية إلا بتجريم تحقيرها، دون أن يعني ذلك تقديسها ومصادرة الحق في مناقشتها أو انتقادها، متى انضبطت المناقشة للصرامة العلمية، بما تفرضه من وجوب الاطلاع على حيثياتها وأسانيدها ومقاربتها داخل بنية إنتاجها، وسوق الدليل المقبول قانونا على فساد عللها، وهي حتما مهمة نخبوية لا تبوح بكامل أسرارها لغير العارفين بالمساطر القضائية. التي تظل – للأسف – بحكم طبيعتها التقنية المعقدة عصية الفهم على العامة. لا يعد الأمر قدرا محتوما على مجتمعات التخلف التاريخي التي يكبلها الجهل وتنخرها الأمية، ولكنها ظاهرة كونية حتى لدى الدول مضرب المثال في الرفاه والديمقراطية. ف 91 % من الفرنسيين مثلا يعتبرون النظام القضائي صعب الفهم، و 61% يرون أن القضاة ليسوا بالصرامة المطلوبة، و 54% يحملون صورة سيئة على القضاة وأحكامهم ( نتائج استطلاع للرأي أجرته مؤسسة IPJ منشور بالموقع الالكتروني لجريدة لوفيغارو الفرنسية بتاريخ 03/03/2014). في الدول التي تحترم حرية الرأي والتعبير قلما يتم اللجوء إلى المقاربة الزجرية لقمع الانزلاقات العاطفية الماسة بالاحترام الواجب للقرارات القضائية، لاعتبارات متعددة لعل أهمها التماس العذر للجهل المتنامي بميكانيزمات صناعة الأحكام، وتسامي القضاة بحكم طبيعتهم الرصينة والمحافظة عن الجدال السياسوي والنأي عن التجاذبات المجتمعية، وتكوينهم القانوني الصارم الذي لا ينال منه انفلات مشاعر الجماهير من عقالها، فحكم القاضي المكتوب هو عنوان الحقيقة التي نطق بها طبقا للقانون داخل قاعة المحكمة ( للوقوف على مستويات وآليات قراءة الحكم القضائي يرجى الرجوع إلى أشغال الندوة المنشورة ب Cahiers philosophiques, « Le travail du juge », 147, 2016 ). لذلك مثلا لم يتأثر قضاة محكمة PAMPELUNE الاسبانية في أبريل 2017 بعريضة وقعها أكثر من مليون ونصف اسباني وبالمسيرات التي شارك فيها أكثر من 100 ألف شخص ولمدة 3 أيام احتجاجا على حكم اعتبر مخففا قضى بالسجن النافذ لتسع سنوات وغرامة 50 ألف أورو لكل واحد من الشبان الخمسة من أجل ممارسة الجنس على فتاة ( 18 سنة ) معاقة ذهنيا وتصويرها بهواتفهم النقالة وتحميل الفيديو على الواتساب تحت عنوان ” قطيع الذئاب”، استأنفت النيابة العامة الحكم، وسارعت حكومة المحافظين بقيادة ماريانو راخوي إلى إعلان شروعها في دراسة إمكانيات تعديل القانون الجنائي. وبقدر ما تتجذر ثقافة احترام السلطة القضائية داخل المجتمع بقدر ما تزداد الغيرة والحرص على التعاطي بصرامة مع أي مساس بها. تقدم فرنسا الأنوار نموذجا مثاليا على ذلك، ففي 12 أكتوبر 2016 حرك وكيل الجمهورية لدى المحكمة الابتدائية بباريس الدعوى العمومية في مواجهة المسؤولين عن 3 منظمات حقوقية ( عصبة حقوق الانسان /LDH، جمعية إعلام ودعم المهاجرين GISTI، ونقابة القضاة SM ). من أجل تحقير قرار صدر عن استئنافية باريس في مارس 2015 رفض اعتبار متهم مالي الجنسية حدثا في وضعية صعبة بعلة أن هيئته الظاهرة لا تسعف في الجزم بأنه قاصر. اعتبرت التنظيمات الحقوقية المذكورة أن المحكمة لم تتجرد فقط من كل حس إنساني ولكنها أجهضت القانون. وفي الوقت الذي تشبت الدفاع بكون عبارات البيان هي تعليق معلل على الحكم، نحت النيابة العامة إلى تجريم عباراته لخلوها من أية نفحة علمية أو مناقشة تقنية، مما يجعلها محض تحقير للقضاء يقتضي المؤاخذة، وللدلالة البيداغوجية للمتابعة اكتفت بالمطالبة ب 2000 أورو كغرامة عقب الإدانة. إن مناقشة حدود النقد المباح غير المتخصص للأحكام القضائية، وتخوم حرية التعبير في مواجهة الاحترام اللازم للقضاة وأحكامهم، هو بالجزم إشكالية حقيقية حتى في الأنظمة التي تُصَدر قيم الحداثة والديمقراطية. فبمجرد تحريك الدعوى العمومية تصبح ملكا للمجتمع فيتتبع إعلاميا مجرياتها ويتفاعل عاطفيا مع شخوصها إلى الحد الذي يعتقد معه أنه يملك شرعية الحكم الصائب على الأحكام الصادرة في موضوعها. إن ترسيم استقلالية السلطة القضائية بتقاليد عريقة في الممارسة لم يمنع القضاء الفرنسي من الدخول في مواجهة تصحيحية بالبيانات الصحافية والأحكام القانونية من أجل التصدي للإهانات التي يتعرض لها بين الفينة والأخرى لاسيما من بعض رجالات السياسة. ففي مارس 2013 أحالت النيابة العامة بابتدائية باريس الكبرى السيد HENRI GUANIO البرلماني عن حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية UMP ومستشار الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي على الغرفة 17 بالمحكمة الجنحية من أجل إهانة القضاء وتحقير مقرر قضائي، بناء على الشكاية التي تقدم بها اتحاد نقابات القضاة USM ( النقابة الأكثر تمثيلية ) في مواجهته إثر التصريحات الصحافية العديدة التي أدلى بها معتبرا المتابعة التي حركها قاضي التحقيق Jean Michel Gentil في مواجهة ساركوزي في ملف مالكة شركة التجميل لوريال Bettencourt بمثابة إهانة لفرنسا وعار على جبين القضاء. تسمح قراءة الاجتهاد القضائي بتكوين فكرة عن حدود التماس بين النقد المباح للأحكام وبين تحقيرها وإهانة سلطة إصدارها. ويكفي الاطلاع على مدونة دالوز الجنائية الفرنسية وهي توثق الأحكام تعليقا على المادة 434-25 ( الذي يعاقب على إهانة القضاء وتحقير قراراته) للوقوف على التطور التاريخي لجنحة الإهانة، ففي قرار يعود إلى سنة 1855 اعتبرت محكمة النقض الفرنسية إهانةً التعجب الاستنكاري الذي أبداه شخص في مواجهة القاضي عقب إصدار الحكم بالقول ” “Voilà un jugement qui mérite d'être encadré”»، ” وفي سنة 1964 اعتبرت إهانة وصف قرار قضائي بأنه: «chef-d'œuvre d'incohérence, d'extravagance et d'abus de droit»” أو وصف عمل القضاة بأنه «le sale boulot de chiens de garde et de valets serviles du capitalisme» ، كما أيدت سنة 2007 إدانة وزير الخارجية الأسبق Roland Dumas الذي كتب ناعتا ممثل النيابة العامة في قضية ELF بأنه كان ينبغي أن يمارس عمله في محاكم الاحتلال. وحتى المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان ألحت في قرار يعود إلى 2010 على وجوب توفير الحماية القضاة من الهجمات والانتقادات الخالية من أسانيد جدية. لقد بات جليا أن تزايد منسوب الاحتجاج ضد العدالة لا يمكن مقاربته دائما وفقا آليات القانون الجنائي، وإنما ينبغي أن يعالج بأساليب بيداغوجية تروم التذكير بقيم الدولة الديمقراطية القائمة على احترام السلطة القضائية مهما بلغت درجة الاختلاف مع أحكامها. بهذه الخلفية أصدر قضاة فرنسا (الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للملك لديها الرؤساء الأولون لمحاكم الاستئناف بفرنسا، والوكلاء العامون للملك لديها)، بلاغا بتاريخ 02/03/2017 في مواجهة الاتهامات المتزايدة لعمل القضاء من طرف بعض الفاعلين السياسيين، ذكروا فيه بأن للقضاة الحق في البحت عن الحقيقة حسب قواعد المسطرة الجنائية والقانون الجنائي بكل تجرد واستقلالية، وأن احترام القضاء يتأسس على الثقة التي ينبغي أن يضعها كل مواطن في المؤسسات الدستورية لبلده. ولأنها مبادئ كونية تردد نفس المعنى لدى رئيس نادي قضاة مصر حين شدد على ( أنه لا يمكن ولن يحدث أن يصدر القضاة الأحكام القضائية تحت ضغط شعبى ومظاهرات وهتافات، لافتا إلى أن هذا الأمر يهدد دولة القانون واستمراره يعنى هدمها، خاصة أن دولة القانون من مقوماتها الأساسية احترام القضاء وأحكامه، ودعم استقلال القضاء، مؤكدا ضرورة أن تتوقف هذه المظاهر، لإعطاء القاضي فرصة لأن يعمل ويفكر في هدوء. وأن القاضي لا علاقة له بالسياسية، ولا يتدخل أحد في عمله، ويتجرد من أي مشاعر شخصية حين ينظر القضايا،) ولعراقة نظامها الديمقراطي، فقد توفقت كثيرا المحكمة العليا الهندية في تقديم حل قضائي مبدئي يرسخ الحرية في النقد المسؤول للأحكام القضائية حيث اعتبرت في دعوى P.N. Duda v. P. Shiv Shanker [1988 (3) SCC 167 : ( أن جهاز إدارة العدالة والقضاة بصفة عامة يخضعون لرقابة ونقد الرأي العام. كما ويخضع القضاة للمساءلة، وهي مساءلة تتم من خلال ضمائرهم، واليمين الذي أدوه ليتولوا مناصبهم. وهذا يلزمهم بالدفاع عن الدستور والقوانين دون خوف أو تفضيل. وبالتالي يجب على القضاة أن يقوموا بواجباتهم وفق ما ترشدهم إليه ضمائرهم. ورغم خضوعهم في ذلك لمساءلة الرأي العام، إلا أن أي انتقاد للنظام القضائي أو القضاة من شأنه أن يعرقل إقامة العدل، أو يضعف الإيمان بالنهج الموضوعي للقضاة، أو يضع إدارة العدالة في موضع السخرية، لا يجب أن يُسمح به. ومثل هذه المحاولات هي التي تتم مواجهتها بالإجراءات المعروفة بإزدراء المحكمة ، ولكن انتقاد الأحكام يظل جائزاً ومشروعا. لا ينبغي أن يمتد نقد الأحكام القضائية لأن يعزى إلى دوافع القضاة، بخلاف تطبيق القانون، فهذا من شأنه أن يجلب سمعة سيئة لإدارة العدالة. إن الإيمان في إدارة العدالة هو أحد الركائز التي تعمل على تشغيل وإستمرار المؤسسة الديمقراطية. ينبغي في السوق الحرة للأفكار، أن يكون انتقاد النظام القضائي أو انتقاد القضاة أنفسهم موضع ترحيب، طالما أن هذا الانتقاد لا يضعف أو يعيق إدارة العدالة. وهذه هي الطريقة التي ينبغي للمحاكم أن تمارس بها الصلاحيات المخولة لها لمعاقبة شخص ما على ازدراء المحكمة، سواء أكان ذلك من تلقاء نفسها، أو بناء على طلب من خصم أو محام. ولذلك، ففي الديمقراطيات فإن القضاة والمحاكم على حد سواء يتعرضون للنقد، وإذا كان النقد مؤسسا على حجة معقولة، أو نقد بلغة محترمة ومقدم باعتدال ضد أي عمل قضائي، بإعتباره مخالفا للقانون أو للصالح العام، فإنه لا يجوز لأي محكمة أن تتعامل مع ذلك النقد باعتباره ازدراء محكمة.” وعلى الإجمال يبدو أننا في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى عمل جدي، بيداغوجي، تواصلي لإعادة بناء مفهوم احترام العدالة في وعي الرأي العام، وتبسيط شرح ميكانيزمات إصدار الأحكام التي تستأثر بالاهتمام، حتى لا يترك فريسة للشعبوية أو ضحية للأوهام. حكيم الوردي