رغم نشأتي في أسرة يمارس أغلب أفرادها أعمالاً تجارية ومن بينها (تجارة التهريب)، ورغم تأثري بعاداتهم كعدم الوثوق في رجال السلطة وأعوانها , فمهما أغدقت عليهم من عطايا لتجنب شرهم, ففي الأخير سيغدرون بك، ورغم قناعتي بأن الأفكار كالبضائع تبور بتجمدها وتروج بتعدديتها وتنوع مصادرها، وبأن هناك أفكارا كالسلع المرخصة تجيزها الدولة وتباركها وهناك أفكار تشوش عليها فتمنعها وتحجر عليها ... إلا أنني لم أتقن يومًا ممارسات البيع والشراء، ولا أجيد التحدث بلغة المال، بل لا أجد أية متعة فكرية في قراءة أدبيات المال والتجارة والاقتصاد، تلك التي تتسم بالجفاف المعاند لانطلاقات الروح، وتحتل الصفوف الأولى في معبد العقل الأداتي الممسك بتلابيب الوسائل والغايات، مسبحةً بالاستثمارات والأرباح! ... لكنني وجدتني منذ مدة استنكر وأستغرب من الطريقة التي تعالج به الدولة ظاهرة التهريب في منطقة الريف فبدأت الغوص في معادلة اقتصادية تتعلق ببعض هذه الأدبيات لأغراضٍ بحثية، لأتوقف طويلاً أمام بعض تحليلاتها، لاسيما ما يُعرف بتحليل المخاطرة (أو التكلفة) في مقابل العائد، وهو تحليل رياضي كمي يتولى تحديد تكلفة كل مخاطرة (مشروع أوصفقة أو برنامج)، ليتمكن من موازنة مجموع التكاليف مع مجموع العوائد المحتملة التي يمكن أن تنتج في النهاية. صحيح أنه تحليل اقتصادي علمي تحتويه أية دراسة جدوى للمشروعات العامة أو الخاصة، الكبرى أو الصغرى، لكن تطبيقاته السياسية والفردية تكشف بلا مواربة عن الوجه القبيح والمراوغ للعقل حين يطرح كل شيء في أسواق المال والمناصب والنخاسة السياسية، مستبيحًا كافة القيم التي كافحت البشرية من أجلها طويلاً، بما في ذلك قيمة الحياة. على سبيل المثال، تكلفة تعديل بنية سيارة بعد طرحها في الأسواق لتلافي عيب تصميمي ظهر بها وأودى بحياة البعض يفوق بكثير قيمة التعويضات التي يمكن أن تقضى بها المحاكم لأهالي الضحايا، ومن ثم يكون القرار الاقتصادي هو إبقاء السيارات التي تم بيعها على ما هي عليه، وليذهب ركابها إلى الجحيم. هذا ما حدث في السبعينات من القرن الماضي وعُرف باسم «حالة فورد بينتو», حيث أنتجت شركة فورد الأمريكية السيارة بينتو الصغيرة لمنافسة السيارات المستوردة، والتي اتضح بعد بيع 1.9 مليون سيارة منها وجود خطأ في تصميم خزان وقودها يسبب انفجاره في حالة الاصطدام من الخلف، الأمر الذي خلَّف عددًا من القتلى والمصابين، لكن الشركة امتنعت عن سحب السيارة من الأسواق وتعديلها، ولم تُذعن للأمر إلا بعد تدهور سمعتها محليًا ودوليًا أيضًا، تكلفة إنتاج أو استيراد لقاحات للأطفال خالية من المواد الحافظة الضارة كأملاح الزئبق، والتي تؤدي إلى إصابة الأطفال بمرض التوحد، تفوق عائدها ولو كان مجتمعًا مُعافًا، لاسيما في الدول النامية، فلا بأس من التضحية بالنسبة القابلة للإصابة. وأيضا تكلفة القضاء على ظاهرة تجارة التهريب التي تموج بها منطقتنا تفوق العائد المتوقع لأية حكومة مرحلية, إذ عليها من جهة أن توفر عملاً لجموع العاملين في هذا المجال، ومن جهة الاستغناء عن عوائد الغرامات الضخمة والرشاوي التي يستلبها رجال السلطة والجمارك من تجار التهريب والاستفادة من السلع المحجوزة, بالإضافة بمطالبة الدولة للتفاوض لاسترجاع المدينتين السليبتين (مليلية وسبتة), فلا بأس إذن من التضحية بالسلامة الصحية للمواطنين نتيجة المنتجات الغذائية المهربة, والتلاعب بأرزاق الفقراء. فكلنا نعلم الطريقة التي تتعامل بها الدولة لمكافحة التهريب في منطقة الريف فهي تتغاضى عمدا على تجار التهريب لفترة معينة تحت ذريعة أن هذا النوع من التهريب يعتبر معيشيا ويندرج ضمن إطار التوازنات المكروالاجتماعية وفي هاته الفترة يستفيد كل أعوانها المتواطئين (شرطة, درك وجمارك...) من عوائد الرشاوي التي يدفعها هؤلاء التجار, ثم تقوم بحملة الحجز الكلي تحت ذريعة بأن هاته السلع تشكل تهديدا للاقتصاد الوطني تفجع به الرأي العام بأنها تعمل من جهة, ومن جهة تغذي خزينة الجمارك بالسلع المحجوزة وبالغرامات الباهضة التي يدفعونها تجار التهريب, فنجد أن الدولة هي التي تسفيد من عوائد هاته التجارة أكثر من التجار الذين يتحملون مشقة العمل ويعانون من المذلّة. وهذا ما شاهدته منذ فترة بأم عيني ولم يخبرني به أحد لشرطة أثناء مداهمتها لمتجر فيه سلع مهربة ... آلمني مشهد صاحب المتجر وهو يتشبث ببضاعته ويُلقي بجسده عليها مستميتًا في الدفاع عنها وكأنه يدافع عن أحد أبنائه! ... آلمتني محاولاته البائسة لإنقاذ سلعته التي تُمثل مصدر رزقه الوحيد في زمن ووطن يصعب الفرار منه وفي منطقة هشة اقتصاديا ويعتبر فيها التهريب مصدر رزق لأغلبية السكان... آلمتني صرخات الاستعطاف التي أطلقها دون جدوى، وتمزقت ملابسه وحجزت بضاعته في النهاية! ... لا شك أنه مُخالف، ولا شك أن الشرطة في هاته الحالة تطبق القانون ولا شك أن تطبيق القانون على المخالف أمرٌ محمود، ولكن ماذا عن الضمير هل يمكن أن يموت الضمير فلا يبقى منه شيء يهمس في أذن صاحبه؟ فألائك الذين فعلوا ذلك عادوا إلى بيوتهم مبتهجين غانمين، كما يعود الصيّادون محمّلين بصيد وفير. أتدري أمّهاتهم أوزوجاتهم ماذا يفعلون بين اللحظة التي يغادرون فيها البيت ولحظة عودتهم للجلوس أمام مائدة العشاء التي زينوها بصيدهم المتنوع؟ ماالذي يفكرون فيه ليلاً, أو حين يخلون إلى أنفسهم, حين يقتنصون تعب غيرهم ويسلبون أرزاق أطفال الفقراء ليهبونه لأطفالهم؟ هل ينامون ليلا هم أو من شاركوهم جريمتهم أو من أقروها قريرين الأعين؟ ..وهل يمكن أن يُقتلع الضمير من أسرة بأكملها, فلا تلومهم زوجاتهم أو أمهاتهم أو يلومهم أحدٌ من أهل بيتهم على ما اقترفوه؟ ليس سؤالي عن «سجلّهم العدليّ» ... أتساءل فقط هل لهؤلاء «سجل عائليّ»؟ فعلى خلفية قسوة المشهد تحت ذريعة تطبيق القانون, تذكّرت مفهوم (القانون) الذي فقد دلالته عند الجميع، شعبًا وحكومة, الذي لا يستشعر تردي الحالة الاقتصادية لجموع البائسين في هاته المنطقة, ولا تعرف عدالة التطبيق... تذكرت تواطؤ المسؤولين الجمركيين وفروعهم مع مافيات التهريب التي تنتشر بشكلٍ سرطاني..وعدم محاسبتهم, فالقانون عندنا.. أصبح كالبيوت الشعبية أو بيوت الفلاحين لا يقيم تحت سقفه إلا الغلابة الضعفاء .. بل إن القانون أصبح كسلاح إرهاب، لا يُطبق على أحد من المسؤولين إلا إذا رأت السلطة تطبيقه عليه .. إذا تحديت السلطة أو أغضبتها طُبق عليك القانون، وإذا كانت السلطة راضية عنك أعفتك من القانون. تذكرت أن القانون لا يتجزأ عند ذوي العقول, وان عدالته تعني الشمول, تذكرت شبابنا الضائع في منطقة تفتقر لأبسط مستلزمات العيش الكريم فأضحى ضحية المخدرات والمغامرة في البحار, ومن رحم ربي يلتجأ للمتاجرة في التهريب , تذكرت مدينتينا السليبتين اللتين باعهما السلطان العلوي اللّعوب مقابل دراجة هوائية, ولم يهتم أحد من المسؤولين بالتفاوض لاسترجاعهما فمنهما تتسرب السلع المهربة, والحق أننا بتذكرنا هذا لا نطرح موضوعا جديدا أو نعبث بأصابعنا في جرح ملتئم ليتدفق منه دما طازجا, بل الجرح في الحقيقة كان –ولازال- يعاني نزيفا يكاد يودي بحياة كل أبناء المنطقة . فالتهريب بالمغرب من الناحية القانونية يعتبرظاهرة تقع ضمن الاقتصاد غير الرسمي المخالف للنظام القانوني له تأثيرات سلبية ومباشرة على الاقتصاد الوطني وله علاقة بالجريمة المنظمة, إلا أنه أكثر حدة في منطقة الشمال بسبب الوضع الذي تعرفه المدينتان السليبتان سبتة ومليلية, وبحكم قرب المنطقة أيضا مع الحدود المغربية الجزائرية في الشرق, وبسبب هشاشة الوضعية الاقتصادية التي تعيشها المنطقة, وقد تم الانتقال من تهريب تقليدي معيشي إلى تهريب محترف له علاقة وطيدة بمختلف أشكال الجريمة المنظمة, تقوده شبكات محترفة متخصصة في أعمال التهريب, ويشكل التهريب المعيشي خطورة وتهديدا على صحة المواطنين, وهذا القطاع يعاني من العراقيل البيروقراطية, واستفحال الفساد والرشوة وتقديم تصريحات خاطئة في كمية السلع المصادرة, وتعقد الإجراءات الجمركية وعدم وضوح القوانين بخصوص هذا المجال..... الا أن الإشكال المطروح كيف يمكن معالجة إشكالية التهريب في المغرب ومنطقة الشمال على وجه الخصوص؟ لا يمكن الحديث عن أية إستراتيجية لمكافحة التهريب دون الاهتمام أولا بمطلب تحسين الظروف الاقتصادية للمنطقة, و ضرورة إيجاد بدائل اقتصادية للمهربين, كالقيام على حصر عدد المهربين, وإيجاد فرص عمل لهم داخل النسيج الاقتصادي الوطني, فهناك المهربين الصغار الذين يهربون السلع عن طريق مضاعفتهم للعبور عبر المنافذ الحدودية، و هناك الموزعين الذين يقومون بنقل هذه المواد المهربة وتوزيعها في كافة التراب الوطني للحد من هاته الظاهرة أو التقليص منها يجب إدماج هذه العناصر داخل النسيج الاقتصادي, عن طريق مساعدتهم على خلق مقاولات صغيرة تتعلق بنقل المواد الغذائية أو إدماجهم في قطاع السياحة باعتبار أن هذه الفئة من الممتهنين الصغار لتهريب السلع يمكنها أن تندمج بسرعة في أنشطة اقتصادية شرعية، ولذلك من أجل تسهيل هذه العملية يجب أن تعمل إدارة الجمارك بتنسيق مع وكالات تنمية أقاليم الشمال والجنوب والشرق, إضافة إلى المنظمات غير الحكومية من خلال جلب الاستثمارات إلى مناطق التهريب. إن من سلبيات الحملات المرتبطة بمحاربة التهريب أنها جاءت متسرعة وغير متحكمة، فكان الأجدر الاعتماد على مرحلة انتقالية يتم فيها إفهام وتوعية الناس المشتغلين في التهريب بخطورة هذه الظاهرة وانعكاساتها السلبية على المجتمع والاقتصاد الوطني وأنه سيتم وضع حد لها، ودعوتهم إلى استثمار أموالهم في مشاريع أخرى مشروعة وتشجيع القطاع الخاص لتولي الدور الرئيسي في الإنتاج والتصدير وتحديد أولويات الاستثمار واختيار المشاريع القابلة للتمويل والتي تعود بالنفع على ساكنة المنطقة التي تعيش على التهريب لكي تبعدهم عن تعاطي هذا النوع من التجارة والتفكير في الهجرة السرية نحو أوربا. فتطوير السياسة الكلية للاقتصاد للتحفيز في الإنتاج وتلافي التشريعات المعطلة وتحرير الأسعار، وترشيد الدعم وتحسين توزيع الدخل، كلها عوامل تظل لازمة لتحسين وتفعيل الأداء الاقتصادي بالإضافة إلى ذلك يجب تشجيع المستثمرين الأجانب، بإنشاء مشاريع تنموية كبرى في هذه المناطق الغارقة بالسلع الأجنبية المهربة وذلك بالقيام بحملة دعائية وإشهارية من أجل التعريف وإبراز مؤهلات المنطقة ، لكن ذلك لن يتأتى إلا بإيضاح السياسات الاقتصادية وتخفيض الضرائب ... غير أن الواقع العملي يظهر أن المعوقات الإدارية من بطء في الإجراءات والأساليب، وتعقد المساطر الشكلية والبيروقراطية تنفر المستثمرين الأجانب وأيضا المواطنين القاطنين بالمهجر. ولعل أهم اقتراح للحد من ظاهرة التهريب في المنطقة هو إعادة فتح ملف التفاوضي مع اسبانيا حول استرجاع سبتة ومليلية وذلك بنهج الدبلوماسية الواقعية كما هو معروف ومتعارف عليه، لقد مرّ زمن طويل على احتلال مدينتي سبتة ومليلية من طرف إسبانيا، وقد حان الوقت لتكثيف الجهود والتحاور من أجل استرجاع هاتين المدينتين المسلوبتين، وقد جعلنا هذه النقطة بالذات من بين الحلول السياسية، باعتبار سبتة ومليلية تستعملان كمعبر لإدخال السلع المهربة بطرق غير قانونية إلى المغرب، بل يعتبران بوابتين أساسيتين لدخول السلع المهربة بنسبة تصل إلى %95,وإقرار فتح الحدود بين الشقيقتين الجزائر والمغرب، من شأنه أن يدعم المبادلات التجارية المشروعة ويمتص نشاطات التهريب. تبقى هذه الاقتراحات على سبيل الاستئناس فقط, فكما ذكرنا سابقا فتحليل المخاطرة أمام العائد ينتج أن تكلفة القضاء على التهريب في المنطقة تفوق قدرة الدولة, ولا تقتصر هاته المعادلة الاقتصادية على التهريب فقط بل تطبقها الدولة على كافة المجالات, فمثلا تكلفة القضاء على الرشوة والسرقة في المؤسسات الحكومية، وعلى الدروس الخصوصية في مجال التعليم، وعلى سطوة رجال الشرطة ... إلخ، تفوق قدرة الحكومة على توفير وظائف ومرتبات آدمية ونظام أمني بديل! ... وفضلاً عن ذلك فإن تكلفة التطوير الحقيقي للتعليم، والتطهير الفعلي لوسائل الإعلام، ومحاربة مهرجانات العُري والإباحية، ومنع تداول وتعاطي المخدرات ... إلخ، تفوق العائد الوطني المتمثل في ارتقاء الوعي وبناء ملكات النقد العقلي لدى المواطنين! وعلى الإجمال، تكلفة محاربة الفساد والقضاء عليه تفوق العوائد المتوقعة لأية حكومة على المدى القريب، فلا بأس إذن من الفساد، ولا بأس من رجال الدولة يربحون وساسة يستثمرون وشعب يُفقّر وشباب يُخدّر ويُهجّر ووطن ينهار، طالما كان انهياره بعد حين.