هذه الحلقات الرمضانية هي تأملات وقراءة أولية لبعض جوانب حراك الريف، وهي مستوحاة من نبض وزخم الحراك الذي حظيت بفرصة ملاحظة وتتبع بعض لحظاته، والإصغاء الهادئ إلى إيقاعات هزاته وارتداداتها، ونقل شهادات حية من قلب الريف لشباب شاركوا أو تعاطفوا مع الحراك. أزمة هوية أم أزمة فهم؟ لم يكن مفهوم الوطن والوطنية يوما محل نقاش عام مثلما هو عليه اليوم في المغرب، خصوصا بعد حراك الريف، تضخُّم الجدل حول حمل الرايات وحول مفهوم المواطنة والهوية المغربية، يثير الكثير من القلق، وبالخصوص عبر انتشار الثنائيات المانيكيانية العنيفة: الوحدة/الانقسام، الوطني/الانفصالي، الولاء/الخيانة، السلم/الفتنة... هذا ما يجسد الإخفاق المرير في إبداع العيش المشترك مع وبهويات متعددة. إن قوة الوطن في اختلافه وتنوعه، فلا يمكن أن تتشكل وحدة وطنية حقيقية بدون الاعتراف بالتنوع والتعدد، ولا يمكن للتعدد أن يتطور بدون وجود ميثاق اجتماعي جامع لكل المغاربة. الموضوع يسائل في جزء منه الذاكرة الجماعية كرهان سياسي يخفي صراعا حادا على مستوى الشرعيات التاريخية والهوياتية الرمزية بين ما هو مركزي "وطني" (العلم المغربي) وما هو جهوي محلي (علم الجمهورية الريفية) وبين ما هو فوق دولاتي (علم تمازغا)، وفي الغالب يحتكر البعد المركزي "الوطنية" ويقصى ما غيره من الأبعاد. ونعتقد أن كل تواريخ الهامش وكل الهويات الجهوية والإثنية لها الحق في التعبير عن نفسها لأنها جزء لا يتجزأ من الهوية الجامعة للوطن. وعلم الجمهورية إرث تاريخي لكل المغاربة على اعتبار أن الجمهورية تأسست من طرف مغاربة على أرض المغرب وتم تقويضها من طرف القوتين الاستعماريتين اللتين كان يرزح تحتهما المغرب. وقد أجاب خالد البركة، المعتقل على خلفية حراك الريف، المحكمة عن سؤال حول رفعه للعلم قائلا: "سأوضح لك فقط.. ذلك العلم ليس علم جمهورية الريف، بل علم المقاومة ضد الاستعمارين الاسباني والفرنسي، (...) أنا لم أرفعه، ولست ضد رفعه لأنه يمثل التاريخ الذي لم يلقنونه لنا في المدارس". وقال أحد نشطاء الحراك بالعروي: "أفتخر بحمل هذه الراية، إنها راية عبد الكريم الخطابي، إنها راية أجدادنا، إنه إرث ثقافي وتاريخي اعتز بها. في إسبانيا يتواجد 17 علما خاصا بكل إقليم له حكم ذاتي، في كل بلدية يوجد علم المنطقة مع علم إسبانيا وعلم الاتحاد الأوروبي ولا توجد أية مشكلة، العلم أصبح واقعا، لماذا يريدون منعه، المركز لا يهمه العلم بقدر ما يهمه افتقاد احتكار المشروعية التاريخية". وثمة اتفاق بين شباب الحراك على أن علم الريف إرث تاريخي وهوياتي محلي وحتى وطني، ولا يمكن بتاتا التنكر له وحرمان الناس من حمله ورفعه. أما بالنسبة لعلم تمازغا فلا شيء يمنع أي فرد من أن يعتز بهوية رمزية معنوية عابرة للجغرافيا بشرط أن لا تسعى إلى احتواء الخصوصيات المحلية، وأن يكون الولاء للوطن فوق كل الانتماءات العابرة للأوطان. ولا بد هنا من التوقف للتمعن والتأمل في كون أن بعض شباب الحراك هم في أصولهم من مناطق سوس والدار البيضاء والقنيطرة وبني ملال ووجدة... ولدوا و/أو عاشوا في الريف لمدة طويلة، وليس لديهم أي اضطراب في انتمائهم الهوياتي؛ فهم يعتزون بكونهم مغاربة كما يعتزون بكونهم "ريافة"، بحيث إنهم مندمجون في المجتمع المحلي ويتحدثون اللهجة الريفية بطلاقة وأريحية. وهذا يطرح أكثر من سؤال حول بعض الطروحات الهوياتية الحصرية الانغلاقية التي تحاول تثبيت انتماءات الأفراد في قالب واحد من دون أن تخضع لتحولات الزمن والمكان، وكأنها إرث جاهز وبنية مغلقة، في حين إنها بناء اجتماعي متحول مستمر ومنفتح ومتعدد الأبعاد. يقول "ن. ش" الذي هو من أصول بيضاوية: "لقد جاء والدي إلى مدينة الحسيمة منذ سنوات عدة للعمل هنا، وولدت في هذه المدينة، لم أجد أية صعوبة، لقد اندمجت بسرعة مع أصدقائي وأصبحت أجيد تكلم اللهجة الريفية مثلهم، السر موجود في كلمة الثقة، هم شديدو الحذر في البداية ولكن ما أن تكسب ثقتهم حتى يجعلوك واحدا منهم ويقفون إلى جانبك عند الحاجة، لم أجد أي تمييز من قبلهم إزائي. ما يحدث في المدينة يعنيني كمواطن مغربي وكريفي، لا أرضى الحكرة والظلم. وأنا فخور بأني أشارك في الحراك رفقة أصدقائي وأرفع الشعارات مثلهم". من غير المفهوم أن سؤال الوطنية والانفصال في ارتباطه بالرايات لا يثار إلا حين يتعلق الأمر باحتجاجات الريف، وكأن أهالي الريف دائما ملزمون بأن يثبتوا مغربيتهم وولاءهم للوطن. العديد من التظاهرات النقابية والسياسية التي عرفها المغرب لم تكن ترفع فيها الراية المغربية، السلفيون المغاربة في تظاهراتهم لا يرفعون العلم المغربي وإنما يرفعون راية سوداء كتبت عليها عبارة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، الأولتراس يرفعون رايات فرقهم في الملاعب والطلبة الجامعيون أيضا لا يرفعون الأعلام المغربية في تظاهراتهم، نشطاء حركة 20 فبراير كانوا يرفعون رايتهم، ومناضلو اليسار الجذري يرفع بعضهم رايات تشي غيفارا، فهل كل هؤلاء انفصاليون؟ ولماذا لم تتم إثارة قيم الوطنية إلا حين تعلق الأمر بالذات برفع علم الريف؟ لقد انتقد بعض شباب الحراك الشعار الرئيسي لمسيرة 18 ماي 2017: "لسنا انفصاليين"، وكان من الممكن تغييره لتكون له حمولة أخرى، لأنه في نظرهم ما كان يجب أًصلا أن يؤكدوا أنهم ليسوا انفصاليين وهم ليسوا مطالبين بذلك، وكان على الذين ادعوا ذلك أن يأتوا بحججهم وإثباتاتهم ولا حاجة لأن يثبت المواطن أنه وطني، ومن يفتقد الوطنية داخله سيعجز عن رؤيتها في الآخرين، والوطنية الحقة لا تقاس بالأعلام والأقوال، بل بالأفعال وخدمة الوطن والصالح العام. يقول "ك.م" وهو في حالة انفعال: "نحن جزء من هذا الوطن رغما عنكم ولم نأت من المريخ، لسنا مجبرين على إثبات وطنيتنا لأحد، توقفوا عن الحديث عن الحراك واستمعوا لنا للحظة، لا نريد إلا أن نعيش بكرامة ". من سخرية الأقدار أن نعت أهالي الريف بالانفصاليين جاء في الوقت الذي تحقق لأول مرة اندماج رمزي مهم للريف في البوتقة الوطنية، وكمثال على ذلك: حضور أكبر عدد من لاعبي كرة القدم من أصول ريفية في الفريق الوطني لكرة القدم المؤهل إلى كأس العالم، وكون رئيس مجلس المستشارين، والأمين العام لأحد الأحزاب الرئيسية في المشهد السياسي ينتميان لمنطقة الريف، بل حتى الأمين العام لأكبر تنظيم إسلامي معارض ينتمي للريف. ولا ننسى أن الحراك حرص أشد الحرص على أن يكون خطابه وتكون رسائله موجهة إلى كل المغاربة، لهذا فمعظم الشعارات التي رفعت كانت بالدارجة العربية وباللغة العربية حتى يتحقق أكبر قدر من التواصل مع المواطنين في كل ربوع الوطن. محمد سعدي / أستاذ حقوق الإنسان والعلوم السياسية بجامعة محمد الأول بوجدة