إن الحديث عن الانتخابات لا يمكن أن يكون بمعزل عن المعطى الذاتي و الشخصي لهذه المسألة، كونها ممارسة و تمرين ميداني لا بد للفاعل السياسي أن يمر عبرها لسبر غور كنه العملية السياسية و ومراحلها و كما هي "أي الانتخابات" محطة تعتبر أساسية في بناء الشخصية السياسية من أجل المشاركة في تدبير الشأن التنموي و السياسي للمجتمع الذي ينتمي إليه .وهي أيضا وسيلة لترجمة قناعات حزبية معينة و إن كانت متعددة المشارب و الاتجاهات الإيديولوجية ،فإنها تختلف حسب كل حزب حول مناهجها التواصلية من أجل إقناع الناخبين و بالتالي الحصول على أكبر نسبة تصويت لصالحه عبر صناديق الاقتراع. و هنا لا بد من التطرق للوسائل التي يستعملها الحزب السياسي دون التأكيد على شرعيتها في إطار تنافس شريف تحفه الأخلاق السياسية و الروح الرياضية حين تحصل الهزيمة و منها ما ينص عليه القانون المنظم للإنتخابات بالمغرب و الذي يحضر على المرشحين استعمال الرموز الدينية أو الوطنية ، بالإضافة إلى استغلال المال الحرام و غيرها . و لعل المناسبة –اليوم- تفرض علينا التطرق لانتخابات الرابع من شتنبر الجاري و المتعلق بأعضاء المجالس الجماعية و الجهوية، و هي مناسبة جيدة لطرح معالم هذه الانتخابات التي جاءت بعد إصلاحات دستورية و سياسية همت جل مناحي حياة المجتمع المغربي، و التي اعتبرت محطة مهمة، علق عليها المغاربة أمالا كبيرة من أجل تكريس مبادئ الإصلاح على أرض الواقع و ذلك بتفعيل مضامين الدستور و تحقيق الديمقراطية التشاركية و تشبيب النخب السياسية في المجالس الجماعية و الجهوية و محاربة الفساد .. فمع كل الخطابات الرسمية و رسائل بعض مكونات المجتمع المدني بضرورة التحسيس بأهمية الإنتخابات في صناعة قرار سياسي بطله الناخب المغربي و غايته دمقرطة الحياة العامة حتى تتحقق العدالة الإجتماعية التي تطمح إليها كل الفئات المجتمعية والطبقات المقهورة منها ، فقد ظل تجاوب المواطن المغربي مع مسألة التسجيل في اللوائح الإنتخابية ضعيفا و المساهمة الحزبية في الموضوع ذاته أضعف ، فكفاءة الأحزاب ظلت محدودة في التواصل مع الشباب الذين وصلوا سن التصويت على الإنخراط في التسجيل في اللاوائح الإنتخابية بالرغم من الإمكانات التي تتوفر عليها بعض الأحزاب الممثلة في الحكومة أو في المعارضة و لعل الرقم الأكبر الذي سجله حزب العدالة و التنمية يؤكد مدى نجاعة استراتيجيته في خلق قاعدة مكنته من الحصول على اكثر من مليون و نصف صوت في استحقاقات المجالس الجهوية و الجماعية و هو أمر أدركته هذه المؤسسة الحزبية بقوة بنيتها و انضباط مناضليها سواء على مستوى القيادة أو على مستوى القاعدة التي تشكلت في جلها على حطام بنيات الأحزاب الأخرى . و الأكيد أن هذه الخطوة لعبت دورا كبيرا في تشكيل كتلة ناخبة "إضافية" لصالح حزب العدالة و التنمية على اعتبارها كتلة ناخبة غير منخرطة حزبيا و لا مؤطرة سياسيا، لكن يمكن القول أنها كتلة انتخابية "ملتزمة أخلاقيا" إتجاه الحزب السياسي الذي ساعدها على المشاركة في الإنتخابات و بالتالي يمكنها أن تصبح نخبة فاعلة سياسيا بعد التأطير السياسي و الانضباط الحزبي . ومن هنا فإن مبدأ "التعاطف" الذي لا زال ينتهجه حزب العدالة و التنمية منذ التأسيس من أجل حشد الأصوات لصالح رمزه الفانوس لا يمكن اعتباره تصويتا لقناعات سياسية لناخب محكوم بإرادة البرنامج بقدر ماهو مرتبط بمشاعر "التعاطف الديني" التي قد تتأثر بعوامل مختلفة و لا يمكن الإعتماد على "هذا النوع من التصويت "بالتعاطف" في كل الأحوال و المراهنة عليه في تشكيل قاعدة شعبية تأتمر ببرنامج حزبي و توجه سياسي محدد . و هوالأمر الذي أعتبره في نظري المتواضع - و الذي لا يلزم أحدا غيري - تحايلا على الناخب الذي استحل اللعبة بدوره و استساغ لعب دور "الضحية المتعاطف" ،و هو سلوك سلبي يدفع بعض الأحزاب التي تخلفت في هذا النوع من "الاستقطاب" إلى استعمال أسرع السبل و أنجعها كونها تستغل أيضا ضعف ناخب آخر و هشاشة وضعيته الإقتصادية و الظرف الزمني الذي يعيشه حيث يتم شراء ذمته و تحفيزه عبر الوعود الكاذبة ، و إن كانت هذه الوسائل تظل غير مشروعة في استمالة الناخب إلا أنها ترفع من نسب الأصوات المشاركة في الإقتراع و تخدم "ديمقراطية الواجهة" . و هنا لا يمكن استثناء حزب الإسلاميين عن غيره من الأحزاب التي صاغت مسلسل "استغباء" الناخبين لزمن طويل ، بما عرفه مغرب ماقبل التعديل الدستوري الأخير في 2011 من ممارسات مشينة للمشهد السياسي ،حيث دأب المنتخبون من رؤساء الجماعات الترابية و غيرهم من استمالة المواطنين إما باسم السلطة أو باستغلال ما يدخل في اختصاصهم من وسائل النقل العمومي الخاصة بالجماعة و الموظفين و أعوان السلطة و ناهيك عن استغلال المجرمين و ذوي السوابق العدلية في الدعاية لهم و توزيع المنشورات و في ترهيب مرشحي الأحزاب الآخرى المتنافسة معهم داخل الدائرة الانتخابية ، ثم أن بعضهم كان يلجأ إلى "دغدغة " المشاعر الدينية و الوطنية للمواطنين كالآيات القرآنية و الشعارات الوطنية من أجل التأثير على الناخبين للتصويت لصالحهم. و لقد كانت هذه الإنتخابات الجماعية و الجهوية لرابع شتنبر 2015 فرصة حقيقية للقطع مع ما عرفه زمن ما قبل الإصلاحات الدستورية و السياسية التي انخرط فيها المغرب من فساد انتخابي ، و إن كان من غير المجحف إغفال ما تم تنفيذه على مستوى اللوائح الإنتخابية من مشاركة للمرأة و الشباب و هو تثبيت لمضامين الدستور التي جاءت بمبدأ الديمقراطية التشاركية و دعم مشاركة الشباب و المرأة في المجالس الجماعية و الجهوية، إلا أنه لا بد من التأكيد على أن نسبة تغيير الوجوه المغضوب عليها من طرف الشعب كان ضعيفا كون ما واكب تجميع المرشحين و المرشحات كان مدعاة لفضح البنيات الحزبية التي تفتقر في مجملها إلى الديمقراطية الداخلية و تعتمد على الأعيان في إعطاء تزكياتها للترشح، بالإضافة إلى انعدام التواصل مع الناخبين مما جعل الأحزاب السياسية تدخل غمار الإنتخابات ببرامج تفتقر إلى رؤية استراتيجية لتدبير المجالس الجماعية و الجهوية، في الوقت الذي عرفت الحملات الإنتخابية انحدار أخلاقي على مستوى الخطابات السياسية لزعماء الأحزاب و المرشحين وصل إلى حد السب و الشتم وتبادل الإتهامات بترويج المخدرات و بالإنتماء لتنظيمات إرهابية كداعش و غيرها، مما نتج عنه اصطدامات بين الأحزاب المتنافسة في مدن كثيرة ، مخلفة استياء لدى المواطن الذي كان له انتظارات كثيرة من أجل تحقيقها عبر هذه الإستحقاقات، و ما زاد الطين بلة أن هذه الإنتخابات ايضا كانت مسرحا لكل أشكال الفساد الإنتخابي الذي عرفته بلادنا قبل 2011 ، بل إن في بعض المدن لم يتورع المرشحون لإتيان ممارسات على مرآى و مسمع من السلطة التي تبنت حيادا سلبيا و لم تحرك ساكنا بالرغم من احتجاج مرشحي الأحزاب الأخرى المتنافسة و الأمثلة كثيرة على أشكال الفساد ووسائله التي تم رصدها من طرف المواطنين أو المرشحين عبر كاميرات هواتفهم الذكية . ومع هذه النتائج المحصل عليها، و المعروفة مسبقا من طرف الباحثين في المجال السياسي، كون الخريطة السياسية في بلادنا يصنعها مهندسون متميزون في صناعة التوازنات السياسية من أجل بلورة سياسات إقليمية تتجاوز حلم العامة بالتغيير، و هو ما يظهر مع صورة المنتخب الفائز و تهافته للوصول إلى كرسي الرئاسة بأي وسيلة كانت حتى بالتحالف مع الشيطان نفسه، و من تم تبقى دار لقمان على حالها، و يبقى حلمنا بانتخابات نزيهة تفرز نخب نزيهة بعيد المنال حتى و لو تم تغيير دستورنا بدستور الدولة الأكثر ديمقراطية في العالم لن ينتج سوى ما أنتجه دستور 2011 ، و يبقى الأمل و يستمر الحلم حتى بعد اغتصاب حلم التغيير...