في ذلك الصباح الذي قرر فيه الطلبة القاعديين بجامعة محمد بن عبد الله بفاس الخروج في تظاهرة عارمة يوم 20 يناير 1988، لما كان يوحي به هذا التاريخ الذي امتزج فيه الدم الفسطيني مع الدم المغربي إبان انتفاضة يناير المجيدة سنة 1984 ، استجاب لها الطلبة بكثافة معهودة نظرا للقوة التي كان يتمتع بها هذا الفصيل الذي يشرفني كثيرا أنني كنت أنذاك ناطقا رسميا باسمه، فبمجرد ما أعلنتُ من مقهى كلية العلوم الإنسانية بفاس انطلاق التظاهرة هبت الجماهير الطلابية بحماس في الوقت الذي كانت فيه جنبات الحرم الجامعي مطوقا تماما بمخلف القوى الأمنية التي كانت مصممة على قمع التظاهرة. أتذكر أن الاتفاق الذي حصل بين القاعديين هو أن نكون نحن قيادتهم في واجهة هذه التظاهرة ، مهما كانت الظروف، ليس خلفها أو في وسطها، وأن يصمد الجميع مع الطلبة حتى آخر رمق، ذلك ما حدث بالضبط، واندلعت مواجهات عنيفة بين الطلبة وقوى القمع استمرت لساعات تمكن فيه الطلبة من استعادة زمام المبادرة قبل أن يجيش القمع بعتاد إضافي كان ضخما معززا بالرصاص الحي، وبدأوا فعلا يطلقون عيارات نارية، ونحن كنا ما زلنا نفتح الحلقيات ونطالب الطلبة بالصمود والمواجهة، وكان القاعديين متواجدين في الساحة دون أن يسجل انسحاب لأي واحد منهم. ويسجل للتاريخ الصمود الرائع للطالبات اللواتي كن يزغردن للتعبير عن بسالة الصمود الذي تبديه الجماهير الطلابية في كل كليات الجامعة بما فيها كلية الشريعة. بعدما تدخل القمع بضراوة كعادته واقتحم الحرم الجامعي ظلت التظاهرة النسائية بالحي الجامعي للطالبات مستمرة في الشعارات وهن يطفن وسط الحي في نظام وانتظام، وهنا حدثت الفاجعة الأولى لما سدد أحد رجال الأمن رصاصة استقرت في رأس الشهيدة زبيدة خليفة التي التقطها من وسط مائت من الطالبات عن سبق إصرار وترصد نظرا لمعرفتهم المسبقة بكفاحية هذه الطالبة المناضلة، التي كانت مثالا حيا للمرأة المناضلة والصامدة والمشبعة بقيم عالية وأخلاقية، نتشرف أن يكون بيننا مثل هذا المعدن الغالي الذي فقدناها وتحسرنا عليها يوم سقطت شهيدة في ساحة المعركة. رفيقاتها ورفيقها لم يستوعبوا هول الصدمة وهن يرون فاجعة حقيقية أمامهم، حملوها على الأكتاف وهي تنزف دما في مسيرة صاخبة توجهت نحو وسط المدينة قبل أن يتدخل القمع مرة أخرى لتفريق المتظاهرين والسيطرة على جثة الشهيدة في حي الأطلس بفاس. الفاجعة الثانية حدثت بحي الطلبة لما اقتحم القمع هذه المؤسسة بينما كان عدد كبير من الطلبة مختبئين ولاجئين داخله، اقتحموه بعنف بعد سحلوا كل من لاقوه في الطريق بدون تمييز بما فيه عاملات وعمال الحي لم يسلموا من البطش، كنا نحن مجموعة من القاعديين التجأن إلى غرفة بالطابق الرابع وأحكمنا إغلاق الباب بالطاولات والكراسي في محاولة للإفلات من القمع، شاهدنا ونحن نعاين فصول التدخل الهمجي طالبا وهو يحاول النجاة من قبضة القمع ولم يتردد في رمي نفسه من الطابق الثاني في لحظة ما سقط الضحية من مسافة عالية ولم يكن هذا الطالب سوى عادل الأجراوي الذي كان الشهيد الثاني بعد زبيدة. وبينما نحن نتجرع المنظر الأليم لسقوط الشهيد عادل الأجراوي كنا نسمع الرصاص يلعلع في سماح الحرم الجامعي، ونسمع صراخ يتعالى بين أجنحة الحي الجامعي من شدة البطش الذي كان يلاقيه الطلبة الذي كان تكسر عليهم أبواب حجراتهم، في هذه اللحظة أدركنا أنه ليس سوى ثوان أو دقائق سيلتحقون بالحجرة التي نختبئ فيها بدورنا في الطابق الرابع من نفس الحي. فبعد أن اقتنع الجميع أن اقتحام الغرفة أمر لا مفر منه، أتذكر رفيقا عزيزا أوحى لي بأن اختبأ أنا في الدولاب placard، لأنني كنت المطلوب رقم واحد من طرف الأمن، ويقوم بإحكام إغلاقه من الخارج، للتحايل على المقتحمين لعل وعسى أتمكن من الافلات من الاعتقال، وهو ما حدث فعلا حيث بعد هنيهة تم تهشيم باب الحجرة وقاموا بتعنيف كل المناضلين داخله واعتقالهم جميعا بينما كنت منزويا داخل الدولاب كاتما للأنفاس حتى لا أثير انتباههم، وما أن يقنت بأنهم مسحوا الأرض واعتقلوا من اعتقلوا وقتلوا من قتلوا دفعت باب البلاكارد محدثا صوتا أزعج عاملات النظافة اللواتي هرعن إلى المكان لمعرفة ماذا حدث فإذا بهن يستغربن كيف أفلتت من قبضة الأمن وطالبت منهن التزام الصمت، وفعلا تمكنت من الإفلات من قبضة الأمن بمساعدة أحد عمال الحي وبأعجوبة، على الأقل أنني أجلت الاعتقال إلى حين، فيما باقي المعتقلين الذين اعتقلوا من الغرفة المذكورة تم تسريحهم جميعا لأنهم لم يكونوا من المطلوبين وقتئذ من طرف الأمن. كان يوما حزينا يذكرني بلحظات لا تنسى حفرت عميقا في ذاكرتي جرحا غائرا يستعصي عليّ أن أتناساه ما حييت، لا سيما وأن وجه تلك الشابة التي كانت تفيض حيوية وقد قتلها الجبناء بطلقة غادرة استهدفتها عن نية وقصد بغية تصفيتها والحد من عنفوان معدن أنجبته مدينة البهاليل حيث مسقط رأسها وهناك ترعرعت في وسط عائلي فقير انعكس على مسارها التعليمي منذ أن كانت تلميذة بنفس المدينة التي تشبعت مبكرا من الفكر التقدمي ودخلت جامعة محمد بن عبد الله بفاس وهي في كامل نضجها الفكري والنقابي أهلها لأن تحتل مكانة مرموقة وسط الطالبات اللواتي عشقن روحها الثوري وبشاشتها المعهودة. فنم يا عزيزتي قرير العين فالتراب أرحم من لعنة زمن لوثته الأيادي السوداء، بروحك الثورية وروح شهداءنا نستهدي الطريق من أجل غد أفضل، لقد رحّلوك قسرا ليعيشوا أبد الدهر في حضيض الهوان والجبن، كان صمتك كلام ونظرتك موقف وفي بسمتك انتماء يزعج الكلاب اللاعقة لأحذية الجبناء ..وإن غيبوا جسدك فروحك وروح الأجراوي وكافة الشهداء ستظل حاضرة تقض مضجع المجرمين ..ليس لي سوى وعد أن أظل أتذكرك ، لم ولن أنسى.