هذه الحلقات الرمضانية هي تأملات وقراءة أولية لبعض جوانب حراك الريف، وهي مستوحاة من نبض وزخم الحراك الذي حظيت بفرصة ملاحظة وتتبع بعض لحظاته، والإصغاء الهادئ إلى إيقاعات هزاته وارتداداتها، ونقل شهادات حية من قلب الريف لشباب شاركوا أو تعاطفوا مع الحراك. الزفزافي: ولادة استثنائية في زمن العقم! انتبه ناصر الزفزافي بشكل ذكي للبنيات النفسية التي تطبع الريفيين وتجعلهم "لا يحبون أن يكونوا زعماء ولكن يرفضون أيضا من يريد أن يمارس عليهم الزعامة"، فهم يعشقون الاستقلالية ويرفضون من يمارس عليهم الوصاية والزعاماتية ومن يرغب أمامهم في البروز والشهرة واحتلال المواقع، وينزعون بشكل قوي نحو ثقافة مساواة لا يكون فيها أي امتياز لأحد على الآخر في المعاملة مهما كان شأنه ومكانته (يستثنى كبار السن والنساء من هذه الثقافة حيث يمنح الإنسان بالريف لهم مكانة تفضيلية مرتبطة بالتوقير والاحترام). لهذا كان ناصر حريصا أشد الحرص على أن يظهر كنقيض للبطل (Antihero). ورغم أنه كان يتوفر على بعض مقومات الزعيم (الشجاعة، قوة الخطاب، الإصرار على التحدي، ...)، إلا أنه كان يتصرف كإنسان بسيط وشفاف لا يحمل أية مفاتيح سحرية ولا يتفرد بأية صفات خارقة ولا مزايا فائقة، يفضل رؤية الواقع والأشياء بالنظارات الشفافة وليس بالنظارات الشمسية السوداء أو داكنة اللون؛ لذا نسف الحواجز بينه وبين الشباب وأصبح جديرا بالثقة وسط الناس (في العادة لا يضع النظارات والمرات القليلة التي يكون فيها بنظارات شفافة، فإنه يبدو فيها وكأنه لا يلبس أية نظارات ولم يعرف عنه لباسه لنظارات شمسية سوداء). حين يكون واقفا يتحاور معك بهدوء، وبغير وعي منه، بحركات يديه المتكررة يحاول أن يلامسك بأنامل يده كتعبير عن انفتاح الشخصية والدفء الإنساني. من عمق الحراك انبعث وانطلق؛ يتعلم ويأخذ العبر ويراكم تجربته ويشيد رصيده الرمزي بهدوء، توارى بذكاء وخفة تاركا الأحداث والوقائع وقوة الفعل تصنع كارزميته التلقائية لتكتسح صورته الفضاء العام وتبتلع فراغاته وتحرق كل أبطال الورق بالريف. أسلوب لباسه البسيط يوحي بشخصية تجمع بين الجدية والروح الشبابية، لم يكن متصنعا في لغته ونبرة صوته وحركاته وقسمات وجهه، الصدق والثقة اللذين يوحي بهما للناس كانا مفتاح السر الوحيد بإجماع كل الشباب، فضلا عن أنه كان صريحا؛ فهو "يتحدث بشكل مباشر بلا التواء وكلامه ليس فيه نفاق أو زواق". وبهذا كله تحول في ظرف قياسي إلى أيقونة يهتف باسمه معظم شباب الريف. حركات يده المتكررة خلال أخذه الكلمة، انفعاله، طريقة جلوسه، تحكمه في ما هو حوله، شخصيته الاقتحامية والصدامية أحيانا وتموقعه الالتحامي في الجموع العامة ووسط المسيرات والتجمعات حيث كان يحرص على عدم وضع مسافة بينه وبين الآخرين وعدم أخذه الكلمة في بداية الجموع العامة، ومعاملته ككل المتدخلين دون أي امتياز، كل هذا جعل منه نقيضا وبديلا لكل السياقات الزعاماتية المألوفة بالمشهد السياسي المغربي. لهذا كان يردد باستمرار أنه ليس زعيما ولا قائدا ولا أمغارا، وأنه "لا يساوي حتى نعل مولاي محند" (نَشْ أُتِوْضَخْ حَتَّ غَا تْشَنْكْلاَ مُولاَيْ مُحَنْدْ)، وأن "الحراك ليس ماركة مسجلة باسم شخص" و"طز في القيادة وطز في الإمارة". من فرط قوة الإلهام والنفوذ التي كانت لشخصيته على الشباب، بدأ بعض منتقديه في الريف وفي وسائل الإعلام يتحدثون عن "خضوع الشباب غير العادي لناصر الزفزافي"، كما وصفوا شباب الحراك ب"خرفان" و"عبيد" و"مريدي" "الزعيم الزفزافي". وذهب أحد نشطاء الحراك بديار المهجر حد تشبيه ناصر الزفزافي مجازا ب"المسيح المخلص"، لكن رد الزفزافي كان واضحا وقويا، فخلال الجمع العام بمقهى ميرامار في أبريل 2017، ناصر قالها بالحرف الواحد، قال: "لن أصل ولو إلى نعل مولاي موحند فبالأحرى أن أصل إلى مولاي موحند، مولاي موحند أكبر منا جميعا (...) ناصر لا يعبده أحد، ناصر ليس إلاها، ناصر إنسان مقهور ومطحون هو أيضا عاش الويلات وخرج مع إخوانه هنا في الريف. كم من مرة قلت (...) كم من مرة سأشرح ذلك، أنا لست قائدا أنا لست زعيما (...) أنا لا أقبل أن أكون زعيما (...) على من تريدون أن أكون زعيما؟ الريفيون لا يقبلون الزعامة ولا تمارس عليهم الزعامة". متلازمة نفور أهل الريف من الزعاماتية ومن التسلطية اسوقفتني وأنا أستمع لأحد الشبان الزفزافيين الذي كان غاضبا بشدة من ناصر بعد النجاح المبهر لمسيرة "لسنا انفصاليين" يوم 18 ماي 2017؛ وذلك بسبب الطريقة السينمائية التي دخل بها إلى ساحة الشهداء: "انظر (كان الشاب يريني فيديو على هاتفه الذكي) انظر الإخراج زيرو، انظر كيف يتمشى بخيلاء وسط حراس أمن متكبرين بوجوه باردة وقمصان سود، مشهد لا يليق بصورة الزفزافي، ليس هذا هو الزفزافي الذي نعرفه ليست هذه عيونه، في هذا اليوم تغير فيه شيء ما، أنا أعرف ما يحدث، إنه مفعول شعار: كلنا الزفزافي". "كان يخاف من الشهرة، حين يسمع أي إطراء أو هتاف جماهيري باسمه يخفض تلقائيا عينيه ويخفض قليلا رأسه تواضعا واحتراما للجمهور، وكأنه يقول لا قائد إلا الجماهير ولا زعيم إلا الجماهير، إنه أملنا ونخاف أن نفقده أو أن يصبح مثل الآخرين ونفقد معه كل شيء". وفي الواقع صورة دخول الزفزافي إلى الساحة كانت إيذانا بدخول الحراك مرحلة التمكين، وهذا ما ظهر واضحا في الثقة القوية بالنفس التي ظهر بها ناصر الزفزافي. وجد الكثير من الشباب بالريف في شخصية الزفزافي صورة بطل حقيقي من لحم ودم وليس سوبرمان يهبط أو يتم قذفه بالمظلة من السماء، وتشبثوا به لأنه لم يدّع البطولة ولم يسع من أجل الزعامة. "ع. س"، الفتى في حي مورو فييخو الذي لا يتجاوز 16 عاما والذي يشارك في الحراك منذ بداياته، حين سألناه عن سبب حضوره المستمر وسط المسيرات كان رده: "أنا لا أعير اهتماما لأحد ولا لأي شيء، لا يهمني غير الزفزافي، لقد أعاد لي الاعتبار لقد توقف أمامي شخصيا وتحدث معي وضحك معي واستمع إلي، إنه رجل حقيقي له قلب (غَاسْ أُورْ)، صادق ونزيه (سّتْرِيكْتْ أُذَكَسْ بُ إِيخَاوِضَنْ) عكس الآخرين الذين لا نشاهدهم إلا في التلفاز والأنترنت ولا نفهم ما يقولون". حتى النزعة الاندفاعية والانفعالية لدى أيقونة الحراك، التي كانت محل انتقادات عدة حتى من داخل الحراك نفسه، يرى فيها الكثير من الشباب نوعا من التعبير الصادق عن حالة اليأس والسخط والغضب التي تعتريهم أمام انسداد الآفاق أمامهم، فيرددون باستمرار: "لا بد أن ينفعل، ناصر متفان ويحمل همنا وهم الريف (بَسيِّفْ أَذِعَصَّبْ، ناَصاَ ذاَكْسْ أَمْنُوسْ نَغْ ذاَ أَمْنُوسْ ناَريِفْ). قلة من الشباب الذين عرفوا ناصر عن قرب وحضروا معه الكثير من المحطات النضالية يعيبون عليه كثيرا ما يسمونه "عدم القابلية لتقبل والاستماع للرأي الآخر وأخذه بعين الاعتبار"، و"أنه يفكر ويتصرف في كثير من الأحيان بمنطق الحدود القصوى ولا يترك هوامش ومساحات وخيارات أخرى أو وسطى". محمد سعدي / أستاذ حقوق الإنسان والعلوم السياسية بجامعة محمد الأول بوجدة